منذ تاريخ خطابنا الذي رفعه الكونغرس الأخير بواسطة رئيسه إلى جلالتكم، فضلت الولايات المتحدة تبديل حكومتها بأخرى جديدة تتفق والدستور الذي أتشرف بإرفاق نُسخة منه مع هذا (..)
وأراضينا لا تتوفر على مناجم ذهب أو فضة، وهذا الشعب الفتي ما كاد يبرأ من خراب ودمار حرب طويلة، ولم يمهل حتى يكون ثروة ما عن طريق الزارعة أو التجارة… إلا أن أرضنا سخية وشعبنا صناعي، ولنا أن نمني أنفسنا بأننا سنتمكن تدريجيا من أن نصبح مفيدين لأصدقائنا.
وكان التشجيع الذي تفضلتم جلالتكم به على تجارتنا مع مملكتكم، والدقة التي راعيتموها في عقد المعاهدة معنا، والإجراءات المنصفة الكريمة التي اتخذت في قضية الكابتن «بروكتور»، كل هذه الأشياء تركت أثرا عميقا في الولايات المتحدة».
هذا مقتطف من رسالة الرئيس الأمريكي جورج واشنطن إلى السلطان محمد الثالث سنة 1789، سنة واحدة فقط قبل وفاة السلطان المغربي ومجيء ابنه المولى سليمان، الذي حافظت أمريكا على صداقته أيضا، رغم اضطراب أمواج البحر المتوسط والمحيط الأطلسي..
يونس جنوحي:
في فترة 1787، تاريخ بداية الاتصال بين الرئيس الأمريكي جورج واشنطن والمولى محمد الثالث، وصولا إلى سنة 1790، تاريخ وفاته ومجيء ابنه المولى سليمان إلى السلطة، كانت العلاقات المغربية الأمريكية تعرف تناغما كبيرا، جعل المغرب يدخل التاريخ، ليس باعتباره أول بلد يعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية على عهد المولى محمد الثالث، ولكن بحكم أن المغرب فعلا أول بلد طلبت منه أمريكا بعد تأسيسها أن يدعمها في الساحة الدولية لكي تؤسس الاقتصاد القوي الذي لا تزال تتربع على عرشه، إلى اليوم!
البحر الأبيض المتوسط هو قلب الزوبعة الكبيرة التي احتضنت الأحداث التاريخية التي نحن بصددها اليوم.
بدأ كل شيء عندما أراد جورج واشنطن، الرئيس الأمريكي الذي يدين له الأمريكيون اليوم بتأسيس بلادهم بالصورة التي هي عليها اليوم، أن يؤمن مرور السفن الأمريكية من البحر الأبيض المتوسط إلى أمريكا عبر المحيط الأطلسي.
وبحكم أن الأمريكيين وقتها، أي بعد 1788، قد أمنوا على سفنهم عند عبورها المحيط، قرب السواحل المغربية، بحكم الاتفاقيات بين المغرب وأمريكا، فقد كانوا يرغبون أيضا في تأمين مرور سفنهم عبر البحر المتوسط. خصوصا وأن السفن الأمريكية، بعد إبرام الصداقة بين المغرب وأمريكا في وقت سابق، كانت لا تزال تعاني من هجوم قراصنة طرابلس وتلمسان وتونس، وهي كلها مدن تابعة للدولة العثمانية في تركيا. وهو ما جعل الرئيس الأمريكي يفكر في طلب المغرب الوساطة لكي تتوقف عمليات الهجوم على الأسطول التجاري الأمريكي.
المثير أن المغرب استجاب فعلا لطلب الرئيس الأمريكي، هو ما زاد من حظوظ المولى محمد الثالث، لكي يدخل التاريخ الأمريكي من أوسع الأبواب.
وما يُظهر قوة المغرب دبلوماسيا في ذلك التاريخ، وحسب ما تشير إليه وثائق في الأرشيف الدبلوماسي الأمريكي، أن الأمريكيين رغبوا في شن حرب ضد طرابلس بعد أن تكررت عمليات هجوم على سفن أمريكية، وتدخل المغرب، بقرار من السلطان محمد الثالث، لكي يخبر الأمريكيين أن مساعدتهم في هجوم على طرابلس ليس واردا نهائيا، وأن تعاليم الدين الإسلامي تمنع على السلطان المغربي أن يرفع سلاحه في وجه مسلمي طرابلس، لكنه تدخل إيجابيا، وجنب الأمريكيين والليبيين حربا ضروسا، وفرض فعلا السلم في البحر الأبيض المتوسط.
الأمريكيون ظلوا مدينين للسلطان المغربي، خصوصا وأنه كان الوحيد الذي وقف إلى صف الأمريكيين، عبر العالم، لتجاوز أزمتهم الداخلية بعد إسقاط الحكومة الأولى وانتخاب حكومة أخرى وأعضاء مجلس التشريع الأمريكي. وكان من أولى القرارات التي اتخذها هذا المجلس، الحفاظ على العلاقات الودية مع المغرب لضمان استمرار عبور السفن الأمريكية لمنطقة البحر المتوسط دون أن تتعرض لأي هجوم من القراصنة.
صحيح أن المعطيات الواردة في هذا الملف، استنادا على وثائق من الأرشيف الدبلوماسي المغربي والأمريكي، تكشف أن الأمريكيين كانت لديهم مشاكل مع القراصنة من ليبيا وتونس. لكن الحقائق التاريخية التي لا يمكن تجاهلها تكشف أن الولايات المتحدة، قبل أن تُبرم الاتفاقيات مع المغرب، كانت تعاني من كابوس «القراصنة» المغاربة أكثر مما عانت مع غيرهم من ممارسي الجهاد البحري الآخرين.
وإذا كان الرئيس الأمريكي جورج واشنطن قد طلب من سلطان المغرب سنة 1789، المولى محمد الثالث، أن يتوسط له لكي يكف عنه «أذى» قراصنة طرابلس وتونس، فإنه قد سبق للأمريكيين أن عانوا مع القراصنة المغاربة. بل إنهم، سنوات بعد الاتفاق المغربي، وبعد وفاة المولى محمد الثالث، ومجيء عهد ابنه المولى سليمان، ثم بعده المولى محمد الرابع، عادوا إلى نقطة الصفر وعانى الأمريكيون مجددا من الجهاد البحري على الطريقة المغربية!
سبق وأن تناولنا معطيات بخصوص الجهاد البحري خلال القرنين 18 و19. وهي فعلا معطيات مثيرة لا تقل إثارة عن الأفلام التاريخية التي يُبدع الأمريكيون في إخراجها حاليا.
تقول بعض المعطيات التاريخية إن أصول الجهاد البحري في المغرب تعود إلى نهاية القرن 16 وبالضبط إلى الفترة التي طرد فيها المغاربة من أوربا. ومنذ ذلك الوقت والرغبة في الانتقام من البرتغال والإسبان على وجه الخصوص تسيطر على مشاعر عدد من القبائل والعائلات الكبيرة التي تم طردها من الأندلس وتجريدها من ممتلكاتها هناك.
لقد كان حلم العودة يراودهم جميعا. عندما وصلوا إلى المغرب توزعوا على الواجهة البحرية للمغرب، على امتداد البحر الأبيض المتوسط، وشرعوا يراقبون الحد البحري الفاصل بينهم وبين الأراضي التي طُردوا منها. في حين أن قلة منهم فقط اختارت السير والتقدم في المغرب، ليستقروا في منطقة فاس. بينما الأغلبية اختارت أن تبقى مجاورة للحدود البحرية.
قبائل كانت تحمل أسماء مدن إسبانية مثل قبيلة «حرناشو» التي تعد تحريفا لاسم مدينة صغيرة في جنوب إسبانيا. قبائل أخرى استقرت في الرباط وسلا ومداشر تطل على المحيط الأطلسي على طول الساحل البحري الممتد من الرباط وصولا إلى العرائش وطنجة. وهذه القبائل كانت تنتمي وقتها، أي في القرن 17، إلى ما كان يُطلق عليه «جمهورية» القراصنة، والتي كان كل أفرادها مورسيكيين، يحملون حقدا كبيرا للإسبان والبرتغال لأنهم طردوهم من أرضهم. وكان هناك اتصال بينهم وبين قبائل أخرى اختارت أن تستقر في الريف المغربي.
هؤلاء كانوا جميعا متدينين، لكنهم كانوا قد اختاروا منذ وصولهم إلى المغرب، أن ينعزلوا بأنفسهم عن الواقع المغربي وقتها، وأن يقودوا حياتهم بأنفسهم، وقد كانت قوتهم قد بلغت أوجها عندما قادوا هجومات عنيفة على السواحل الإسبانية، بل ووصلوا إلى موانئ بعض مدن الجنوب الغربي الإسباني، على الحدود البرتغالية، وقصفوا بعض المواقع وسلبوا سفنا كثيرة حمولاتها التجارية، وأتلفوا الموانئ في عدد من المناسبات.
لكن أعنف هجوم قاده «القراصنة» المغاربة على اسبانيا كان سنة 1668، إذ أن الهدوء الذي كانت تشهده مياه المحيط الأطلسي، لم يدع مجالا للشك أمام مراقبي الساحل، لكنهم فوجئوا ليلا بهجوم مباغت من سفن صغيرة كانت تحمل على متنها مئات المغاربة الغاضبين، لينزلوا فوق أرض الميناء الصغير، ويشرعوا في مهاجمة السفن المتوقفة وإضرام النار في عدد من المنشئات ومخازن السلع. استمر الهجوم لساعات لكن الخسائر كانت فادحة، إلى درجة أن السلطات الإسبانية أعطت وقتها تعليمات صارمة لكي لا يتم إفشاء أمر الهجوم حتى لا يصل إلى مدن إسبانية أخرى، ويجعل من إسبانيا «أضحوكة» أوروبية. إذ أن عملية الطرد التي قادتها ضد المورسكيين، كانت قد أكسبت الإسبان هيبة محلية كان القراصنة قد أصابوها في مقتل.
كان الرد الإسباني عنيفا، لكنه لم يكن بمستوى المفاجأة المغربية. إذ أن الوقائع التاريخية الرسمية، تقول إن الإسبان لم ينجحوا نهائيا في إخماد ثورة «الجهاد البحري» ضد سفنها والسفن البرتغالية أيضا.
بل حتى الأمريكيون كانوا يعانون مع هؤلاء البحريين المغاربة عندما كانت السفن الأمريكية تعبر نحو المحيط الأطلسي من مضيق جبل طارق في طريق عودتها إلى «الديار». ورغم أنهم كانوا قوة ضاربة في العالم إلا أنهم عانوا الأمرين مع هؤلاء «المجاهدين القراصنة» واعتبروهم مجرمين.
عندما طلب رئيس أمريكا من السلطان تخليصه من قراصنة ليبيا وتونس
ملف العلاقات المغربية الأمريكية، تشابك في عهد المولى محمد الثالث مع ملف العلاقات المغربية الإسبانية. ورغم أن شساعة المحيط الأطلسي فصلت بين الدول الثلاث، إلا أن القضايا الدبلوماسية وحدتها.
ففي الوقت الذي أبرم فيه السلطان محمد الثالث اتفاقا مع الأمريكيين، كان سفيره إلى مدريد يبحث إبرام اتفاق مشابه مع إسبانيا لحل مشكل الأسرى.
حدث هذا في وقت كان التقارب بين المغرب وأمريكا بعيدا تماما عما هو اقتصادي. بل كان الهدف منه حصول أمريكا على حليف لحماية سفنها العابرة من البحر المتوسط. وهكذا كان المغرب صمام الأمان الذي اعتمدت أمريكا على صداقته، خصوصا سنة 1788 كما سوف نرى لاحقا، لكي تؤمن مواطنيها وتجارها ضد الهجمات في البحر المتوسط، خصوصا على يد الجزائريين والليبيين.
واتفاق مدريد مع المغرب، كان الهدف منه إطلاق سراح الأسرى الإسبان في المغرب. وهكذا التقت المصالح بين الجميع.
أحد الذين أرخوا لهذه الأجواء، بناء على وثائق الأرشيف الدبلوماسية، هو المؤرخ والباحث والدبلوماسي عبد الهادي التازي.
فقد سبق أن كتب دراسة حكى فيها ما وقع، وكتب الآتي:
«وبالرغم من أن كتب التاريخ ظلت خرساء عن يوم من أغر الأيام التي عرفها المغرب على عهد السلطان محمد الثالث، فقد استطعنا أن نقف أخيرا على وصف لهذا اليوم في سطور مختصرة، ولكنها مليئة بالمفاخر والمناقب، كان هذا اليوم من أيام رمضان ليلة القدر من سنة 1194 (أي يوم 25 شتنبر 1780) حيث تم بالمكان الذي يدعي لحد الآن «ظهر المجاز» بضواحي سلا استعراض حافل حضره الملك المعظم في خيل عظيم لاستقبال هذا الفوج من الأسرى المجاهدين، لقد وردوا وكلهم يحملون جملة من المخطوطات التي راحت بها «البعثة الديبلوماسية» كهدية من ملك إسبانيا إلى الملك المعظم، هذه المجموعة التي حبس نصيب منها – فيما أعتقد – على خزانة جامعة القرويين.. أقبل موكب السلطان فامتزجت هتافات الأسرى بدوي الطلقات التي كان الفرسان يرسلونها في الفضاء. وتفضل الملك فنزل عن فرسه، وبعد برهة خشع فيها الجمهور نطق بهذا الدعاء الكريم: «اللهم تقبلها منا ذخرا» وعلى إثر ذلك اتجه نحو القبلة، وعلى مرأى ومسمع من هذا الجمهور سجد في هذا المكان شكرا – الله الكبير المتعال، ثم ودع القبلة واقبل على أسرى يهنئهم ويسلم على عشائرهم ودويهم، وبعد أن صافحهم أجمعين فاه بهذه الكلمات الطيبات: «الحمد لله الذي أنقذكم.. وجمع شملكم بإخوانكم المؤمنين، فاحمدوا الله على نعمه واشكروه يزدكم من كرمه».
يحكي عبد الهادي التازي أن هؤلاء الأسرى الذين استرجعهم المغرب، لم يكونوا مغاربة فقط، بل كان بينهم أسرى من تلمسان، حرص السلطان بنفسه أن يعودوا إلى بلدهم بسلام بعد أيام راحة في المغرب: « ولما كان الناس على ليالي العيد فقد طلب إليهم السلطان أن يأخذوا راحتهم بضعة أيام هنا في الجزء من وطنهم: «أنتم منذ الآن في ضيافتنا حتى نوجهكم إلى ناسكم ومسقط رأسكم». ومضت بقايا رمضان وحل العيد فوصلهم بهيات سنية وكان – وهذا دليل الاهتمام أيضا- لا يعتمد على وزير ولا ظهير في القيام بذلك ولكنه يجد المتعة في مباشرة ذلك فهو بعد ويحسب ويسلمهم المقادير بيده الكريمة. وبعد أيام العيد أصدر أوامره للسفير أن يصحب الأسرى إلى فاس حيث يتوجهون منها إلى وجدة ثم إلى مدينة تلمسان..».
الأحداث التي عرفها شهر شتنبر سنة 1780، كانت مجرد بداية لما سوف يأتي، بخصوص العلاقات المغربية الأمريكية على عهد المولى محمد الثالث. فبعد ثماني سنوات، سوف تطلب الولايات المتحدة وساطة المغرب رسميا، بعد أن عاد مشكل الأسرى مرة أخرى إلى الواجهة.
أحد الدبلوماسيين الذين وثق بهم الرئيس الأمريكي جورج واشنطن، هو «دجون لامب». وكان المغاربة في وثائق الأرشيف الدبلوماسي للمغرب يُلقبونه بـ«الميستر». إذ أن المغاربة الذين كانوا إلى جانب السلطان المولى محمد الثالث، كانوا يسمعون الأمريكيين في الوفد ينادون رئيسهم بلقبه «ميستر»، أي السيد، وهكذا فقد صارت الصفة لصيقة باسمه، إلى درجة أن كُتاب وزراء الدولة العلوية الذين عاشوا هذه الواقعة سنة 1987، اكتفوا بتسجيل اسمه «ميستر»، ولم يهتموا كثيرا باسمه الكامل، «جون لامب».
يقول عبد الهادي التازي، في مؤلفه الضخم، التاريخ الدبلوماسي للمغرب، وهو أحد أوائل الذين اطلعوا على الرسائل الأمريكية التي تؤرخ لهذه الواقعة، متحدثا عن الملتمس الذي وجهه الرئيس الأمريكي جورج واشنطن إلى السلطان محمد الثالث: «وقد رأينا كيف أن الكونغريس يقوم برفع طلب رسمي إلى الملك محمد الثالث بتاريخ 23 يونيو 1787 يضمنه التماس الرئيس الأمريكي جورج واشنطن بأن يقوم ملك المغرب بالتوسط لدى باي تونس وباشا طرابلس مؤكدا أن الشعب الأمريكي سوف يظل مدينا للمغرب بما يحققه من تقدم ورخاء..
وعن هذه الرسالة بالذات أجاب السلطان سيدي محمد بن عبد الله برسالته المشهورة إلى الرئيس جورج واشنطن بتاريخ 17 غشت 1788.
وقد جاء هذا الملتمس بعد فشل طلب من أمريكا لسفير طرابلس في لندن أثناء حديث طويل جرى بين السيد أدامس، وزير أمريكا المفوض، وبين الحاج عبد الرحمن آغا.
وفي هذه الأثناء كانت أمريكا تعيش ظروفا عصيبة، فإن التنظيمات الداخلية من جهة والاضطرابات من جهة أخرى لم تنته بعدُ.
لأجل ذلك نُلاحظ مرور فترة من الزمن دون أن يتمكن الرئيس الأمريكي من إجابة العاهل المغربي على رسالته بتاريخ 17 غشت 1788، وهكذا فلم يتيسر الجواب إلا بتاريخ فاتح دجنبر 1789.
لكن قبل أن نستعرض الرسالة الأمريكية التي وقعها جورج واشنطن، الرئيس الأمريكي الذي دخل التاريخ، لا بد أولا أن نثير مسألة عدم وصول أي سفير مغربي إلى أمريكا رغم التقارب الكبير بين البلدين. لماذا لم يرسل المولى محمد الثالث، أو المولى سليمان من بعده، أي سفير إلى واشنطن؟ علما أن سفراء مغاربة كثر ذهبوا إلى فرنسا وبريطانيا وإسبانيا في نفس تلك الفترة، وكانت علاقات المغرب مع هذه الدول متوترة للغاية، لكن الأمر لن يمنع من تبادل المبعوثين والسفراء.
لن يكن بُعد المسافة سببا مقنعا، ما دامت السفن الأمريكية وقتها تعبر باستمرار من المغرب إلى الولايات المتحدة، لكن ربما يبقى السبب سياسيا بالدرجة الأولى، بحكم أن الولايات المتحدة وقتها كانت دولة حديثة الإنشاء والتكوين، ومؤسساتها بالكاد كانت في طور التأسيس. كما أن عامل الاستقرار السياسي والأمني لعب دورا كبيرا في تأخر وصول سفراء مغاربة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عهد جورج واشنطن.
في نص الرسالة التاريخية التي أرسلها هذا الأخير إلى السلطان محمد الثالث، يصف الرئيس الأمريكي شخصيا وضعية بلاده والهشاشة السياسية وحتى الاقتصادية التي كانت تمر بها بلاده.
جاء في نص الرسالة الأمريكية التي لا يزال مخطوطها الأصلي متوفرا في المكتبة الوطنية في واشنطن، ما يلي:
«إلى جلالة امبراطور المغرب،
صديقي الهمام العظيم
منذ تاريخ خطابنا الذي رفعه الكونغرس الأخير بواسطة رئيسه إلى جلالتكم، فضلت الولايات المتحدة تبديل حكومتها بأخرى جديدة تتفق والدستور الذي أتشرف بإرفاق نُسخة منه مع هذا، وإذا لم يتوصل جلالتكم بالإعلامات العادية ولا بعبارات الاعتبار من الولايات المتحدة رغم صداقتكم ومسلككم الشجاع تجاهها مما يبرر توقعكم، فخير عذر وعلة نرفعهما إلى جلالتكم هو الوقت الذي استغرقت تلك المهمة الشاقة، ثم الارتباك الشديد الذي تخلف عن هذه الثورة رغم سلميتها.
وما أن أجمعت الولايات المتحدة على تعييني على رأس السلطة التنفيذية العليا لهذه الأمة، حتى توصلت بخطاب جلالتكم المؤرخ 17 غشت عام 1788، الذي ظل بدون جواب بسبب سقوط الحكومة السابقة كما توصلت بالخطابات التي تلطفتم جلالتكم بتحريرها لصالح الولايات المتحدة إلى بشاوات تونس وطرابلس، وأرفع إلى ساحتكم شكر وامتنان الولايات المتحدة لهذه الالتفاتة الكريمة الدالة على صداقتكم لها.
ولنا أن نتأسف حقيقة على هذه التصرفات العدوانية لتلك الإيالات تجاه هذه الأمة التي لم تمسسهم بسوء، تلك التصرفات التي لم يمكن دفعها وديا.
وأراضينا لا تتوفر على مناجم ذهب أو فضة، وهذا الشعب الفتي ما كاد يبرأ من خراب ودمار حرب طويلة، ولم يمهل حتى يكون ثروة ما عن طريق الزارعة أو التجارة… إلا أن أرضنا سخية وشعبنا صناعي، ولنا أن نمني أنفسنا بأننا سنتمكن تدريجيا من أن نصبح مفيدين لأصدقائنا.
وكان التشجيع الذي تفضلتم جلالتكم به على تجارتنا مع مملكتكم، والدقة التي راعيتموها في عقد المعاهدة معنا، والإجراءات المنصفة الكريمة التي اتخذت في قضية الكابتن «بروكتور»، كل هذه الأشياء تركت أثرا عميقا في الولايات المتحدة. ووكدت احترامها وتعلقها بجلالتكم.
ويسرني في هذه المناسبة بأن أؤكد لجلالتكم، أنه طالما سأكون على رأس هذه الأمة، فلن أتوانى عن تشجيع كل وسيلة من شأنها أن تدعم الصداقة والانسجام القائمين -لحسن الحظ- بين إمبراطوريتكم وبيننا. بل وسأعتبر نفسي سعيدا، كلما تمكنتُ من إقناع جلالتكم بالتقدير الكامل الذي أكنه لشجاعتكم وحكمتكم وأريحيتكم.
ولما تجتمع الهيئة التشريعية خلال اللقاء المقبل، فسأعمل على أن لا تتعطل المراسلات المتبادلة بين بلدينا، وأن تسير بالكيفية التي تروق جلالتكم وترضي جميع مطالبها. وأدعو الله بأن يبارك جلالتكم، أيها الصديق الهمام العظيم ويشملكم دائما بعطفه ورعايته.
حرر في مدينة نيويورك في بداية دجنبر 1789».
الملاحظ أن الرسالة الأمريكية، تتضمن لهجة استعطاف واضحة للمولى محمد الثالث لكي يواصل دعمه للولايات المتحدة. وبدا واضحا أيضا أن الأمريكيين كانوا يعيشون حالة ضعف كبيرة، وهو أمر طبيعي ما دامت الولايات المتحدة وقتها قد تأسست منذ مدة قصيرة. لكن المثير أن الأمريكيين، سوف يكون عليهم بعد هذه الرسالة، أن يسعوا من جديد إلى ضمان علاقتهم مع المغرب، خصوصا وأن المولى محمد الثالث قد توفي، سنة واحدة فقط بعد الرسالة، وأصبح المولى سليمان وريثا للعرش العلوي. وكان أول ما قام به الكونغرس الأمريكي وقتها، أن أرسل مبعوثين جدد سنة 1790 في محاولات جديدة لخطب ود السلطان الجديد والإبقاء على المكتسبات الأمريكية، حتى لا تتعرض أساطيلها لهجوم جديد في البحر المتوسط.
رغم أن الأمريكيين لم يكونوا في القرن السابع عشر مؤهلين لمنافسة دبلوماسية دول كبرى مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وحتى هولندا في المغرب، إلا أنهم بفضل اعتراف المغرب باستقلال الولايات المتحدة حصلوا على امتياز مكن الأمريكيين من الفوز بود المغرب في عز الأزمة المغربية الأوروبية.
أحد السفراء الأجانب الذين عملوا في المغرب وقتها، هو السفير «شيرلي»، ورغم قصر المدة التي مكثها في المغرب إلا أنه لعب دورا دبلوماسيا مهما. وقد تحدث عنه الطبيب الفرنسي، الدكتور أرنول دوليسل، الذي كان دبلوماسيا أيضا، عندما التقيا معا في المغرب، وقال عنه إنه جاء إلى المغرب لتأليب السلطان ضد تركيا على امتداد ساحل البحر المتوسط، من جبل طارق إلى تونس، وأن ملك إسبانيا سوف يصدر وعدا للسلطان المغربي بأن يتم تقسيم الساحل بين البلدين، أي المغرب وإسبانيا. وهكذا فقد كانت تونس لتصير مغربية، حسب الوعد الإسباني.
هذا الطبيب الفرنسي الذي كتب في رسائله، التي توجد اليوم في الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي، ما صدر عن السفير الإسباني السيد «شيرلي»، بخصوص نية الملك الإسباني المستقبلية، أثار موضوعا خطيرا يتعلق بالمنافسة الأجنبية على المغرب بحكم أنه الضامن الوحيد لسلامة العبور من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي.
لكن المثير أن السفير الإسباني وقع في المحظور، وأفشى الأسرار الدبلوماسية لبلده، ووصلت إلى السفير الهولندي أيضا وليس الطبيب الدبلوماسي الفرنسي وحسب.
لم يكن متوقعا أن يشيع الخبر لولا أن السفير الإسباني استأمن بعض سكان القصر الملكي المغربي وقتها، بخصوص المهمة الدبلوماسية التي جاء من اجلها إلى المغرب، بل إن السفير نفسه لم يتوقع أن يصبح سره مكشوفا لدى فرنسا وهولندا. لكن الواقعة تكشف، قرونا قبل تأسيس أجهزة المخابرات، كيف أن السفراء الأجانب كانوا يتجسسون على بعضهم البعض داخل المغرب، طمعا في أن تجمع كل دولة من هذه الدول معلومات عن الدول الأخرى التي تنافسها في المغرب.
حدث كل هذا في وقت لم يكن هناك أي حضور لدبلوماسيين أمريكيين في المغرب. وكان حضور الأمريكيين وقتها، مباشرة بعد تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية واعتراف المغرب بها، مقتصرا فقط على بعثات دبلوماسية، قبل أن يتقرر سنة 1820 أن تحصل أمريكا على مفوضية لها، وتعين فيها قناصلة جاءوا خصيصا لممارسة العمل الدبلوماسي في المغرب. لكن قبل ذلك، لم يكن للأمريكيين أي حظ في منافسة دول تربطها مع المغرب علاقات دبلوماسية، رغم الشدوالجذب، تعود لقرون خلت.