طرح علي قارئ وفِي سؤالا حيره وطلب مني تقديم جواب شاف له حتى يطمئن قلبه، فهو حائر بين حبه لكتاباتي وشخصي وبين تعاطفه مع حزب العدالة والتنمية ولا يريد في النهاية أن يفقد أي واحد منا.
وفِي رسالته آخذ علي قارئي العزيز انتقاداتي المستمرة لهذا الحزب الذي يسير الحكومة منذ سبع سنوات وحرصي على تتبع هفوات قادته وتناقضاتهم، متسائلا عن السبب في ذلك، ولماذا لا أضع يدي في يدهم خدمة للصالح العام.
وإذ أشكر القارئ العزيز على طرحه لهذا الموضوع فإنني أَجِد نفسي مجبرا على توضيح هذا الأمر رفعا لكل لَبْس وحتى تتضح الصورة في ذهن القارئ وعبره تتضح في ذهن الآخرين الذين ربما تساورهم الحيرة ذاتها.
إذا كانت شرائح واسعة من المغاربة يشعرون بالغبن وبأنهم "تقولبو" عندما منحوا أصواتهم للعدالة والتنمية لولايتين تشريعيتين، وأنهم يعتبرون أن هذا الحزب خدعهم وتخلى عنهم وتنكر لكل الشعارات التي قدمها أمامهم، فإنني شخصيا أشعر بغبن مضاعف، لأنه إذا كان جزء من المغاربة قد منحوا أصواتهم لهذا الحزب فأنا منحته ظهري وحريتي وممتلكاتي.
منذ سنة 2006، عندما كان حزب بنكيران ما زال تائها في صحراء المعارضة، أطلقت جريدة واستطعت أن أوصلها إلى رقم قياسي في المبيعات لم تصلها ولن تصلها جريدة أخرى في المغرب.
كانت الجريدة تبيع 120 ألف نسخة يوميا وكنت عن قناعة وعن حسن نية أخوض حروبا ضد خصوم العدالة والتنمية، الذين كانوا في الأغلبية الحكومية وفِي اللوبيات التي كانت تعادي أفكار ومواقف قادة الحزب، وكان الحزب يجني الثمار فيما كنت أنا أجني الغرامات الثقيلة، ويكفي أن أعطي مثالين اثنين هما قضية قضاة القصر الكبير التي استغلها البيجيدي واستطاع أن يطيح بخصومه وأن يفوز برئاسة المجلس البلدي فيما "ربحت" أنا غرامة 600 مليون، وأحداث سيدي إفني التي استغلها الحزب وفاز فيها برئاسة المجلس فيما "ربحت"عداء مجانيا مع وزارة الداخلية.
وهذه مجرد أمثلة بسيطة لاستغلال الحزب للجريدة التي كنت أدير إلى الحد الذي دعا فيه البرلماني المقرئ أبو زيد من قبة البرلمان زملاءه في الفريق إلى التخلي عن رواتبهم لصالحي لأنني أقوم بمهامهم على أحسن وجه.
إلى أن جاء الربيع العربي وذهبت إلى السجن، واستغل قادة الحزب هذا الاعتقال وجعلوا من قضية إطلاق سراحي قميص عثمان لفتح صفحة جديدة وترسيخ الثقة، وتطوع الرميد للترافع ضمن فريق الدفاع، إلى اليوم الذي علم فيه أنه سيُصبِح وزيرا للعدل فجاء عندي إلى السجن واعتذر عن الاستمرار في الدفاع عني لأنهم وعدوه بحقيبة.
كان الحزب يعيش حينها سكرة الفوز، وكانت نتيجة الفوز منطقية بحكم الشعبية الكاسحة لحزب العدالة والتنمية آنذاك، وبحكم الحملة الانتخابية الذكية والشرسة التي تجند لها قياديو الحزب وحركته وشبيبته، وأيضا بحكم الظرفية السياسية المحتقنة والحراك الشعبي الجارف الذي استعملته أمريكا عبر قناتها الجزيرة كأداة للضغط على الدولة من أجل ضمان حياد رجال الداخلية وعدم عرقلة وصول حزبهم المفضل لسرايا الحكم.
كانت الطريق سالكة إذن أمام بنكيران وحزبه، خصوصا وأنني عبدت لهم الطريق لما يزيد عن ست سنوات عندما تصديت عبر كتابة يومية للمراقبة نيابة عنهم للاتحاد الاشتراكي، إلى حد أصبح الحزب يتهمني بالتسبب في سقوطه الانتخابي، وتصديت بالرقابة بعد سقوط الاتحاديين لحكومة عباس الفاسي، إلى درجة أن الحزب اتهمني بالعنصرية وتحريض الشعب على آل الفاسي الفهري.
وعندما جاء حزب الأصالة والمعاصرة عبرت عن موقفي منه بوضوح، وكان بنكيران يتصل بي هاتفيا مبديا ثناءه على شجاعتي، فيما نواب حزبه في البرلمان كانوا يحملون مقالاتي إلى القبة لمحاججة الوزراء بها، وهم النواب أنفسهم الذين تحول بعضهم إلى وزراء في حكومة بنكيران وجرجروني في المحاكم لأنني كتبت عنهم مثلما كتبت عن سابقيهم.
وخلال سبع سنوات قضاها حزب العدالة والتنمية في الحكم تحول إلى ما يشبه شركة للترقي الطبقي والمهني السريع، من خلال توزيع الحقائب الوزارية والتعيين في الدواوين الحكومية والمناصب العليا، بحيث كل وزير يحصل على حقيبة وزارية له الحق في تعيين 30 مستشارا بديوانه، بأجور شهرية تفوق 3 ملايين سنتيم، وأغلب هؤلاء يحصلون على هذه المناصب دون أن تطأ أقدامهم مقرات الوزارات المحسوبين عليها، فيما بعضهم يملكون شركات أو يشتغلون في قطاعات أخرى.
وبعد سبع سنوات فقط تغيرت كثيرا سلوكات وعادات العديد من وزراء وقادة حزب العدالة والتنمية، ممن راكموا الأموال من المناصب الحكومية والانتدابية، خلافا لأيامهم الأولى، لأنهم بعدما ذاقوا حلاوة كراسي الدواوين الوزارية وكراسي المجالس الجماعية والجهوية، تخلوا عن شعارات "محاربة الفساد" و"الإصلاحات الكبرى"، وأصبحوا يطالبون بتوفير السيارات الفارهة والحراس الخاصين، كما انتقل أغلبهم من العيش بالأحياء الشعبية إلى الإقامة داخل "فيلات" بالمنتجعات السياحية والشاطئية، كما غيروا سيارات "داسيا" و"الكونغو" بسيارات فاخرة، وأصبحوا يتنافسون في ما بينهم حول فتح الصفقات لاقتناء السيارات رباعية الدفع الفارهة، كما فعل الحبيب الشوباني الذي يترأس أفقر جهة بالمغرب، ومنهم من اقتنى سيارات مصفحة ألمانية الصنع تعتبر من آخر طراز هذا النوع من السيارات التي تتميز بهيكل مضاد لرصاص مختلف أنواع الأسلحة والقنابل، وهناك وزراء وضع بنكيران رهن إشارتهم أربع سيارات بالسائق مخصصة لنقل الزوجات إلى الحمام والأسواق ونقل الأطفال إلى المدارس.
وهذا بالضبط ما يجب على الصحافيين التصدي له، أي أن لا يتركوا السياسي يسكر بخمر السلطة حتى لا يفقد وعيه ويقترف الحماقات، فالصحافي الحقيقي هو الذي ينشغل بالتصدي للسياسيين المزيفين الذين يستعملون الدجل والكذب على الشعب لبلوغ أهدافهم. أما مهمة التطبيل للحكومة والحزب الذي يقودها فهذه ليست سوى بدعة ابتدعها بعض الصحافيين الصيارفة وأرادوا أن يوهموا الناس زورا وبهتانا أن هذه هي وظيفة الصحافي الحقيقية، والحال أن وظيفة الصحافي هي أن يتصدى للزيف بشكل عام، وخصوصا الزيف السياسي الذي عندما يسود يحول كل المجالات إلى "خواض" يسبح في مياهه الضحلة الجميع، بما في ذلك بعض الصحافيين الذين يعتبرهم السياسيون مجرد أفواه صالحة لكي يأكلوا بها الشوك.
فالسياسي يمارس السياسة من أجل عيون السلطة ولا شيء آخر غير السلطة، وعندما يصل إليها يصنع كل ما بوسعه لكي يبقى متشبثا بها لأطول وقت ممكن.
وإذا لم تكن مهمتنا كصحافيين هي مراقبة عمل أمثال هؤلاء الوزراء والحزب الذي يقود الحكومة ووضع وعودهم وبرامجهم محل مساءلة يومية، والمطالبة بمحاسبتهم على طريقة صرفهم لأموال دافعي الضرائب، فإنني لا أعرف ما هو الدور الحقيقي للصحافي، إذ ليس المهم أن يسقط حزب معين من الحكومة بسبب فشل وزرائه، المهم أن تبقى البلاد واقفة وليسقط بعد ذلك وزراء الحزب كله. فالمهم، في آخر المطاف، هو مستقبل البلد.
ونحن كصحافيين لا يهمنا أن ينجح هذا الحزب أو يسقط ذاك، فنحن فوق الصراعات الحزبية حول السلطة، لأننا نعتقد أن الصحافة بحد ذاتها سلطة رابعة مستقلة عن باقي السلط، بل إنها في الدول الديمقراطية سلطة فوق كل السلط.
لذلك فواجبنا هو مراقبة عمل الحزب الذي يقود الحكومة، ليس حبا فيه وإنما حبا في المصلحة العليا للوطن.
واليوم أكثر من أي وقت مضى أصبحت مقتنعا بشكل راسخ أن كشف تجار الدين ليس مسألة إعلامية فقط بل هو واجب وطني على كل مواطن من موقعه أن يقوم به، فمهمة كشف المنافقين مهمة يؤجر عليها فاعلها في الدنيا والآخرة، لأنه يجنب البلاد والعباد شرور قوم يشترون بآيات الله ثمنا قليلا.