«كان عدد الأسرى أربعين رجلا وأربع نسوة. باعوهم في سوق النخاسة المعروف حتى اليوم في الرباط بباب القنانط. وكان حظ «مويط» أن اشتراه أربعة أشخاص، ثلاثة مسلمين ويهودي. فعمل نحو سنتين خادما في بيت أحد ساداته المسلمين بسلا، ثم في إسطبل سيده حاكم القصبة. ولما بويع مولاي إسماعيل عزل هذا الحاكم واستصفى أمواله، وبذلك انتقل «مويط» إلى ملك السلطان والتحق بالمولى إسماعيل في فاس ثم سار في ركابه إلى مكناس وظل يعمل عنده في أشغال البناء وغيرها زهاء تسعة أعوام أخرى. وقد تعلم «مويط» خلال مدة إقامته في المغرب اللغة العربية، والإسبانية السائدة فيه أيضا بسبب الأندلسيين المهاجرين، إلى أن من عليه المولى إسماعيل بالسراح بعد أن افتداه جماعة الرهبان الفرنسيين، فرجع إلى باريس يوم 19 يوليوز 1681، أي بعد أن تغيب عنها في الأسر أحد عشر عاما إلا 12 يوما». الكلام هنا لمحمد حجي، وهو دكتور متخصص في التاريخ، تولى في ثمانينات القرن الماضي مهمة تدقيق مذكرات أسير فرنسي اسمه «مويط» وقراءة ما بين سطورها من مفاجآت.
تاريخ أقدم الصفقات الرسمية التي أنهت أزمات «أسرى الحرب» مع المغرب
بمجرد ما تفتح البوابة الخلفية للسفن التي كان يُبحر بها القراصنة القدامى من شاطئ مدينة سلا في اتجاه عرض البحر لقطع الطريق أو «الأمواج» أمام السفن القادمة من أوربا ومصادرة ممتلكات أصحابها وأسرهم ليصبحوا عبيدا في المغرب، حتى ينزل هؤلاء مكبلين بالحبال إلى بعضهم البعض، ليتم بيعهم لمن يدفع أكبر سعر مقابلهم.
نشرت جريدة «التايمز» البريطانية سنة 1909، ما يلي: «قيل لي أيضا إن السلاطين كان لهم عبيد من النصارى الأوروبيين. حصلوا عليهم كأسرى في حروب سابقة. لقد تم استعمالهم، لسوء حظهم، في بناء قصور في مكناس ومراكش وفاس. كان المشرفون على بناء القصور يعمدون إلى أخذ كل عبد أظهر تقاعسا أو عياء في مواصلة أشغال البناء ورميه في التراب والكلس، وتغطيته بهما ودكه إلى أن يختفي وسط الجدار الذي كان في طور البناء. في سنة 1721، أرسل «ستيوارت» كسفير من إنجلترا ليقوم بشراء العبيد الأوروبيين ويعيدهم إلى أرضهم، لكنه وجد أغلبهم تحول إلى دين الإسلام حتى تنتهي معاناته الفظيعة في الأشغال الشاقة. لقد تم إنقاذهم وتعامل المغاربة معهم معاملة جيدة على عكس أولئك الذين فضلوا البقاء على ديانتهم النصرانية. أما النساء فقد تم إلحاقهن بـ»الحريم».
في 1817، ومع تعاظم قوة إنجلترا وسيطرتها على مضيق جبل طارق، خاف السلطان سليمان من ذلك الامتداد، وحد من عمليات القرصنة البحرية، ولم تعد سفنه تمارسها بالأشكال السابقة وإنما بسرية، ولم تنته إلا في 1856، عندما نجح «السير جون دريموند» في تحرير جميع العبيد والمسجونين. كان هذا في أيام مولاي الحسن، السلطان والد مولاي عبد الحفيظ وعبد العزيز».
ومن الحقائق التي جاءت أيضا موثقة عند الأجانب عن تاريخ العبودية في المغرب خصوصا عندما يتعلق الأمر بالأسرى الأوربيين الذين كان المغرب يعقد صفقات، مربحة أحيانا وخاسرة أحايين أخرى، لإعادتهم إلى بلادهم، خصوصا إسبانيا والبرتغال، مقابل إنهاء بعض الأزمات: « كان للعبيد دور فعال في تقوية الدولة، وكانوا يستعملون في الجيوش لقوتهم وصلابتهم. في عهد المولى اسماعيل، كان للمغرب جيش من السود يتجاوز عددهم 150 ألف رجل. ومع ضعف الدولة في فترة من الفترات، تفرق الجيش، ولكي يحافظ المخزن على الدولة فقد أخذ بزمام الحكم ووضع يده في كل شيء.
كل الذين يتعاملون مع المخزن يتصرفون وفق طقوس مقدسة ومعروفة سلفا، حتى أن السفراء كانوا يعانون منها أثناء زياراتهم إلى القصر، وكانوا يجبرون على التوسل إلى المخزن كي يروا السلطان. تجد أيضا رجال المخزن الذين يتعاملون مع الأجانب ويتظاهرون بأنهم يريدون العمل لصالح الأوربيين، إنه لخطأ فادح أن تضع ثقتك في مثل هؤلاء.
يتحد جميع رجال المخزن، باعتبارهم مغاربة ومسلمين، ويشتركون جميعا في إيمانهم بضرورة إذلال وكره المسيحيين. في الحقيقة فإن جميع المنتمين إلى جهاز المخزن، من وزراء، دائمين كانوا أو مؤقتين، نزولا إلى المكتبيين والحجاب وحتى العبيد، يحملون القناعة نفسها ومتأثرون بنفس الفكر. للمخزن طقوس موحدة، ونفس الطريقة الأدبية في صياغة الرسائل، وحتى نفس تصميم اللباس.
أقوى قسم في جهاز المخزن، والذين يتم اختيارهم من الجهات العليا، هم الدائرة المحيطة بالسلطان من خدم ومرافقين، حيث يرافقونه في جميع أسفاره. هؤلاء يظهرون بمظهر الكسالى لأنهم لا يفعلون شيئا، ولا يهتمون بأي شيء خارج دائرة السلطان».
وبما أن المقال يتطرق للمولى إسماعيل الذي كانت شهرته كبيرة في الآفاق، فإن قصة الأسير الفرنسي «مويط» الذي كتب مذكراته قبل 300 سنة من الآن، ولقيت رواجا كبيرا في فرنسا بسبب زيارة سفير مغربي أرسله المولى إسماعيل إلى هناك لإبرام اتفاق مع الفرنسيين، وهو ما جعلهم شغوفين بمعرفة معلومات عن المغرب، ليتحول الأسير السابق الذي أطلق المغرب سراحه قبل سنة من تاريخ مجيء السفير المغربي، ويصبح كاتبا لكي يقرأ له الفرنسيون ذكرياته المغربية، التي حكى فيها عن وجه مظلم نال من سمعة المغرب كثيرا وقتها، وتحدث بمرارة، قيل إنها لا تخلو من مبالغات، عن «ذكرياته المغربية».
ذكريات الأسر.. عندما كان المغاربة يشترون الفرنسيين!
كان هناك أسير فرنسي في المغرب قبل 300 سنة، سوف نأتي إلى تفاصيل وصوله إلى سلا لاحقا، عاش تجربة مريرة بحق، أسهب في سرد تفاصيلها التي لم تكن مملة، وتعرض لها باحثان مغربيان بالتمحيص، وقالا إنها لم تكن تخل من مبالغات. هذا الأسير الفرنسي السابق، والذي وقع مذكراته باسم «مويط» يقول إنه جاء إلى المغرب في إطار عملية سطو قام بها قراصنة من مدينة سلا على السفينة التي كان يركبها في اتجاه الشرق، ليجد نفسه في المغرب. تم بيعه في السوق، وهكذا كان: «جاء ثلاثة من سادتي الذين لم يكونوا يملكون مني سوى النصف، ليروني حالا. يسمى أكبرهم محمد المراكشي. وكان يستأجر غابات الملك، ويسمى الثاني محمد البيوس، تاجر في الصوف والزيت، وهو رجل طيب كما عرفته في ما بعد. أما الثالث فكان يهوديا واسمه ربي يمين، فاشتروا لي بعض الأسمال ثم ذهب بي المراكشي إلى منزله ليقدمني إلى زوجته. فأحضرت لي على الفور خبزا أبيض وسمنا وعسلا وقليلا من التمر والعنب. وهي تقول: «كل. كل». وبما أنني كنت جائعا لم آكل بعدُ، فسرعان ما أتيت على جميع ما قدمت لي. وأرادت أن تزيدني، عندما رأت أنني أكلت كل شيء، لكنني أشرت إليها برفع قبعتي، أنني اكتفيت..
(..) في اليوم الموالي وضعوني بين يدي محمد اليبوس، فأخذني هذا الأخير معه إلى منزله، حيث وجدت حماته وزوجته اللتين كانتا أندلسيتين، فأخذتا ترثيان لتعاستي. وأطعمتاني جيدا، ثم أعطتاني كيس قمح لطحنه في طاحونة يدوية كانت في مطبخهما. ذلك هو العمل العادي الأكثر بالنسبة للأسرى الموجودين في المراسي البحرية لعدم وجود طاحونات أخرى. إن هذه الحرفة القاسية تتطلب مجهودات كبيرة، وبما أنني لم يسبق لي أن عملت، فقد أخذ ذلك يزعجني منذ الحين الذي استخدمت فيه. وجعلت أنجز العمل وأصنع لهما دقيقا غليظا لا يمكن عجنه. فاضطرت سيدتي إلى أن تسلم لي طفلا صغيرا لها لأتجول به عبر المدينة. وقد ألفني بحيث لم يعد يريد الذهاب مع الآخرين ولا أن يضطجع إلا بجانبي. وسيدتي التي كانت شابة جميلة جدا تتكلم الإسبانية بطلاقة، عندما رأت ما يكنه لي ابنها من محبة، رخصت لي في أن أذهب به أينما شئت. وكانت تمتعني بخبز السميد الأبيض، وأزاحت عني سلسلة كانت تزن خمسة وعشرين رطلا كان زوجها قد أغلني بها، وكانت تناشدني أن أتحمل أسري بصبر، وحمتني من ضرب زوجها وسبابه، وطلبت مني مرارا أن أسلم لتبرهن لي أكثر عن محبتها، وتزوجني من إحدى بنات أخيها».
ليست هذه إلا البداية، فقد عاش «مويط» ذكريات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها مثيرة، كما أنه سلط الضوء على جزء مهم من تاريخ العبودية في المغرب، وكيف أن الأسرى الأجانب لم يكونوا على كل حال أفضل حالا من العبيد المغاربة الأصليين الذين كانوا يباعون في الأسواق تماما كما تباع السلع.
أسرار لا تعرفونها عن تاريخ «العبودية» في المغرب
لم يفت أوائل المستكشفين وحتى العسكريين الذين جاؤوا إلى المغرب في فترة ما قبل الاستعمار، أن يشيروا إلى اندهاشهم عند استكشاف العلاقات الاجتماعية المعقدة بين المغاربة وكيف كانوا يعاملون العبيد، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمنازل الأثرياء المغاربة الذين كانوا يتوفرون على طابور كامل من العبيد والخدم، يتحكمون فيهم من خلال طقوس وأعراف ضاربة في عمق التاريخ.
وعندما نتحدث عن العبيد، فإننا نتحدث أيضا عن الأسرى الأجانب الذين جاءت بهم الحرب إلى المغرب وعاشوا غرائبيات بدورهم وسط المدن المغربية، ومنهم من عاد إلى أوربا ليحكي عن تجربته، بالإضافة أيضا إلى أسرى مغاربة اعتقلتهم قوات أوربية، خصوصا الإسبان والبرتغاليين، وذاقوا بدورهم ويلات العبودية في أوربا ثم عادوا إلى المغرب، خلال فترات المصالحة مع أوربا أو تبادل الأسرى، ليحكوا بدورهم عن تجربتهم التي اختلط فيها الإنساني بالديني..
يعترف المؤرخون أن أغلب الآثار المرتبطة بهذا الموضوع قد تعرضت للتلف، خصوصا بعض المخطوطات التي يوجد ما تبقى منها في الخزانة الملكية، والتي تتعرض لبعض تجارب الأسرى المغاربة في أوربا والتي حكوها لبعض الكتاب المخزنيين فتولوا تدوينها. في مقابل بعض الروايات التي نُسبت إلى أسرى أوربيين اختاروا «عن قناعة» كما يقال، أن يعتنقوا الدين الإسلامي بل وأن يستقروا في المغرب نهائيا رغم المناسبات التي جاءت لتسمح لهم بالعودة إلى ديارهم الأصلية في أوربا.
لنبدأ بقصة مثيرة أوردها ملحق عسكري عمل في المغرب قبيل الحماية وغادره بعد أن أصيب خلال أحداث 1922 بالأطلس، وقضى بيننا عشر سنوات، كما يقول، كانت كافية ليفهم المغاربة جيدا.
اسمه «د.ل.دانتانيان». وكتب بالكاد 20 صفحة عن السنوات العشر التي يقول إنه قضاها في المغرب، نُشرت سنة 1932 في ملحق عن الأسماء العسكرية التي شاركت في حملات عسكرية بمنطقة شمال إفريقيا. يقول هذا الأخير إنه تعرف لأول مرة على المغاربة عندما وصل إلى الدار البيضاء بحرا، واتجه صوب منطقة أزمور، ومنها إلى مراكش حيث التحق بقوات عسكرية في منطقة الأطلس، كما قضى السنة الأخيرة له في المغرب في مكتب عسكري بالدار البيضاء. وأشار إلى أنه كان مندهشا بخصوصية الحياة المغربية وكيف أن الأمازيغ كانوا محتشمين جدا ولا يسمحون لنسائهم بالظهور أمام الأغراب، ولاحظ كيف أنهن كن شبه سجينات في البيوت، في الوقت الذي يتجول فيه الرجال في الأسواق الأسبوعية التي كانت فرنسا قد نجحت سابقا في إطباق السيطرة عليها. لكن دهشته، كما يقول، ستزداد عندما رأى لأول مرة في حياته سوقا لتجارة العبيد وسط سوق أسبوعي. كان هذا في ربيع سنة 1915 كما يقول: «دخلت السوق متجها إلى المكتب الذي ينصبه الحاكم العسكري في المنطقة عند كل سوق أسبوعي للإشراف على المنطقة أمنيا، وللبت في بعض النزاعات بين المواطنين. يشرف قاض متخصص على الأمر ويفهم جيدا اللهجة المحلية، لكن تحت إشراف الحاكم العسكري الفرنسي. وأنا في الطريق إلى المكتب الذي تنصب خيمة كبيرة له خلال يوم السوق الأسبوعي، لاحظت جمهرة كبيرة للسكان المحليين وأصوات صراخ تزداد حدتها كلما اقتربت منهم أكثر. بمجرد ما لمحني بعض البدويين قادما نحوهم ببذلتي العسكرية حتى سارعوا في إفساح الطريق لي حتى قبل أن أشرع في دفعهم. فإذا بي أجد نفسي وسط دائرة بشرية حول منصة خشبية متهالكة تقف فوقها سيدة سوداء البشرة رفقة بناتها. كانت تلك أول مرة أجد نفسي وجها لوجه مع سيدة مغربية. كانت شبه عارية، فيما بناتها عاريات تماما. أجلت بصري في المكان، ولمحت أربعة رجال سود البشرة كانوا أشداء ولا بد أنهم يُستعملون في الأعمال الزراعية الشاقة. وكانوا مربوطين مع بعضهم بحبل. عندما رآني شيخ القرية تقدم نحوي وكان يتحدث فرنسية ركيكة، وأخبرني أن هذا وقت المزاد حول العبيد المعروضين للبيع. كانت نظرات تلك السيدة بئيسة ومتسولة، ولا بد أنها كانت مذعورة لاحتمال ألا ترى بناتها مرة أخرى عندما يشتريهن أحد آخر غير الذي سيقوم بشرائها. ما أثار دهشتي هو أن السكان المحليين محافظون جدا وبالكاد ترى نساءهم من خلف الستار ويتشددن في إخفاء وجوهن وأجسادهن. أما السيدة التي كانت معروضة للبيع فقد كانت عارية. ولاحقا عرفت أن هذا الأمر كان عاديا جدا، وأن العبيد لم تكن تسري عليهم تعاليم الدين أو الأعراف المحلية».
قصة أسير فرنسي في المغرب عمرها 349 سنة
«خرج مويط من باريس في آخر يوم من يوليوز 1670. أي في الفترة التي كان فيها مولاي رشيد قد بويع وهو يمهد البلاد ويوحدها. وأبحر من ميناء دييب في 19 شتنبر قاصدا الهند الغربية على ظهر سفينة شراعية تجارية كبرى تدعى «الملكية» مسلحة بستة مدافع. وبعد قضاء شهر في البحر ومعاناة اختلاف مهاب الرياح التقت السفينة الفرنسية بسفينتين سلاويتين تحملان رايات تركية. وبعد مخابرات ومعارك تغلب القراصنة السلاويون وقادوا «مويط» ومن معه مغللين في الأصفاد إلى سلا».
الكلام هنا للمترجمين، محمد حجي ومحمد الأخضر، الدكتوران المتخصصان في التاريخ. وقد عملا على ترجمة مذكرات أسير فرنسي في المغرب اسمه «مويط». وتحدثا عن بعض الملاحظات المتعلقة بمذكرات هذا الأسير الفرنسي الذي كتب مذكراته عندما عاد إلى فرنسا، وقالا إن تلك المذكرات لم تخل من مبالغات ومغالطات أيضا. ربما يمكن تفسيرها ببحث صاحبها عن الإثارة أو إن المعلومات اختلطت عليه، رغم أنه قضى فترة مهمة بالمغرب، عمل خلالها في الأشغال الشاقة ورمته أقداره ليعيش تجربة مثيرة تجمع بين المرارة والكثير من الغرائب. ومن بين ما جاء في تقديم المترجمين لمذكرات الأسير «مويط» من الفرنسية إلى اللغة العربية: «كان عدد الأسرى أربعين رجلا وأربع نسوة. باعوهم في سوق النخاسة المعروف حتى اليوم في الرباط بباب القنانط. وكان حظ مويط أن اشتراه أربعة أشخاص. ثلاثة مسلمون، ويهودي. فعمل نحو سنتين خادما في بيت أحد ساداته المسلمين بسلا. ثم في إسطبل سيده حاكم القصبة. ولما بويع مولاي إسماعيل عزل هذا الحاكم واستصفى أمواله، وبذلك انتقل «مويط» إلى ملك السلطان والتحق بالمولى إسماعيل بفاس ثم سار في ركابه إلى مكناس وظل يعمل عنده في أشغال البناء وغيرها زهاء تسعة أعوام أخرى. وقد تعلم «مويط» خلال مدة إقامته في المغرب اللغة العربية، والإسبانية السائدة فيه أيضا بسبب الأندلسيين المهاجرين، إلى أن منّ عليه المولى إسماعيل بالسراح بعد أن افتداه جماعة الرهبان الفرنسيين، فرجع إلى باريس يوم 19 يوليوز 1681، أي بعد أن تغيب عنها في الأسر أحد عشر عاما إلا 12 يوما.
لم تمض سنة على إقامة «مويط» في باريس حتى شاهد وصول سفير المولى إسماعيل الحاج محمد تميم التطواني واستقباله الفخم في بلاط لويس الرابع عشر، والمفاوضات التي دامت ثلاثة أشهر وأسفرت عن إبرام معاهدة 29 يناير 1682. أثارت هذه السفارة ذكريات «مويط» فأراد أن يعرف قومه بالمغرب والمغاربة وكتب رحلته أو قصته هذه في السنة التي بعدها».
وحسب رأي المتخصصين في مذكرات «مويط» التي نُشرت باللغة الفرنسية، فإنها كانت ترمي إلى إثارة دهشة وتعاطف القراء الفرنسيين، وكان صاحبها بطبيعة الحال غاية في الذكاء لأنه استغل الظرفية التاريخية للترويج لمذكراته في وقت بدأ المغرب يظهر بقوة على «رادار» فرنسا.
الوجه الآخر للأزمات.. مجاعات وحصار في قلب فاس
«أثناء مقامي بسلا، وصلت سفينة هولندية من أمستردام. حملت إلى يهود تلك المدينة بعض التكهنات التي أرسلها يهود هولندا إليهم، مفادها أن المسيح الذين كانوا ينتظرونه منذ عدة قرون، سيولد بهولندا في بداية السنة الموالية التي كانت هي 1672. وعندما سمع اليهود بمثل هذه الأخبار السارة، أقاموا عيدا ثانيا للمظال، ولم يفتؤوا خلال ثمانية أيام كاملة مقبلين على التسليات والمأدبات». هذا الكلام الذي أورده الأسير الفرنسي «مويط» هنا، كان في سياق وصوله الأول إلى مدينة سلا بعد أن تطرق بالتفصيل إلى كواليس بيعه، وكيف أن الذين اشتروه طمعوا في طلب الفدية من أهله في فرنسا. لكنه أكد لهم أن عائلته فقيرة جدا وأنه شبه «مقطوع من شجرة». وهكذا احتفظ به الذين اشتروه وأقام في فترات متفرقة داخل منازلهم للقيام بالأشغال اليومية، لكنه سيعرف منحى أخرى عندما سينتقل إلى ظل المولى إسماعيل بعد وفاة أخيه المولى الرشيد، وسيعرف صعوبات كثيرة لأنه سوف يتحول من السخرة في البيوت، إلى العمل في الأشغال الشاقة التي توفي خلالها آلاف العبيد المغاربة والأسرى الأجانب. يواصل القول متحدثا عن انتقاله إلى فاس: «بعد خمسة عشر يوما من وصولي إلى فاس القديم، المدعو عاميا بفاس البالي، ثارت المدينة ضد المولى إسماعيل. وحيث إنها استنجدت بابن أخيه مولاي أحمد بن محرز، الذي كان مقيما بتازة، أرسل إليها 1500 فارس، و5000 راجل. عُين سيدي من بينهم قيادهم. فتركنا تحت حراسة عبد أسود لم يعطنا خلال الحصار الذي دام أربعة عشر شهرا سوى خبز النخالة وبعض البقول المطبوخة لغذائنا. بحيث إننا كنا سوف نموت جوعا لولا إغاثة المسيحيين الآخرين الذين كانوا يعطوننا الخبز وقليلا من النقود التي بعث بها إلي من سلا القنصل «السير ريموند». لما عاد فاس البالي مرة أخرى إلى طاعة المولى إسماعيل، سيق جميع عبيد القياد والخواص الآخرين الذين انضموا لابن أخيه مولاي أحمد، وكنت من بينهم إلى فاس الجديد لينضموا لعبيد الملك. قد تكون هذه مناسبة لوصف مدينة فاس».
كان الأسير «مويط» هنا يعترف أنه كان على اتصال بالمسؤولين الدبلوماسيين الأجانب الذين جاؤوا إلى المغرب في وقت الأزمة مع المولى إسماعيل، بالإضافة إلى أنه تطرف في مواضع أخرى إلى أنه أجرى اتصالات لمحاولة الهرب من الأسر، لكنها باءت بالفشل، بالإضافة إلى بعض الوساطات التي عرضها عليه المغاربة، وكان الهدف منها كما يقول، تفخيخه للاعتراف بوجود ثروة عائلية بفرنسا، لكنه تظاهر طيلة تلك السنوات بأنه لم يكن يملك أي شيء ولا يمكن له الوصول إلى أي مال في فرنسا بدعوى أنه لا يعرف أي شيء عن عائلته. ويقول أيضا إنه تلقى نصائح كثيرة مفادها ألا يوافق على أية وساطة تعرض عليه ولا أن يطلب مالا من عائلته في فرنسا، لأن العائلة إذا أرسلت المال مقابل فدية له، فلن يغادر أبدا أو هكذا قيل له.
عبيد استُعملوا في الأشغال الشاقة لبناء الأسوار وماتوا بين طبقات الجير
يتحدث هنا الأسير «مويط» عن تجربته مع الأشغال الشاقة في فاس. لم يكن يتوقع هذا الرجل أن حياته سوف تنقلب في رحلته من فرنسا إلى آسيا. ليجد نفسه تماما وجها لوجه مع قراصنة مدينة سلا الذين كانت شهرتهم وقتها كبيرة. لقد سمع عنهم حكايات كثيرة عندما كان في بلاده، وحذره الكثيرون من مغبة ركوب البحر في تلك الأيام العصيبة، لأن سكان سلا كانوا يتجولون بسفنهم في الممرات البحرية ويهاجمون السفن الأجنبية التي كان أغلبها متجها نحو مصر ومنها إلى آسيا. وقد وقعت أزمات دبلوماسية كثيرة بين المغرب ودول غربية بسبب هؤلاء القراصنة الذين أطلق عليهم وصف «المجاهدين» خلال الفترات السياسية التي اختار فيها المغرب رسميا طبعا، قطع علاقاته مع أوربا. لنعد إلى الأسير «مويط»، ليتحدث هنا عن بعض ذكرياته المغربية. وهنا يتطرق لزيارة تاريخية قام بها المولى الرشيد إلى مدينة فاس، عندما كانت تجري بها أشغال تجديد بعض الأسوار، واستُعمل في الأشغال كل الأسرى المسيحيين بالإضافة إلى العبيد. يقول: «عندما جاء ذلك الأمير يوما ليرى هدم الأسوار القديمة، تعجب من كون المسيحيين يتابعون العمل ببطء كبير، فسأل من كان معه عن السبب فقال له القائد زيدان إن المسيحيين تعودوا في بلادهم على شرب الخمر وماء الحياة وبما أنهم الآن لا يشربون إلا الماء، ولا يأكلون إلا الخبز، ارتخت أعضاؤهم وأصبحوا غير قادرين على القيام بالعمل الشاق. فإذا أراد أن تسره رؤيتهم وهم يعملون جيدا، فما عليه إلا أن يأمر بإعطائهم ملء ثلاث أو أربع طاسات من الخمر لكل واحد وسيرى أنهم يعملون بكيفية أخرى. بدأ الملك يضحك وأرسل في طلب شيخ اليهود وأمره بإحضار أربع جرات كبيرة من الخمر. وبعد أن وزعت على الأسرى ذهب الملك يتفسح. ولما رجع اندهش لرؤية المسيحيين يتقدمون في العمل أثناء الساعتين اللتين قضوهما قبل عودته أكثر مما عملوه طيلة ثلاثة أرباع النهار. لذلك أمر الملك اليهود بتزويد المسيحيين كل أسبوع بعشرة قناطير من الزبيب ومثلها من التين، ليصنعوا ماء الحياة. إلا أنه حظر عليهم بيعها أو إعطاءها للمسلمين، تحت طائلة عقوبات مشددة. كان ذلك هو الوقت الذي عين فيه الدون بيدرو رئيسا للأسرى، وقتله بدعوى أنهم خالفوا أوامره».
لم تكن هذه إلا واحدة من الغرائبيات التي عاشها الأسرى الأجانب في المغرب. والذين كانوا خاضعين لمزاج الساسة وتقلبات العلاقات بين المغرب وبعض الدول الأوربية. فقد حكى هذا الأسير في مقطع آخر، كيف أنه رأى بعينه عملية رمي العبيد والأسرى المستعملين في البناء، بين طبقات الجير المستعمل في بناء وترميم الأسوار. وهي الرواية التي تتطابق مع ما حكاه الكثيرون عن أجواء الأشغال الشاقة لبناء أسوار المدن. حدث هذا في أماكن متفرقة من المغرب، واستعملت كل الوسائل لتسريع وتيرة الأشغال كما رأينا. إلا أن العبيد والأسرى الأجانب كان وضعهم أسوأ من بقية العمال الذين كانوا يُجبرون على العمل، أحيانا بدون مقابل. فقد كان مصير الذين يتعبون أو يمرضون أثناء العمل، هو أن يزج بهم بين طبقات الطين والجير المُكون للسور، ويتم دك أجسادهم وتغطى بطبقة أخرى من المواد البدائية للبناء، وتستمر الأشغال وكأن شيئا لم يقع.
تبقى قصة هذا الأسير «مويط»، والمصادر الأجنبية التي تحدثت عن العبودية والأسر، غاية في الإثارة، هذا طبعا دون إغفال دورها في كشف جزء مهم من التاريخ المسكوت عنه في المغرب.