د. محمد فخرالدين
لم يعد زواج ليلة تدبيره عام، لقد صار الإعداد له بحكم التغيرات السريعة يشبه أكلة سريعة سرعان ما يتبخر معها وهم الشبع، وأغنية قصيرة جدا لا تدوم إلا بضع دقائق لا تضمن لذة الاستماع ولا تهذيب الذوق ـ وفي خضم هذه التغيرات وهذه السرعة ومؤثرات أخرى سنأتي على ذكرها تغيرت العلاقة بين الرجل والمرأة وأثرت بشكل جذري على مؤسسة الزواج ـ وقد يتحول الزواج في مستقبل الأيام من غاية إلى وسيلة فقط، أفكار خطيرة رائجة سيكون ضحيتها الأطفال والجيل الناشئ والمجتمع..
نلاحظ مع ازدياد نسب الطلاق في المجتمع والعزوف الملاحظ عن الزواج، أن الأمر ليس بسيطا ويحتاج إلى استراتيجيات مبنية على دراسات عميقة للتحولات الاجتماعية ذات الطابع الثقافي والأنثروبولوجي أساسا، وهو ما لا نستحضره في الغالب ونقلل من شأنه أثناء لحظات التشريع، وهذا في المقابل يحد من فعالية النصوص في الواقع ونفاذ القانون الذي لم يوجد إلا لخدمة المجتمع وتطوره..
وذلك أننا ـ خطأ ـ نعتبر مؤسسة الزواج خارج الشأن الثقافي، ومجرد مؤسسة قانونية شرعية ودينية، وأيضا لأننا لم ندرس مجتمعنا بشكل كاف واعتبرنا الدرس الأنثروبولوجي لهذا المجتمع من شأن الأجانب فقط ، وكذلك لقلة علماء الأنثروبولوجيا الذين يستطيعون القيام بدراسة ثقافة المجتمع والتحولات التي ألمت به في شموليتها..
اللامخطط له واللامنتظر
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن مؤسسة الزواج هي مؤسسة اجتماعية وثقافية أساسا وأغلب المشاكل التي تنالها تأتي من هذه الجوانب، فالزواج أصلا لقاء بين معطيات ثقافية مختلفة مرتبطة بالنوع والبيئة والوسط والتنشئة الاجتماعية والمستوى الاقتصادي ـ مما يوفر له حظوظ النجاح والفشل..
إنه تصادم مستمر مع اللامخطط له واللامنتظر في علاقات تنبني في كثير من الحالات على الصدفة والتقليد والمحاكاة وفي أحسن الأحوال على النية والسير إلى الأمام والكمال على الله، ومواجهة اللايقين بالفأل الحسن دون استحضار المشاكل والعقبات والانكسارات التي يمكن أن يعني منها اجتماع شأن الأسرة كفقدان الشغل والحوادث الغير المنتظرة المتعددة.. وما يهم أكثر هو التفكير في التأمين على الزواج والاستقرار الأسري..
وهناك عدد من التمثلات للزواج في الثقافة المغربية والعالمية تتحدث عن صعوبات الزواج وضرورة الاستعداد له والاختيار الجيد.. مثل المثل الأمازيغي الحصاد قبل الزواج ..زواج ليلة تدبيرو عام، حل عينيك قبل الزواج أما بعده غير غمضهوم..
فالزواج حقل أشواك كما يقول الفلنديون، وهو يعيد إلى الواقع كما يقول الألمان الحب أعمى، لكن الزواج يعيد إليه البصر، واختر زوجتك أيام الحصاد لا أيام الرقص كما يقول الغسلاف، والسعادة تأتي أساسا من التغافل والتنازل كما يقول الدنماركيون ..الزوج الأصم والزوجة العمياء هما أسعد الأزواج.
ولأن المستقبل غير مضمون كما قال لي أحد العدول من مازاغان أن الحرث ما يضمن صابة والزواج ما يضمن ولاد.
وفي بعض الأحيان تكون هذه العوامل والاختلافات الثقافية وعجز طرف عن فهم ثقافة الآخر وطغيان الفكر المادي سببا في انحلال العلاقة الزوجية، ولا يكفي القانون المسطر لحل المشكل وإنما الوعي به وقدرة هذا النص أو الإجراء على الجواب على أسئلة الواقع..
فالبداية ليست هي النهاية وليس دخول الحمام مثل خروجه كما يقال، وبداية الزواج في الغالب لا علاقة لها بنهايته ـ وهو لا يثبت على حال وإنما يمر فيه الطرفان من مراحل متعددة ليست متشابهة وتعرضهما لتحديات، فغالبا ما تنكشف المظاهر وتظهر الحقيقة وتلعب العوامل الاقتصادية والنفسية والأخلاقية والثقافية دورها أيضا في تعزيز العلاقة الزوجية والصبر عليها أو العكس في التفعيل المتزايد لمسطرة التطليق للشقاق والعنف بين الأزواج وعدم تيسير فهم الاختلاف الطبيعي بين الجنسين، ومتى لم يكن اختلاف بين الرجل والمرأة، وهو قديم قدم الأسطورة والحكايات وطقوس الزواج، حيث يتعرض الرجل في بعض الثقافات قبل الزواج للضرب أثناء حفل رمزي ليختبر مدى قدرته على التحمل والصبر على ما قد تأتي به الحياة الزوجية من مشاق، ومنذ ما يروى عن قصة أبينا آدم وأمنا حواء مما يشير إلى القطائع والطبائع المختلفة لكل من الرجل والمرأة.
إن ما نلاحظه اليوم من صراعات أسرية ينبئ بأزمة حادة وقد يعصف بالعلاقات الاجتماعية، على اعتبار أن الأسرة هي نواة الأولى لكل مجتمع قبل القبيلة والمدينة والحضارة..
تماسك الأسر في مهب الريح
كلما كانت الأسر مستقرة كان المجتمع مستقرا، وإذا كانت الأسر في مهب ريح الغلاء وغياب الأمن الأسري ساءت العلاقات الزوجية وتعرض الجيل الناشئ لسوء المعاملة وتكرس في أعماقه رفض العلاقات السوية والاستهانة بها والعنف، وقد عززت وسائل التواصل الاجتماعي والإدمان على العالم الافتراضي هذه الظواهر السلبية، وأسرع في خلق التحولات الثقافية والتمثلات السلبية المتعلقة بالأسرة، وخاصة أنها وفرت وسائل تساعد على التفكك الأسري والتطبيع مع مظاهر العنف ومنه العنف ضد الأصول..
والحقيقة أن تماسك الأسر في مهب الريح في غياب الدعم الاجتماعي والنفسي وأحوال السكن المناسبة وظروف العيش التي تدفع الأسر إلى الاقتراض والاستدانة والهجرة والهشاشة وظروف الغلاء .
فما هي حقيقة العلاقات الاجتماعية الحالية في مجملها في القرى والحواضر وبين مختلف الفئات، وهل لها علاقة بالتحول الاجتماعي القيمي وانحدار الطبقة الوسطى وتراجع القيم التقليدية التي كانت تؤطر الزواج والهجرة من البادية إلى المدينة، والأزمة الاقتصادية كغلاء تكاليف السكن والتعليم والصحة، وهل له علاقة بتراجع فرص الشغل والدخل الفردي وقدرة الأسر على الادخار؟، لاشك أن العوامل المؤثرة معقدة فيها ما هو اقتصادي ونفسي واجتماعي وثقافي..أي أن الأمر يعود إلى تحولات ثقافية عميقة أصابت المجتمع والفرد.. لكن تبقى للعوامل الثقافية دورا أساسيا في نجاح الزواج أو فشله، فلها علاقة بتمثل وتصور الفرد للأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة، حيث أصبحت مجموعة من الأشكال الثقافية تروج للعنف بين الجنسين مثلا الأغنيات الرائجة التي ظهرت مؤخرا، والتي أصبحت تتغنى بالمواجهة والتحدي والصراع بين الجنسين، من خلال عبارات مشمئزة «أنت باغا واحد يكون دمو بارد.. أنت غير دمدومة، ربعة منك ما يخلعونيش.. »
ناهيك عن الأفلام والمسلسلات ـ النساء قادمون ـ والفيديوهات التي تؤجج الصراع وتنشر العنف وتبرر الخيانة ومظاهر الفساد المختلفة.. والتي تزداد تأثيرا مع الأمية الثقافية وانحصار الوعي المدني..
مما أدى إلى انتشار أكبر لفكرة الطلاق وربطها باستعادة الحرية المفتقدة.. والتمثل الايجابي له حتى إن هناك من أصبح من النساء والرجال من يقيم احتفالات بالمناسبة..
لقد أصبح للاعتبارات المالية دور مهم في زاوية نظر الزواج لكل فرد من الجنسين للآخر، فالكثيرون أصبحوا يفضلون الزواج بموظفات كضمان آمن، وكثيرات برجل غني لأسباب مادية رغم أن الخسارة في مثل هذا الاختيار قد تكون كبيرة وذهب المثل الشعبي أدراج الرياح والذي يقول لا تتزوج من أجل المال وفي وسعك اقتراضه بفائدة أدنى..
ومما يحكى في السياق أن رجلا حكم عليه قاضي الأسرة أن يعطي نصف مرتبه لزوجته، فخرج يضحك من الجلسة، فأعاده القاضي وسأله عن سبب ضحكه وابتهاجه خاصة أن زوجته ستأخذ نصف مرتبه، فقال له كيف لا أفرح وسيبقى لي نصف مرتبي ، فقد كانت تأخذ المرتب كاملا..
جسْر الأسرة..
استنادًا إلى بيانات وزارة العدل المغربية فإن حالات الطلاق تحدث بمعدل 8000 حالة في الشهر، وأكثر من 200 حالة في اليوم، وحوالي 11 حالة في الساعة الواحدة. وتنقل هذه المصادر أن.. مؤشرات الطلاق في المغرب أبان في «السنوات الأخيرة عن كون نسبة الطلاق تأخذ منحى مرتفعا»، وأن 80 في المائة تقريباً من حالات الطلاق «تأتي من التوافق بين الزوجين على إنفاذ الطلاق» (طلاق اتفاقي).
وتعلن الدوائر الرسمية عن برنامج جسر الأسرة أي «مقاربة الأسرة المغربية، باعتبارها لبنة أساسية في التماسك الاجتماعي، التي ستتم بمواكبة الأزواج والتحسيس قبل الزواج والوساطة الأسرية، بالإضافة إلى أنها فضاء محوري لتملك ثقافة المساواة والحقوق».
و«برنامج جسْر الأسرة من شأنه أن يساعد الزوجين قبل الزواج وبعده عبر مواكبة تعتمد الاستفادة من تكوينات وتنشئة اجتماعية سليمة»، مع التوضيح أن «الهدف أيضا القضاء على ظواهر التسول لدى الأطفال واستغلالهم من جذورها».
وإذا كانت هذه الأهداف تظهر جيدة فإلى أي حد هي قابلة للتنفيذ إذا لم ترافقها تدابير وإجراءات تشجع الشباب على الزواج الايجابي بضمان الشغل لهم بعد تخرجهم من الجامعات، وتتكلف بالأطفال في سن التمدرس وتعتني باقتصاديات الأسر...
وكيف سيكون تكوين ما قبل الزواج إذا تزامن مع الأمية والفقر والهشاشة، وهل عندنا أطر كافية قادرة على تأمين النتائج وضمان استمرار الزواج..
وبما أن أغلب المشاكل تظهر بعد الزواج كما تقول الثقافة الشعبية، «إلا شفتي جوج ملاقين عرف راه الصبر على واحد»، وتكون في الغالب نتيجة تبعات مادية وتغير الظروف الاجتماعية للأسر وعدم قدرتها على تحمل تبعات جعلت المواطن يواجه مصيره بمفرده أمام مؤسسات ذات طابع ربحي خاصة في الصحة والتعليم، فهل قمنا برصد هذه الصعوبات واعددنا ما يلزم من حلول...