كانت صبيحة يوم 21 يناير 1793 الباردة صبيحة استثنائية ومهيبة، حيث سادت أجواء جديدة وغريبة عاشها الفرنسيون الباريسيون الذين حجوا إلى شوارع المدينة على طول الطريق من قصر فرساي إلى ساحة لاكنكورد، لتتبع الموكب المهيب الذي يحمل الملك لويس السادس عشر في اتجاه المقصلة ليقطع رأسه.
في الليلة السابقة على يوم الإعدام، وبعد أن سمحوا للملكة بتوديع زوجها وتقبيل يديه وجفنه البارد، طلب لويس السادس عشر إحضار وجبة عشاء خفيفة ونسخة من الإنجيل ليصلي، وورقة وقلما ليكتب آخر وصية ملكية لعائلته.
وقد توجه بوصيته لله أولا بأن يسامحه عما اقترفه كإنسان وتوجه ثانيا للفرنسيين بأنه كان ملكا فعل كلما في وسعه لإسعاد الفرنسيين وإرساء التسامح والصلح بينهم، وتوجه ثالثا لابنه بأن يبقى، إن تولى الملك من بعده، أن يبقى سموحا وأن يغفر للجميع وأن لا يجعل من إعدامه ذريعة لمعاقبة فرنسا والفرنسيين. وتوجه أخيرا لزوجته أن تسامحه، إذ ستظل روحه تحبها إلى الأبد.
لم ينم الملك طيلة ليلة 20 يناير، وفي السابعة والنصف من صبيحة اليوم الموالي تناول فطوره هادئا، وارتدى وزرته نحاسية اللون ومعطفه الأحمر وقبعته السوداء (وهو لباس شبه حربي)، ربما كان يرجو الملك من لباسه أن يفهم كل من يراه ميتا أنه شهيد معركة ما في حرب ما.
يروي المؤرخان «ألبير سيبول» و«سيباستيان ميرسيي» بالتفصيل آخر أيام لويس 16 قبل إعدامه، وخصوصا لحظة وصول الملك إلى الساحة وصعوده منبر المقصلة ورفضه التام أن يتم تكبيله. بحيث عبر عن مرونة كبيرة واستسلام غريب في الانصياع لكل جزئيات الإعدام. ويقول المؤرخان بأن لحظة وضع رأس الملك في المقصلة شابها صمت رهيب، وتوقفت الطبول وهي اللحظة التي صاح فيها الملك بآخر كلمة قبل قطع رأسه: «شعبي... فرنسا وطني... إني أموت بريئا».
لم يضعوا رأس الملك في المقصلة بشكل سليم يحترم حرمة الإعدام وأعرافه، بحيث يروي المؤرخ سيباستيان ميرسيي كيف أن جمجمة الملك انشطرت وانقسم فكه لأشلاء متناثرة وتناثر شعره من على فروة رأسه.
إعدام لويس السادس عشر كان أهم حدث طبع تاريخ نشوء الجمهورية الأولى بفرنسا، عقب اندلاع الثورة الفرنسية في عام 1789. حيث حكم آخر ملوك فرساي فرنسا وهي مشتعلة بنيران ثورات عديدة خرج فيها فلاحون وتجار مؤازرون برجال سياسة وقانون، هدفهم إسقاط الملكية ووضع حد لقانون الحكم الإلهي، وتعويض هذا النظام بنظام جمهوري وضعي تكون فيه السلطة تحت أقدام جمعية عامة مركزية منتخبة.
قبل واقعة الإعدام بسنوات، أطلق الملك لويس السادس عشر جملة من الإصلاحات الدستورية والحقوقية الكثيرة: فقد كان أول ملك فرنسي يعترف ثم يشرع بمبدأ حقوق الإنسان، وأنهى التعذيب كممارسة عقابية سجنية وأنهى العمل بالعبودية في مرافق الدولة وفي المجال الملكي، كما أنهى العمل بضريبة الحياة على اليهود، وأصدر العديد من المراسيم التصحيحية والتصالحية أهمها مرسوم التسامح مع البروتستانت.
لكن إصلاح مجال حقوق الإنسان لم يشفع له أمام حشود المحتجين والثوار الذين حركتهم في الأصل مطالب اقتصادية ومعيشية صرفة. والأوراش التي أطلقها لويس السادس عشر في المجال الجبائي للفترة ما بين 1774-1782 باءت كلها بالفشل. وهو الفشل الضريبي الذي جعله يعلن في سنة 1784 عن إحداث «ضريبة مباشرة عامة» خالية من كل الامتيازات الضريبية التي كان يستفيد منها النبلاء والطبقة البورجوازية الناشئة في السابق. وهي ضريبة ظن بها الملك أنها ستعود بالنفع على الفقراء ومتوسطي الأوضاع، بحيث اقترف خطأ إعطاء سلطة مراقبة تنفيذها لمجالس شعبية. وهو الإجراء الذي ألف قلوب الطبقات الوسطى والأعيان والنبلاء عليه.
تحت ضغط الثورة ومنفذيها ومنظريها من المحامين ورجال القانون، ومن أشرسهم المحامي الثائر Robespierres اضطر لويس السادس عشر إلى «التخلي عن صلاحياته المطلقة والاكتفاء بوضعية ملكية دستورية محدودة الصلاحيات. وهو أيضا الإجراء الذي رفضه «الملكيون» بفرنسا المستفيدون التاريخيون من نظام الملكية المطلق. فنشبت حرب أهلية بين الملكيين والثوار اضطر معها لويس السادس عشر إلى الفرار من فرنسا، لكن ألقي عليه القبض من طرف الثوار.
في 29 شتنبر 1792 تم ترحيل العائلة الملكية من قصر فرساي، وبدأ بعض رواد الثورة حملة مسعورة ضد الملكية تزعمها Saint Just، الذي اشتهر بمقولته الشهيرة التي صاح بها أثناء محاكمة الملك: «لا نضيع وقتنا في محاكمة السيد لويس أو الملك لويس الأخير... فالملك هو العدو الطبيعي للشعب».
حدث أثناء المحاكمة والتحقيق مع لويس السادس عشر أن اكتشفوا في قصر فرساي صندوقا أسود حديديا سريا يضم مخطوطات عائلته ومراسلاته، وهي الوثائق التي حاولوا في المحاكمة أن يسقطوا عليها صفة وثائق التآمر ضد فرنسا مع أعدائها. وقد شكلت هذه الوثائق (بالرغم من تفنيد المؤرخين لهذه المزاعم)، النواة الصلبة لبداية التخطيط لإعدام الملك.
ولكي تأخذ محاكمة لويس السادس عشر منحى متسارعا، خاطب الثائر Robespierres أعضاء المحكمة قائلا: «الشعوب الثائرة لا تلقي بالأحكام بل باللهب... ولا ننتظر من الشعوب أن تتهم ملكا، بل ننتظر بأن تلقي به الشعوب في العدم... يجدر بالجمعية العامة أن تعتبر هذا الماثل أمامها خائنا للشعب» (ألبير سيبول).