يزخر عالم الشبكة العنكبوتية بالعديد من المدونات في شتى المجالات، لكن اللافت للنظر ظهور مدونات متخصّصة في نقل أعمال فكرية وإبداعية قلّما أولتها المراكز الثقافية الأهمية التي تستحقها. وفي غياب أيّ اهتمام لدور الترجمة والمؤسسات الثقافية في إغناء المشهد الثقافي ورفده بكل ما هو استثنائي ومدهش من نصوص إبداعية وفكرية، وتكريس بعد أحادي في التداول الثقافي ما خلق هامشا واسعا وجد ضالته في وسائط التواصل الحديثة التي فكّت عزلته..، جاء الاهتمام بالتدوين والمدونات بالعديد من الدارسين والباحثين مثل الباحث الإعلامي المصري محمد عبد الحميد من خلال كتابه «المدونات.. الإعلام البديل» والكاتب العراقي شاكر لعيبي في دراسته «أدب المدونات.. نحو أدب جديد». كما تعدّ الكاتبة السعودية هديل الحضيف أشهر المدونات العربيات، خاصة في منطقة الخليج عبر مدوّنتها الشهيرة «باب الجنة» التي عمل والدها الكاتب محمد الحضيف على نقل مواد مدونتها إلى كتابين ورقيين «غرفة خلفية» و«قارع باب الجنة» بعد وفاتها المفاجئة وهي في عمر الزهور. كما نعثر على مدونات جديرة بالقراءة والمتابعة، من بينها مدونة الشاعر والمترجم المغربي رشيد وحتي agorapoetica.blogspot.com. تتميّز مدونته بعرض مادتها المترجمة في شكل جمالي مثير ومغرٍ بالقراءة إضافة إلى تنوع في الاختيارات الدالة على ذوق شعري رفيع. أمّا الشاعر السعودي اليمني الأصل محمد الضبع فيكتب في صدر مدونته almetaf.com هذه العبارة الجميلة (أترجم كلّ أسبوع لأحافظ على لياقة الحياة) يختار نصوصا جذابة تعرف متابعة واسعة من القراء دأب على تجميعها وإخراجها في النهاية ورقيا في كتابين جميلين: «أخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة»، والثاني بعنوان «قصائد آخر ليلة على كوكب الأرض». أما المدوّن التونسي محمد نعمان فيصدر مدونتين الأولى nomene.blogspot.com مخصصة بالكامل لترجمة أعمال الكاتب والمفكر الفرنسي جورج باتاي والثانية raisondesade.blogspot.com لنقل أعمال الكاتب الفرنسي المثيرة للجدل الماركيز دو ساد. المدونتان معا يعتزم صاحبهما إخراجهما في الشهور القادمة على شكل مجلة إلكترونية بعنوان «انتهاكات». إضافة إلى الكاتبة العراقية المقيمة في هولندا ميادة خليل في مدونتها aswhatblog.wordpress.com حيث تقدم مختارات جيدة وصعبة المنال من الكتاب، خاصة الهولنديين، من بينهم، على سبيل المثال، الشاعر الهولندي المعروف باسم آرماندو . وأخيرا مدونة «قراءات» للشاعر المصري أحمد شافعي (readingtuesday.blogspot.com) تسلط الضوء على الجديد في الأدب الغربي في الشعر أو القصة والرواية قليلا ما يتمّ الانتباه إليه، مثل عبد الرزاق قرنح الحائز أخيرا على جائزة نوبل للآداب.
محمد عبد الحميد: المدوّنات.. الإعلام البديل
... منذ أنشئت الإنترنيت وتطورت شبكة الويب وانتشرت خدماتها والسؤال المطروح، بصيغ مختلفة، يدور حول موقع شبكة الإنترنت من وسائل الإعلام وتأثر الأخيرة بالتطور السريع للشبكة وخدماتها التي جعلت جمهور المتلقين يجد في هذا التطور والخدمات المتعددة بديلا عن وسائل الإعلام..، ما دامت الخدمات الجديدة للشبكة تلبّي حاجاته التي يستهدفها من التعرف إلى وسائل الإعلام.
... وجد جمهور المتلقين ضالته في خدمات الجيل الثاني لشبكة الإنترنيت وبصفة خاصة شبكة الويب، يعتمد عليها في تلبية حاجاته إلى الإعلام والمعلومات، وبناء الشبكات الاجتماعية والمجتمعات الافتراضية، ويدعم الدور الجديد الذي ساعدت الشبكة على القيام به، هو دور المشارك في العملية الإعلامية بالنقد والتعليق، بعد أن كان الدور يقف عند حدود القبول أو الرفض والإقبال أو العزوف. بل إن جمهور المتلقين، بفضل الخدمات الجديدة، تجاوز حدود المشاركة إلى القيام بدور منتج الوسيلة والمحتوى معا.
وتمثلت هذه الخدمة في سجلات التدوين على الشبكة التي يطلق عليها اصطلاحا المدونات Blogs. وأتاحت خدمات الشبكة للمستخدمين إمكانيات إنتاج الوسيلة، وتحرير محتواها ونشره على الآخرين وتبادل الرأي والتعليقات حول ما ينشر أو يذاع في هذه المدونات. ومع تطورها وتزايد أهميتها أصبحت مصدرا للأخبار ووسيلة لتحقيق العديد من الوظائف وإشباع الحاجات. بل إنّ وسائل الإعلام التقليدية استشعرت قيمتها الاجتماعية والجماهيرية والعالمية فبدأت توظيفها على مواقعها في محاولة للإفادة بهذه الوسيلة الجديدة، التي أصبحت تنافس وسائل الإعلام ومواقعها على الشبكة، خصوصا بعد أن استخدمت التسجيلات الصوتية والفيديو في النشر والإذاعة، بجانب النصوص والصور الفوتوغرافية وروابطها التي بدأت بها المدونات.
مع ظهور المدونات وانتشارها بدأت البحوث والدراسات الأكاديمية في الإعلام والصحافة في دراستها منذ أن بدا بالإشارة إليها على أنّها ظاهرة جديدة على الشبكة. وبدأت بالسؤال التقليدي الذي يدور حول موقعها من وسائل الإعلام. حتّى تنبّه الكثيرون إلى زيادة عدد مواقع المدونات إلى ما يزيد عن مائة مليون موقع... وأصبحت وسيلة منافسة لوسائل الإعلام، يتبناها جمهور هذه الوسائل نفسه باعتبارها أداته لتلبية حاجاته الإعلامية.
لم يغفل بحث أو مقال من المدونات أو خصائصها أو استخداماتها التعريف بها سواء في إطار الكل أو من خلال العناصر أو المكونات لهذه المدونات Blogs. حيث إنّ التعريف بدأ اجتهادا يقوم على وصف عملية التسجيل أو التدوين على شبكة الويب Weblog وصكّ هذا المصطلح جورن بارجر Jorn Barger في عام 1997. والأصل في هذا المصطلح كلمة Log وهي معروفة بمعنى التسجيل والتدوين ليوميات السفن أثناء الإبحار. ولأنّ ما يتم هو تسجيل أو تدوين على شبكة الويب Web، فقد تمّ صكّ المصطلح ليجمع بين العملية وموقع تنفيذها فكان مصطلح Weblog وهو ما يعني سجل الويب Log of the Web. وفي منتصف 1999 قام بيتر مرهولز Peter Merholz بشقّ المصطلح إلى شقين We blog. وبذلك أصبح الصكّ المختصر هو المصطلح Blog الأساس حتّى الآن، ومنه جاءت المشتقات الحالية لهذا المصطلح.
... وكحدّ أدنى، يمكن تعريف المدونات اتصاليا بأنّها: وسيلة من وسائل الاتصال على شبكة الإنترنت، وشكل من أشكال صحافة الشبكات ينشئها أفراد أو جماعات لتبادل الأفكار والآراء حول الأخبار أو الموضوعات ذات الاهتمام المشترك، التي يطرحها الناشر على صفحتها بنظم الإتاحة الفورية، أو الاستدعاء اللاحق من أرشيف الرسائل، والروابط النصية الفائقة. دون قيود على حرية القارئ في المناقشة والتعليق على الرسائل المتاحة، بالنصوص أو الوسائل المتعددة. وكذلك حريته في التجول بين الروابط، واستدعاء الرسائل والمداخلات السابقة.
شاكر لعيبي: أدب المدونات.. نحو كتابة عربية جديدة
... لقد أوجدت هذه الحلقات من المدونين سمات نصية مشتركة وعلينا أن نعرف، بعد بعض الوقت، كيف نفسر اتّفاق الكثير من المدونين على تلك السمات. ولعل في العودة إلى الخلفيات الثقافية القائمة على مفهوم (اليأس الجوهري المشترك) من (الأدب الرفيع) غير المصرح به دائما لكن المعتمل اعتمالا في روح النصوص ما قد يؤول طرفا من الظاهرة. وانطلاقا من دلائل عدة يمكن رؤية ولادة جيل ثقافي ذي اهتمامات مغايرة وتطلعات مختلفة، طال وقت عدم الاستماع إليها كما يجب، فتبلورت لديه بسبب إمكانيات الاتصال الإنترنيتي، عناصر ثقافية موحدة وأدوات تعبير مشتركة ما انفكت منذ أكثر من عشر سنوات عن التبلور والصيرورة لكي تصاغ في إطار سمات أسلوبية. بعبارة أخرى، فإن هذه السمات المشتركة المفترضة تعبر في الجوهر عن سمات عامة لجيل ثقافي جديد يظهر هذا من جهة أخرى في انهماك القراء الافتراضيين عبر التعليقات بتعزيز وتوطين وتشجيع مفهومات المدونين وأفكارهم. ثمة اتفاق مؤكد بينهم على نقاط أساسية مثلما ثمة بينهم سجال بديهي.
... إنّ أفضل نصوص المدونات تنطلق من نزوع فردي وتبدو المدونة وكأنّها عالم شخصي حميمي غير قابل للانتهاك. ساخر بشكل مرير أو متجهم بشكل لا شفاء منه وهو يدير الظهر بدرجات تقل وتكثر للحس السليم المتفق عليه. تبدو الفردية وكأنها رد فعل احتجاجي على التنميط الأدبي الجماعي والتراتبية الاجتماعية كليهما، حيث ثمة رفض للأسلوب الموحّد في عالم الأدب والثبات القيمي والوظيفي في السلّم الاجتماعي. من هنا تلك النبرات غير المألوفة المقولة صراحة أو تلميحا في نقد الحاضر. إنّ هجاء الراهن والتأسي عليه هو سمة بارزة في أدب المدونين وهي تقال عادة بطريقة شخصية لا تقيم اعتبارا إلا لمنطقها الداخلي مهما كانت حدة التناقض أو التماسك فيه ومهما أصيب النص أدبيا بعثرات في الصياغة التي تذهب حدّ الاغتراف من العامية ومن النصوص المترجمة ومن كل ما يتيسر تحت يدها لقول حميميتها.
إننا نعلم بأن النزعة الفردية بمعنى امتلاك أسلوب شخصي في الكتابة هو أمر محبذ في الأدب، لأنها دالة على ما يسمى عادة بأصالة الكاتب وعدم نهجه على طريق مسلوك إلا قليلا، وعلى فرادته. من هنا وبسبب الاهتمام بكتابة شخصية محضة ومن دون مزاعم عليا سوى التعبير عن شخص كاتبها تشير نصوص عدة من حيث أراد كاتبها أو لم يشأ إلى قيمة أدبية جنينية جالبة للانتباه وإلى مشروعات جمالية منشقة عن الجماليات التي اعتبرت رفيعة المستوى حتّى الآن. ثمة جماليات أخرى علينا الشروع في دراستها منها جماليات القبح وجماليات الشر وجماليات الاحتجاج وجماليات البوح بالحميمي الذي لا يباح به عادة.
لا يوجد الكثير من المبررات في وصف أدب المدونات «بالفطرية»... الفطرية مفردة تحاول تلمس الهاجس الفردي بالأحرى، وهي ترى إلى «كمية» النصوص قبل رؤية «نوعية» الظاهرة. وترى إلى دوافع البعض، بل الكثير المتزايد، من كتاب المدونات في التنفيس عن هواجسهم المحبوسة، قبل أن ترى إلى خيرة النصوص المدونة التي تشكل بذرة أدبية طرية ستنمو بعد حين وتصير فرعا أدبيا، علينا القبول به.
صحيح أنّ «معظم أصحاب هذه المدونات لا يعترفون بأنّهم يكتبون أدبا بالمعنى المتعارف عليه من كلمة «أدب» وإنما يكتبون عن حياتهم وهمومهم ورؤاهم ونظرتهم للكون والحياة والمجتمع بأسلوب سهل مباشر خفيف ليس فيه الجماليات التي نراها في القصة أو الرواية» كما يقول أحد المتابعين، لكن من الصحيح كذلك عدم الاعتراف هذا يشكل دليلا على اهتمام كبير ونوع مستحدث من الكتابة الأدبية، مستحدث عبر قنوات تقنية معاصرة، وقبل ذلك كله مشحون بالصدق. علينا قول كلمة عن مفردة «الصدق» لكيلا يساء تأويلها. فقد شهد الأدب العربي، فلنقل الورقي، في العشرين سنة الأخيرة كتابات ونصوصا منمطة، سواء لجهة قاموسها الفقير أو لجهة اهتماماتها المصابة في أحيان كثيرة بالبرود والافتعال والابتسار والاستعادة المملة.
هديل الحضيف.. قارِعُ باب الجنة
من هو الآخر؟
3 غشت 2005
أمضيت اليومين الماضيين، في قراءات مختلفة عمّا اعتدته، من قراءات للإنتاج الأدبي.. شعرا كان أو نثرا. ربما يخطر ببالي أن أقرأ في (النقد) بهذه المتعة، وأن أجدني أبحث بشغف عن مواضيع لم تستهوني يوما.. (الجنوسة)، النقد (النسوي)، (الأبوة/ البطريركية) وأخيرا، وأكثرها تشويقا (الآخر).
كان مصطلح (الآخر)، حسب تعريفه المقتضب والمركّز، في كتاب (دليل الناقد الأدبي) للدكتور ميجان الرويلي، والدكتور سعد البازعي، بابا واسعا، لدخول عالم لم يكن لي منه سوى القليل، وغير الواضح تماما.
(الآخرون).. هم الجحيم يقول سارتر. خطر ببالي.. أيّ (آخرون) يتحدث عنهم سارتر، ومن هو الآخر الذي رادفه (شارل فوكو) بالموت؟
هل يتمّ تصنيف الآخر.. حسب أيديولوجيته؟ أم عرقه، أم جنسه؟ أم عنصره؟
(الآخر) حين يصنف كعدو، فذلك يعني إسقاط مصطلح (الآخر)، وإثبات صفة (عدو) كهيئة رئيسة، لا تحتمل التأويل بأيّ لفظ آخر.
أجدني أتفق مع جاك ديريدا في قوله: «الأنا لا تستطيع خلق (خارجية) ضمن نفسها، دون أن تصطدم بالآخر»، فالآخر هنا هو (المختلف) وليس (المخالف) الذي يمثل حضوره: الكينونة، وإثبات الوجود.
(الآخر) هو: «بضدها تتميز الأشياء».
نهاية.. من هو (الآخر) فعلا؟
وهل يستحق الحوار معه؟
وإذا ما تمّ تغيير طريقة (الآخر)، لتكون طريقتنا (نحن)، فكيف نختلف؟
أعتقد بأني سأعود إلى حديث آخر عن (الآخر).. قريبا.
كلّ عام.. وأنا..؟!
18 أبريل 2008
منذ شهر وأنا أعد نفسي بالغد، رتبت لاحتفال كبير، وخططت لكل شيء فيه، التفاصيل الصغيرة اعتنيت بها جيدا، وحرصت أن يخرج الحفل كما يليق بالعام الخامس والعشرين من حياتي. فكرت بأني يجب أن أحتفل جيدا هذا العام، وأحتفل وحيدة، لا أريد مباركات الأصدقاء، ولا مجاملات المعارف، فوصولي لمنتصف العمر شيء يخصني وحدي، ولا أظن أن أحدا سيذكره لو لم يذكر ذلك في صفحة (فيس بوك)، أو منبه الميلاد الذي راسلني الجميع بشأنه، طالبين مني إدراج تاريخ ميلادي، لئلا ينسوه!
بخصوص فكرة منتصف العمر، فقد كانت نابعة من أمنيتي القديمة والمستمرة بأن أموت عند سن الستين، لذا فالسنوات منذ غد وحتى بعد خمس سنوات، هي سنوات منتصف العمر الذي حددته لنفسي، وسيكون من المهم أن لا أقصر مع نفسي بشيء خلالها، وأدللها قبل أن يبدأ الزمن بالعدّ لي تنازليا..
غدا ميلادي، وأعرف أن ذلك لا يهم أحدا حقيقة، حتّى والديّ لا يعنيهما كثيرا يوم ميلادي، رغم أني ابنتهما البكر، لكن 7 أتوا من بعدي يشفع لهما نسيانهما، أو تناسيهما.
كلّ عام وأنا بخير جدا، كلّ عام وأنا أجد في نفسي ما يستحق الاحتفال، كلّ عام وأنا أعثر على مبرر جديد لأحبني!
الغياب
21 أبريل 2008
صباح الاثنين.. كان، وكانت هديل في فراشها.. قد دخلت في (غيبوبة)، لم يُعرف سببها، وتمّ نقلها إلى المستشفى.. لتستقر على السرير رقم (14)، في وحدة العناية المركزة.
الرحيل
16 مايو 2008
في صبيحة يوم الجمعة، رحلت هديل إلى الرفيق الأعلى، بعد غيبوبة استمرت 25 يوما.. مثل عدد سنوات عمرها، الذي عاشته في هذه الحياة، وملأته إبداعا، وإنجازات وخلقا جميلا.. وصيتا حسنا..
رشيد وحتي.. agorapoetica
فرناندو بيسوّا: كلّ رسائل الحبّ..
كلّ رسائل الحبّ مدعاة للسخرية.
لن تكون رسائل حبّ
لو لم تكن مدعاة للسخرية.
***
أنا أيضا، آنذاك، كتبتها
وكانت كالأخريات،
مدعاة للسخرية.
***
رسائل الحبّ، إن كان ثمة من حب،
ينبغي أن تكون مدعاة للسخرية.
لكن في آخر المطاف فالناس
الذين لا يكتبون أبدا رسائل حب
هم الذين يكونون مدعاة للسخرية.
***
كم أودّ العودة لزمن كنت أكتب فيه،
دون التنبّه لذلك،
رسائل حب مدعاة للسخرية.
***
الحقيقة اليوم أنّ ذكرياتي،
حول رسائل الحب هاته،
ما هي إلّا مدعاة للسخرية.
(كلّ الكلمات المغالية،
كلّ الأحاسيس المغالية
-بطبيعة الحال- مدعاة للسخرية)
21-10-1935 (ألفار ودي كامّوش)
خُورْخِي لْوِيسْ بُورْخِيصْ: قِرْدُ الْحِبْرِ
يَتَوَافَرُ هَذَا الْحَيَوَانُ فِي مَنَاطِقِ الشَّمَالِ، وَهُوَ بِطُولِ أَرْبَعِ أَوْ خَمْسِ بُوصَاتٍ؛ لَهُ غَرِيزَةٌ لَافِتَةٌ لِلنَّظَرِ؛ الْعَيْنَانِ كَالْعَقِيقِ الْأَحْمَرِ، أَمَّا الشَّعْرُ فَبِسَوَادِ السَّبَجِ، حَرِيرِيٌّ وَمَرِنٌ، نَاعِمٌ كَوِسَادَةٍ. هُوَ مُغْرَمٌ كَثِيراً بِالْحِبْرِ الصِّينِيِّ، وَعِنْدَمَا يَكُونُ ثَمَّةَ مَنْ يَكْتُبُ، فَإِنَّهُ يَجْلِسُ مَكْتُوفَ الْيَدَيْنِ وَمُتَصَالِبَ السَّاقَيْنِ، آمِلًا أَنْ يُكْمِلَ لِيَشْرَبَ الْمُتُبَقِّي مِنَ الْحِبْرِ. يَعُودُ بَعْدَئِذٍ لِلْجُلُوسِ مُقْعِياً، لِيَبْقَى هَادِئاً.
(مِنْ كِتَابُ الْكَائِنَاتِ الْخَيَالِيَّةِ، بِالْاشْتِرَاكِ مَعَ مَرْغَرِيتَّا غِرِّيرُو [1968])
بِرْتُولْتْ بْرِشْتْ: قِرَاءَةُ الْجَرِيدَةِ آنَاءَ إِعْدَادِ الشَّاي
فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ، أَقْرَأُ فِي الْجَرِيدَةِ عَنِ الْخُطَطِ الَّتِي يَحُوكُهَا لِقَرْنِنَا هَذَا الْبَابَا، الْمُلُوكُ وَأَغْنِيَاءُ الْبِتْرُولِ الْكِبَارِ. بِعَيْنِي الْأُخْرَى، أَنْتَبِهُ لِإِعْدَادِ الْمَاءِ مِنْ أَجْلِ الشَّايِ فِي الْمِغْلَاةِ، الْمَاءُ الَّذِي يَتَكَدَّرُ وَيَبْدَأُ فِي الصَّفِيرِ، يَصِيرُ ثَانِيَةً صَافِياً فَطَافِحاً، لِيَخْنُقُ النَّارَ.
إِدْمُونْ جَابِسْ: أُغْنِيَةٌ صَغيِرَةٌ لِأُسْطوُرَةِ حُبٍّ
تَوَقَّفَ الْفارِسُ الْجَميِلُ عِنْدَ الْفُسْقِيَّةِ وَعَبَّ مِنْ فاهِ الْأَميِرَةِ الْمَغْموُرَةِ. أَيَّتُهاَ الْجِنِّياتُ الطَّيِّباتُ اهْرُعْنَ! لَمْ يَعُدْ لِلْحَجَرِ الْمَغْدوُرِ نَفَسٌ. لاَ ماءَ لِكَيْ تَكوُنَ مَحْبوُبَةً، وَلَكِنْ ثَمَّةَ فِراشٌ مُخَرْمَشٌ وَخُفّانِ، مِنْ فَوْقِهِ.
[أَغانيِ لِوَجْبَةِ الْغوُلِ 1943-1945]
فيليب سوبّو: طريق
رَمَقْتُ ذِكْرىَ صَوْتِكَ تَشْرَئِبُّ. كانَ قَلْبِـي يُهَدْهِدُ أَفْكاَريِ. كاَنَتْ خُطوُطُ التِّلِغْرافِ تَهْرُبُ. أَعْلَنَ الْاصْطِدامُ بِحَبَّةِ حَصىً دَقَّةَ ساَعَةِ مُنْتَصَفِ النَّهارِ.
أوسيب ماندلشتام: كتفاك العريضان
كَتِفاكِ الْعَرِيضَانِ تَحْتَ الضَّرَبَاتِ سَتَحْمَرّانِ، تَحْتَ الضَّرَبَاتِ سَتَحْمَرّانِ، فِي الثَّلْجِ سَتَلْتَهِبانِ. يَداكِ الطُّفوُلِيتانِ سَتَهُزّانِ الْقُيوُدَ، سَتَهُزّانِ الْقُيوُدَ وَتَجْدِلَانِ الْحِبالَ. قَدَماكِ الناَّعِمَتانِ، حاَفِيَتَيْنِ فَوْقَ الزُّجاجِ، حاَفِيَتَيْنِ فَوْقَ الزُّجاجِ، سَتَمْشِيانِ فِي الرَّمْلِ الْمُدْمىَ. وَأَنا مِنْ أَجْلِكِ — كَشَمْعَةٍ سَوْداءَ سَأَحْتَرِقُ، كَشَمْعَةٍ سَوْداءَ سَأَحْتَرِقُ، مَمْنوُعاً مِنَ الصَّلَاةِ.
يوسف برودسكي.. وحده الرماد
وَحْدَهُ الرَّمَادُ يُدْرِكُ مَا الْاحْتِرَاقُ حَتَّى الْمُنْتَهَى. سَأُفْصِحُ عَنْهُ رُغْمَ ذَلِكَ، بَعْدَ نَظْرَةٍ ثَاقِبَةٍ حَسِيرَةٍ لِلْأَمَامِ: مَا كُلُّ شَيْءٍ يَذْهَبُ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ، وَالْمِكْنَسَةُ الَّتِي تُمَشِّطُ بِأُفُقِهَا الرَّحْبِ، فِي الْبَاحَةِ، لَا تَجْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ. نَبْقَى نَحْنُ: عَقِبُ سِيجَارَةٍ مَدْعُوكٌ، بَصْقَةٌ، فِي الظِّلِّ، تَحْتَ الْمِصْطَبَةِ، حَيْثُ لَا شُعَاعَ يَنْفُذُ. مُتَشَابِكِينَ بِشِدَّةٍ مَعَ الْوَحَلِ، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْأَيَّامَ، سَنَسْتَحِيلُ تَيْرَبًا، تَرَسُّبًا، طَبَقَةً لِلْحِرَاثَةِ. أَمَامَ مِجْرَفَتِهِ الْمُتَّسِخَةِ، سَتَجِدُ عَالِمَ الْأَثَرِيَّاتِ فَاغِرًا فَاهُ مُحْدِثًا فُوَاقًا؛ لَكِنَّ لُقْيَتَهُ سَتُدَوِّي فِي الْكَوْنِ، كَشَغَفٍ مَدْفُونٍ فِي الْأَرْضِ، كَالنُّسْخَةِ الْمَعْكُوسَةِ لِلْأَهْرَامَاتِ. «جِيفَةٌ!»، كَذَا سَيَتَنَهَّدُ وَيَدُهُ عَلَى بَطْنِهِ، لَكِنَّهُ سَيَكُونُ أَنْأَى عَنَّى أَكْثَرَ مِنْ نَأْيِ الْأَرْضِ عَنِ الْأَطْيَارِ؛ فَأَنْ تَكُونَ جِيفَةً يَعْنِي أَنْ تَتَحَرَّرَ مِنْ خَلَايَاكَ، مِنْ الْكُلِّ: تَأَلُّقُ الْجُزَيْئَاتِ.
مدونة محمد نعمان.. انتهاكات
المركيز دو ساد.. رسالة إلى زوجته
يقين أنّ أمّك ترتكب وضاعة أخرى من وضاعاتها عندما تستخدم القضاة لإقناعي بأنّ حريتي مرهونة بإقرار كامل من جانبي بتلك النزعات الهدّامة التي نسبت إليّ والتي تعرفينها جيّدا. أيّ نصر ستحقّقه بالتهديد والقسر ما يمكن أن تحصل عليه بيسر، وما أعدّه واجبا إعطاؤه عربون شكري وامتناني لها إن كان بمقدوري. إنّ هذه المرأة الفائقة الذكاء، كما يقول الأب دي ساد، لا تدرك أنّ أيّ شيء يوقعه المرء في سجنه لا يساوي قيمة الورقة التي خُطّ عليها التوقيع. كما أنّها لا تعرف أنّ استرداد المرء لأملاكه عند إطلاق سراحه سيعود بالخذلان على أولئك الذين دُفعوا إلى الحصول عليها، وبالعار على من اتّهموا بالحصول عليها. كم كان من الأفضل أن ترضيني من دون شروط، عندها سأفعل كلّ ما تطلبه من دون إكراه. لكنّ هذا يقتضي نعمة الحساسية والإدراك وهذا ما ليس لديها. فتلك الكلمات ليست في قاموسها.
يجعلني الاحترام الذي أكنّه للمفاوض الذي تستغلّه (ربّما كان المقصود هنا الأب إمبلي) أفعل ما بوسعي، لكن ربّما ما سأفعله لن يكون كلّ ما تطلبه. ربّما تجهلين يا عزيزتي بعض ما فعلته أنا في هذا المجال. أخيرا، أرجو أن تفهمي بأنّني لن أكون ضحيّة تلك الحيل السخيفة والحمقاء والأكاذيب والخدع التي يستخدمونها ضدّي. كما لن أكون ضحية لك ولأقربائك والحلفاء الفاتنين لهم.
لا شيء يمكن أن يعبّر عن معاناتي وآلامي عندما أدركت أنّني لن أخرج من هنا في نهاية شهر يونيو. لقد طال الأمر. يا الله، ما الذي سأصبح عليه؟ أستدفنني وحشيتهم تلك إلى الأبد؟ اصغي إليّ للمرّة الأخيرة. إن امتنعت عن الاستجابة لي والتعاطف معي أقسم أنّني سأنساك ولن أتوجّه إليك بمزيد من كلام. كما أقسم بأنّني سأتركك إلى الأبد عندما أغادر هذا المكان...
وداعا، امنحيني السكينة ولبّي ما طلبت. فأنا بأمسّ الحاجة إليه بعد كلّ ما قاسيته هنا في هذه الأيّام...
أيْ حبيبتي إن استجبت، سأكون ممتنا لك مدى الحياة.
جورج باتاي.. الضحك
... في الضحك، على نحو خاص، ثمة معرفة ممنوحة للموضوع الشائع (وهي تتنوع وفقا للأفراد محلّ السؤال، الأزمنة والأجناس، لكن لا تأتي الاختلافات في الدرجة، بل فقط في الطبيعة). هذا الموضوع معروف دائما، لكن عادة من الخارج. وقد يتطلب تحليلا صعبا لو جرّبنا معرفته الداخلية.
النظام الممنوح معروف نسبيا، يدرك كنظام معزول، مما يمنحه ظرفا حادثا يجعلني أدرك أنّه مرتبط كل بآخر (معرّف أو غير معرّف)، ومثل هذا التغيير يضحكني من وقع شرطين: 1/ أنّه مفاجئ، 2/ أنّه لا ينطوي على أيّ كبت.
أتعرّف على عابر كصديق لي...
قد يسقط إلى الأرض كحقيبة: فهو معزول عن نظام الأشياء بالسقوط...
يدرك أمّه أو أي شخص آخر، قد يخضع لعدوى، يفهم الطفل أنها تحبه، فيتحرك من نظام خارجه إلى آخر شخصي. يأتي الضحك بالدغدغة من السابق، فهو الاتصال الحاد-قطيعة من نظام شخصي، بقدر ما هو معزول ضمنه، وهو عنصر مؤكد. على أيّ حال من المزاح، ثمة نظام ممنوع كأعزل يسيل، يسقط فجأة في آخر. ليس التدهور في الإحساس الصارم ضروريا. لكن لو عجلنا بالسقوط، فهو يفيد من جهة المفاجأة، بينما معاملة موقف الطفل، مفاجأة التغيّر (سقوط النظام الراشد، الذي للكبار، في نظام صبياني) يوجد دائما في الضحك، الضحك الغامر عموما... يأتي الضحك، أساسا، من التواصل.
محمد الضبع.. مدونة معطف فوق سرير العالم
تاجر توقّف عن كتابة القصائد/ جورج زيريتس
... الكتاب الذي قام بمحو شيء داخلي، ومازال يقوم بمحوه حتى الآن، هو كتاب قصائد رامبو المختارة، إنه يقتلني في كل مرة، إنه تمثال أبولو القديم بالنسبة لي.
عندما قرأته للمرة الأولى كنت قد قررت قبلها بوقت طويل أن أصبح شاعرًا. لم يكن هذا هو التغيير الذي أحدثه رامبو فيّ. إنه تغيير آخر، لا أقصد به أن يعاني أحدهم ليبدو كشاب عبقري قدر المستطاع، ولكني أقصد الأعمق من هذا، أقصد أنه كان ومازال النداء الذي أسمعه يصعد ببطء من قاع المحيط.
«لا يمكنك أن تكون جادًا وأنت لم تتجاوز سن السابعة عشرة»، هكذا صرّح رامبو في قصيدته. إنه لمن المريح أن تعرف هذا وأنت مراهق، لأنه في ذلك الوقت كل شيء يبدو جادًا بشكل مستحيل، خاصةً الحب. القصيدة تخبرك بأن الفتاة لطيفة، وأن «النسغ هو شامبانيا يصل أثرها مباشرة إلى رأسك»، وهذا كل ما تحتاجه في ذلك العمر لتقع في الحب. وكم كان عمر رامبو عندما كتب تلك القصيدة؟ لا يمكن له أن يكون أكبر من سبع عشرة سنة، لأنه بدأ بنشر قصائده وعمره ست عشرة سنة، وانتهى من الشعر تمامًا بعد ذلك بخمسة أعوام. الرومانسية لدى رامبو تصرّف فارس، هزّة كتف لشخص متجه نحو النيران في «فصل في الجحيم»، و«الإشراقات».
علينا أن نتخيل مراهقًا بارعًا إلى حدّ لا يوصف، يفتخر به كل معلميه في المدرسة، تنهمر القصائد من لسانه ليتجاوز كل اختبار، ويفوز بكل جائزة شعرية، ولكن دون أن يشعره هذا بالسعادة. فيقرر ترك منزله وأمّه الساخطة وراءه في شارلفيل، ليذهب إلى باريس ويصبح أحد البرناسيين، شاعرًا نقيّ الأشكال، يفعل ما يتوجب عليه فعله بالضبط. كان رامبو قد كتب في ذلك الوقت رسائله البالغة الجمال عن ضرورة أن يكون الشاعر رائيًا، ،عن ضرورة اكتشاف الشعراء لحواسهم. ثم جاءت قصته مع ڤرلين، وتعرضه للإصابة بطلقة مسدس. والمحكمة وكل ما بعدها. ولكن ما هو أهم من هذا كله قصائد رامبو العذبة في تلك المرحلة، ثم رحيله المفاجئ إلى إفريقيا. ليموت في ثلاثيناته. كتاجر، توقف عن كتابة القصائد منذ وقت طويل.
أليست هذه ببساطة قصة مراهِقة؟ أليس هذا ما يجعلنا نقع في حب القصائد والشعراء؟ لوقوعهم في حب الفكرة المراهِقة؟ أليست هذه هي أسطورة پرومثيوس تتكرر مرة تلو الأخرى؟ الحياة كفن مفاهيمي؟ ولكنك لا تستطيع الحصول على الأسطورة دون القصيدة. كنت أقرأ قصائده وكانت تتصاعد أمامي كمعجزات صغيرة متفجرة في هواء الغرفة. كانت بالنسبة لي أكثر من مجرد نصوص جميلة، كنت ومازلت أعتبرها ضميرًا. ليست ضميرًا فنيًا وحسب، بل ضميرًا أخلاقيًا أيضًا.
صحيح أنني لم أكن قادرًا في السابق على وضع كلماتي كما هي الآن، ولكن يجب علينا دائمًا أن نجد السر الكامن في قلب الفن، السر الذي لا يرتاح أبدًا ولا يرضى، ويستمر بمطالبتنا ومطالبة نفسه. بحماسة المراهقين. لنترك حواسنا مبعثرة بالشكل الصحيح، ربما نجد ما كان يقصده رامبو في حديثه عن الرائي هناك، ربما نجد مفارقة مميتة مليئة بالتصورات. تلك المفارقة التي اشتعلت في رامبو حتى تنازل عن الفن. ولكننا لن نتنازل. رامبو هو صورته عندما كان يكتب فقط، وليس حياته بأكملها. قائدًا. صارمًا. مثيرًا للسخرية. جامحًا. كاملًا. حقيقيًا.
أحمد شافعي.. مدونة قراءات
قمر الضحى.. عبد الرزاق قرنح
سمعت للمرة الأولى عن الخريطة من أحد أساتذتي. لم تكن تلك من المعلومات التي يفترض أن يلقننا إياها، لكنني أظن أنه كان يشعر بالضجر أحيانا مما يتحتم عليه أن يفعله، فينجرف في بعض الأحيان إلى مواضيع غير متوقعة. لم يكن معلمنا الدائم، برغم أنه كان معلما في مدرسة ابتدائية في البلدة وكانت له سمعة بأنه مثقف. كان اسمه مَعَلِّم حسن عبدالله، وكان قد انتقل حديثا لسكنى بيت مجاور لنا استأجر طابقه السفلي من جارينا، عم عبدالرحمان والست فاطمة. كنا نناديهما بعمي وخالتي بوازع من الاحترام. لم يكن لديهما أطفال، وكانا يقيمان في الطابقين العلويين من البيت فلم يلزمهما الطابق الأرضي. وكان عم عبدالرحمن معلما هو الآخر، ولكنه معلم أهم كثيرا. فقد كان يدرِّس في المدرسة الثانوية، حيث يجري التدريس كله بالإنجليزية، وكان قد درَس في كلية جامعة مكيريري في كمبالا. في ذلك الوقت، كان أغلب المعلمين في المدارس الثانوية أوربيين فكان لعم عبدالرحمن ما يشبه السحر من مطاولته أولئك الأسطوريين كتفا بكتف. لا بد أنه ومعلم حسن كانا يعرفان أحدهما الآخر من قبل، أو لعلهما درسا معا وهما صغيران.
كانت أمي هي التي اقترحت أن نذهب إلى معلم حسن. لم تكن من حاجة واضحة إلى درس خصوصي. فلم تكن حصص ضاعت علينا، أو تخلفنا، مثلما كان يحدث أحيانا حينما يصاحب التلاميذ آباءهم لزيارة أقارب أو حينما يمرضون. فكان يبدو حينذاك أن الأولاد لم يمرضوا لأيام قليلة، بل لشهور، وحين يرجعون إلى المدرسة يكونون متخلفين كثيرا عن الجميع، أو الجميع فيما عدا ذوي الرؤوس الصلبة الرافضين لتعلم أي شيء معتبرين ذلك شرفا وسمعة. ولا كان آباؤنا قد وقعوا على المطامح المهنية المرهقة لنا بما تستوجبه من دراسة إضافية، كما كان حال تلاميذ المدرسة الهنود الذين دأب آباؤهم على إرسالهم إلى دروس خصوصية منذ بواكير أعمارهم بعدما انتهوا إلى أنهم سوف يصبحون أطباء أو محامين أو عباقرة في الرياضيات.
ما كان ليخطر لأبويّ أن يتخيلا هذه الأمجاد لنا، ولا أتصور سببا أيضا كان يدعوهما إلى القلق على أدائنا الدراسي. فقد كان أخي الصغير (حاجي) ينجح في المدرسة بلا جهد يبذله، أو أن معلميه على الأقل كانوا يحبونه ويثنون عليه، وكان له كثير من الأصدقاء. كان يعقبني بعام، وبدلا من أن يتعرض لغطرسة المعلمين وأمرهم له بالاقتداء بي في الجد والاجتهاد، كنت أنا الذي يحثه المعلمون على التعلم منه وإظهار نزر من الذكاء. لقد كنت الكادح المجتهد الذي ينبغي شرح كل شيء له، والمتردد الشاكّ قبل كل وثبة. وأحيانا كان الناس يسألون أينا الأكبر سنا.
أما عن أختنا رندة، فكانت قد التحقت بالمدرسة للتو، لكنها حينما سمعت أننا ذاهبان إلى بيت الست فاطمة لحضور درس خصوصي طالبت بالانضمام إلينا. فقد كانت الست فاطمة خالتها المفضلة التي أشبعتها تدليلا منذ أن كانت طفلة رضيعة.
لا أعرف ماذا كان رأي أبي في دروس العصر تلك. قال لي غير مرة إن عليَّ أن أبقي عيني مفتوحتين، وأن أكون أشد انتباها، وأحرص على نفسي. كان ذلك جزءا من الموشح المرهق الذي تحتم عليّ احتماله في المدرسة. كان يقول لي لا بد أن تكون أكثر انتباها للعالم. لكنه لم يتوقع من المعلم حسن أن يعلمني ذلك. وعلى أي حال لم أفكر في أسباب بعثنا إلى معلم حسن. خمنت أنها بدت لأمي فكرة جيدة، تظهر من خلالها عنايتها الأمومية بتعليمنا. وأبي لم يكن يماثلها دائما في حماستها بل لقد كان يشكو في بعض الأحيان من تفاهة بعض المعارف التي نرجع بها من المدرسة. فبماذا ينتفع أي امرئ بمعرفة أغنيات الأطفال الإنجليزية أو بالإنصات إلى التفاخر بمغامرات الجشعين؟ أما أمي فقد كانت المدرسة بالنسبة إليها هي المعرفة، برغم أنها هي الأخرى كانت لها أفكارها الخاصة عن النافع وغير النافع. فالإنجليزية والحساب نافعان، ما دام النجاح فيهما يؤهلنا للتقدم إلى المدرسة الثانوية. على أي حال، كان المعلم يعيش في بيت الجيران ويقال إنه قرأ من الكتب أكثر مما قرأ أي أحد في البلد، وكان لديه وقت فائض...
ميادة خليل.. مدونة أصوات
آرماندو
وُلد باسم هيرمان ديريك فان دودَفيرد 1929 في أمستردام، كان رسامًا ونحاتًا وشاعرًا وكاتبًا وعازف كمان وممثلا وصحفيا وسينمائيا ومسرحيا وإعلاميا هولنديا. آرماندو أصبح اسمه الرسمي، أما اسم ولادته؛ الاسم المستعار كما يطلق عليه، فلم يعد موجودًا بالنسبة له. فقد قام في وقت لاحق بتغيير اسمه الأصلي في مكتب التسجيل إلى Armando النسخة الإيطالية لاسم هيرمان، والذي يدين به لجدته الإيطالية. نتاج آرماندو غزير جدًا وإصداراته متنوعة في الأدب والفنون. لآرماندو متحف في مدينة آمسفورت الهولندية تم افتتاحه العام 1997، وبعد تعرض المتحف للحريق عام 2007، نقل ما تبقى من معروضات إلى متحف Museum Oud Amelisweerd وهذا المتحف أغلق أبوابه 2018 بسبب الإفلاس.
يتميز أسلوب آرماندو بالحداثة والتجريد في كل الأنواع الأدبية والفنية التي قدمها وأبدع فيها جميعًا. وفيما يخص نصوصه وقصائده فإنها أشبه بلوحة تجريدية من لوحاته، الإبداع بكل أشكاله بالنسبة له وحدة واحدة. يرى آرماندو نفسه أن أعماله تنتمي إلى ما يسمى بـGesamtkunstwerk أو الشكل الفني الشامل، حيث حرص على استخدام مواد متعددة وأساليب متعددة ليس في أعماله النحتية والتشكيلية فحسب، بل حرص على ذلك حتى في كتاباته. تأثرت أعمال آرماندو بتجربته في الحرب العالمية الثانية بالقرب من كامب آمسفورت بشكل أساسي. توفي العام 2018 في بّوتسدام الألمانية. هنا مختارات من نصوصه الشعرية:
يوم آخر
ها هو يوم آخر،
الصباح بعد ليلة سافرة
وعلم يرفرف بقداسة في ريح خفاقة،
كمثل زهور داخل قفص أبيض.
يوم آخر،
اليوم الذي تمّ فيه إصدار حكم بالموت.
يأس
أمواج باكية، وشاطئ متأوّه
والرياح ترطن بلغة غير مفهومة.
لا منحدر، ولا أرض تلوح على مرأى البصر،
وحتى اليأس لم يعد بالإمكان.
في زمن ما
الطريق نحو الظُلمة بعيد المنال،
ودرب الأمل أُحرق تماماً في زمن ما.
ومنذئذ نفدت الكلمات،
لأن الضوء لا يُرى.
حتّى الموت
كان الأمر كمثل الولادة،
محكوم عليه بالموت ألقي في قبر.
لذا تعال إلى هنا، إلى حيث المنزل الريفي المنسيّ،
وانتظر ما سيحصل بغتة.
انظر من جاء،
مخلوق بلا صوت، كان حيًّا منذ زمن طويل جدًّا.
الأم
قالت المرأة الحزينة إنّ الأب قد مات،
«ابني وزوجي»
بكى الناس ذلك الموت المرتدي ملابس رجالية.
وتلك الأمّ، المرأة الفخورة
التي تقف عند قاعدة التمثال.
وعندئذ سَمع الناسُ نواحًا حزينًا،
وضَحِك الناسُ حتى جفّت الدموع.
فضة
أودّ لو تكون الأذنان من فضة،
والورود من فضة،
الورود المزهرة من نباتات تزيح الأشجار بعيدًا.
والأشجار من فضة،
حتى تصبح غمضة العين صاخبة مشاغبة،
أريدك أنت،
أريدك أن تكون من فضة.
جفاف
تململ البحر،
بعد أن غاص في أعماق أعماقه،
وتثاءب،
ثم ابتلع السفن والأسماك.
صار البحر مهدداً بالجفاف.
البحر ينتظر في مكان ما.