بينما كنت أتأمل جدران قصور غرناطة في رحلاتي المتكررة إلى إسبانيا، لفت نظري تكرر عبارة «لا غالب إلا الله» منقوشة في الجدران بشكل واضح مكرر، لا يضل في قراءتها أي قارئ للغة العربية، فسرح بي الخيال في محاولة «استنطاق» لهذا النص وخلفيته المعبِرة.
إنهم يرون أنهم يُهزمون ولكن «وللتعويض» في وجه خصومهم الذين قهروهم وبقوا في أرضهم القرون الطوال، يجب أن يقولوا إن الذي يهزمهم ليس خصمهم، بل هو «الله» الذي لا طاقة لأحد به ولا قدرة. إذن كان حلا نفسيا مريحا، ولكن هذا الترنح كان قبل الهزيمة النهائية، والطرد من شبه الجزيرة الإيبيرية، وإبادة من بقي فيه رائحة من بقيتهم.
كل هذا بدأت قصته بشكل مبكر أبكر بكثير مما يرويه الحجر الميت، الذي كنت أقرأ فيه بقايا هذه الكلمات «لا غالب إلا الله».
وبينما كنت مع صديقي المقيم في إسبانيا نمر بالسيارة بجنب مدينة (رويال ثيودادROYAL CIUDAD )، سألته عن المدينة متجاهلا: هل تعرف عن تاريخها شيئا؟ فأجاب بالنفي، قلت له: لا تذكر علاقتها بالتاريخ أبدا؟ فكرر بالنفي، فكرت في نفسي: إننا أمة نُكِبت مرة أخرى، لأنها لا تعرف أفظع شيء مر عليها!
قلت له إن المؤرخ محمد عبد الله عنان كتب موسوعة كاملة عن تاريخ المسلمين في الجزيرة، وجاء بنفسه إلى هذا المكان قريبا من هذه المدينة ونبش في أرضها، بل واكتشف في بعض الحفر بقايا «رؤوس رماح وأنصال» من آثار أخطر معركة تمت في هذا المكان في عام 1212 م الموافق 609 هـ، ولكن ما لنا وللقصة الآن. دعنا لا نستبق الأحداث، ولنكشف اللثام عن صفحة سوداء من النكبة العلمية في تاريخنا، بل وفي تاريخ الجنس البشري لنستعرض رحلات العلم والتفتح الذهني المترافقة بالمعاناة والعذاب.
في قرار لعن العالم المسلم والطبيب النطاسي أبي الوليد (ابن رشد)، ملهم النهضة الإنسانية الحالية؛ ذكر صاحب كتاب «الذيل والتكملة» ابن عبد الملك نص الإدانة الكامل، سننقل منه بعض الفقرات لمقارنتها بنصوص إدانة أخرى، وأحكام مرعبة تاريخية رهيبة تالية في مسيرة نهضة العقل الإنساني على مدار رحلة الجنس البشري في بقاع منوعة، وثقافات متباينة، وأديان شتى، في محاولة لإمساك وفهم سنة الله التي تتكرر ولا تخيب في المستوى الإنساني، مستوى قانون الأحداث النفسية الاجتماعية في معركة الخرافة والعلم.
جاء قرار اللعنة على الشكل التالي مقتطف منه فقرات: «وقد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام؛ فخلدوا في العالم صحفا، ما لها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق. يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها. ونشأ منهم شياطين يخادعون الله والذين آمنوا؛ فكانوا أضر عليها من أهل الكتاب، وهؤلاء قصارى همهم الغمومة والتخييل، وبث عقاربهم في الآفاق. فاحذروا - وفقكم الله - هذه الشرذمة حذركم من السموم السارية في الأبدان. ومن عُثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه. والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم ويكتب في صحف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم. إنه منعم كريم».
هذا كان مصير الفيلسوف المبدع الذي استفادت منه أوروبا أكثر من العالم الإسلامي؛ ففي الوقت الذي أطلق فيه شرارة العقل المفكر، كان هذا الصك يحكي لنا حرق كتبه أينما وجدت. وبذا أعدمت مؤلفاته من أمثال «شروحات أرسطو» و«تهافت التهافت» و«فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، وهي اليوم كتب نادرة لا يستفيد منها أحد، كما لم يستفد منها أحد سابقا «باستثناء الغرب»!
كان مصير ابن رشد أفضل حظا من غيره لأنه لم يحرق حيا؛ بل اكتفي بنفيه إلى قرية «الليسانة» اليهودية ليقضي فيها ما تبقى من أيام شيخوخته، لأنه ألقي هناك معزولا منبوذا مدحورا وهو في السبعين من عمره، ولم يعش بعدها إلا سنوات قليلة.
كان ذلك التاريخ المشؤوم عام 591 هـ الموافق 1194 م، حيث مات المفكر المبدع بعدها في عام 1198م، أي مع خاتمة القرن الثاني عشر الميلادي ونهاية القرن السادس الهجري.
ولكن الأمة التي تفعل بمفكريها هذه الفعلة، هل تبقى بدون عقاب؟ لنسمع إذن خبر التاريخ عن معركة «العقاب»؟
بعد موت الفيلسوف العظيم بأربعة عشر عاما نكبت «اليتيمة والأيتام»، على حد تعبير الخليفة الموحدي (المنصور)، الذي وصف الأندلس وأهلها بها، وأوصى بهم على فراش الموت، بنكبة عسكرية لم يقم لهم قائمة بعدها. كان ذلك في معركة (العُقاب) في يوم الاثنين الخامس عشر من صفر سنة 609 هـ (ليلة 16 يوليوز سنة 1212م).
وكما كانت معركة «الزلاقة» هي «الفرملة التاريخية» للسقوط الأندلسي، عندما جاء الخليفة المرابطي (يوسف بن تاشفين) في عام 1086م (479 هـ) لينقذ الأندلس المنهارة، بعد فترة حكم الطوائف التي دامت 80 عاما (من عام 399هـ حتى عام 479هـ)، فإن معركة العقاب هذه كانت بداية النهاية للأندلس.
وحتى يمكن أن نعي الوضع التاريخي المكرب للمسلمين في ذلك الوقت والآثار المأساوية لتلك المعركة، ولإلقاء الضوء على هذه الفترة من الظلام الفكري وضيق الأفق والتعصب، الذي انتهى في صورة مأساة ابن رشد، فإننا ننقل عن المؤرخ محمد عبد الله عنان ما يلي: «وأما في التواريخ الإسلامية فإنها تعرف بموقعة العُقاب، من مفردها عَقبة، وذلك في ما يرجح لوقوعها بين الربى والتلال المانعة، وليس بمعنى المعاقبة على الذنب، وإن كان بعض الكتاب والشعراء قد نسبوا إليها مثل هذا المعنى، في معرض التلويح بغضب الله وعقابه للموحدين، لأنهم حادوا عن جادته، وبغوا وتجبروا، واعتمدوا على كثرتهم ولم يعتمدوا على عونه. ومن المسلم به أن خسائر المسلمين في معركة العقاب كانت فادحة جدا، والروايات الإسلامية تجمع كلها على أن الجيش الموحدي قد هلك معظمه. ويصف صاحب «الحلل الموشية» المعركة بالهزيمة العظمى، التي فني فيها أهل المغرب بالأندلس».
نافذة:
من المسلم به أن خسائر المسلمين في معركة العقاب كانت فادحة جدا والروايات الإسلامية تجمع كلها على أن الجيش الموحدي قد هلك معظمه