ربما سيتساءل كثير من القراء كيف أننا أدرجنا «محاكمة سقراط» ضمن هذه السلسلة المعنية أصلا بالاغتيالات السياسية؟ بل كيف تعمدنا أن نقدمها على كل حالات الاغتيال السياسي قيد العرض؟
السبب الأول تاريخي، كون محاكمة سقراط كما بينتها، من بعد موته، كل الدراسات والشهادات والتحقيقات التاريخية، كانت اغتيالا لفكره، ولو عن طريق محاكمة صورية مشبوهة، لأن فكره كان مزعجا سياسيا لمنظومة الحكم في أثينا ونبلائها.
والسبب الثاني فلسفي يرجو أن يبرز أن الحكمة والفكر الفلسفي النقدي، كان دوما محط اتهام ساسة المجتمع المتحكمين في توازنات الثروات والمصالح والفروق الاجتماعية وتبرير تلك الفروقات دينيا وأخلاقيا... فالحكيم أو ما يقدم على تقويضه وهدمه هي أصلا كل المسلمات التي تنبني عليها الفوارق الإنسانية.
كما أن سينوغرافيا المحاكمة، إن نحن نظرنا إليها كملحمة قتل الحكيم من طرف المجتمع، تبقى متكررة في تاريخ البشرية، بل وتعد أصل كل اغتيالات الفكر الحر في التاريخ الفكري الإنساني. بل وتجسد «المعاناة الأصلية» لأصحاب الأفئدة المعارضة للتيارات المجتمعية الفكرية والسياسية العامة. لذلك، ونحن نؤصل لموضوع الاغتيال السياسي، بدا لنا من المناسب التطرق أولا لقصة اغتيال سقراط على اعتبارها حكاية أصيلة ومبدئية حمالة للعديد من الدروس.
من الشائع أن سقراط مسجل في التاريخ على أنه فيلسوف يوناني (469 ق.م - 399 ق.م)، لكن من غير الشائع أنه لم يكن فيلسوفا بالمعنى السكولائي والمنهجي للكلمة، بل رجلا حكيما يجول في أسواق أثينا ويحاضر الناس، خصوصا شباب أثينا التواق آنذاك للسجالات والحلقيات ومسارح الشوارع، في مواضيع شتى.
لم يترك سقراط كتابات وجل ما يعرف عنه وعن أفكاره هو مستقى من خلال روايات تلامذته عنه. بحيث تعتبر حوارات أفلاطون (وهو أحد تلامذة سقراط)، أهمها «الجمهورية» من أكثر الروايات شموليةً وإلمامًا بشخصية سقراط وأفكاره.
هذه الحلقات التي كان يؤطرها سقراط كانت تدور في فلك علم الأخلاق، بحيث كان يحاور الشباب حول معاني الحياة والحب والمسؤولية والعدل... لكن التقنية الكلامية التي اشتهر بها سقراط كانت تقنية تعتمد على دفع الناس أنفسهم إلى أخذ الكلمة وتقديم تعريفات عن المفاهيم، ثم يأتي الحكيم ليستشف بسخريته المعهودة مواطن تناقضات الفكر المجتمعي السائد حول القضايا التي كان سقراط يناقشها. وإليه تنسب مفاهيم السخرية السقراطية والمنهج السقراطي (أو المعروف باسم Elenchus). ولا يزال المنهج الأخير مستخدمًا في مجال واسع من النقاشات كما أنه نوع من البيداغوجيا (علم التربية) التي بحسبها تطرح مجموعة من الأسئلة ليس بهدف الحصول على إجابات فردية فحسب، وإنما كوسيلة لتشجيع الفهم العميق للموضوع المطروح. إن «سقراط» الذي وصفه أفلاطون هو من قام بإسهامات مهمة وخالدة لمجالات المعرفة والمنطق، وقد ظل تأثير أفكاره وأسلوبه قويًا، حيث صارت أساسًا للكثير من أعمال الفلسفة الغربية التي جاءت بعد ذلك.
قبل محاكمته بسنوات، سيؤلف كاتب مسرحي أثيني معروف وهو أريسطوفان مسرحية شهيرة بعنوان «السحب» ويدمج شخصية سقراط ضمن شخوص مسرحيته، بل وسيغمر شخصية سقراط بملامح الشر والغرور والمخادعة. وهي السمات التي كان تتسم بها فئة من محاوري الشارع (حلايقية) المنبوذين وهم فئة السفسطائيين (أناس يتهكمون على معتقدات الناس وعلى آلهة أثينا بتوليف منطق حواري مغلوط). ومن تلك اللحظة بدأ الناس ينعتون سقراط بأخطر سفسطائيي أثينا.
استاءت شخصيات مهمة في أثينا من أسلوب سقراط في الأسئلة والنقاش العمومي، ومن أسباب ذلك تهكمه المستمر على سمعة الحكماء والفضلاء. فاعتبر أغلب العامة بأن سقراط قد فاز بلقب ناقد أثينا الأول والأكثر بطشا. والأخطر هو أن أسلوبه الحواري كان مثار إعجاب فئات واسعة من شباب أثينا، الذين أصبحوا يحاكون سقراط في طريقة نقده، مما حرك المجتمع الأثيني المحافظ ضده.
ولأن الممارسة الديمقراطية كانت في أوجها آنذاك تسمح للجميع بالسجال والتعبير، بل والمشاركة في الانتخابات بل وفي المحاكمات أيضا، فقد كانت أكثر تعليقات سقراط سخرية موجهة إلى هذا الجو الأثيني الفوضوي، خاصة في ما يتعلق بالانتخابات الجماعية، ساخراً من وظائفها ومن النخب التي تفضي إليها. زاد النقد اللاذع من الاشتباه في الديمقراطيين، خصوصاً عندما اكُتشف أن أقاربهم أعداء للديمقراطية.
فقد كان سقراط دوما يشهر خيانة ألكيبيادس (وهو من كبار قواد الجيش ومن نبلاء أثينا) لأثينا لصالح إسبرطة (حرب إسبرطة)، وكذلك خيانة قريطياس (تلميذه السابق وواحد من قادة الطغاة الثلاثين الذين حكموا أثينا لعدة أشهر، بعد هزيمتها فى الحرب البيلوبونيسية). ومن طبيعة الحال، كل ذلك سيجنى على سقراط عداء وحنق المؤسسة العسكرية التي كانت شبه
«مؤلهة» في ذلك الزمن الأثيني.
سيشتد الحنق المجتمعي على سقراط عندما سينتقل من تهكمه على الجيش وخونته إلى الدين وآلهته، خصوصا بعد هزيمة أثينا أمام إسبرطة (إمارة كانت تعتبرها أثينا من الإمارات الهمجية غير النبيلة). حيث أشار عدة مرات إلى أن العيش بالفضائل كان دوما أهم من عبادة الآلهة، وأنه إذا كانت آلهة أثينا لم تفلح في حمايتها، فإنه سيتوجه إلى شيطانه الخاص الذي ينبئه الحقيقة دوما.
لم يكن خطابه مفهوما على أنه سجع فلسفي استهدف وضع أسئلة نقدية على منظومة سياسية ودينية فاسدة ومتفسخة أودت بالأثينيين، بل تم فهم مضامين انتقاداته بأنها جرأة فاسقة على مقدسات البلاد.
بعد ذلك تقدم ثلاثة رجال ليضعوا صكوك اتهام رسمي لسقراط، بالدجل وتخريب عقول الشباب وزعزعة استقرار أثينا. هؤلاء الرجال هم: أنيتو، ابن الأثيني البارز أنثيميون (وهو أحد كبار نبلاء أثينا وتجارها)، وميليتو، شاعر معروف كان يقدم قصائده في محارب ومنابر أثينية معروفة وكان مقربا من أنثيميون، وهو من قدم الشكوى إلى الحاكم بدعوى أن كلام سقراط شيطاني مفسد للمجتمع، وثالثهم هو ليقون، ممثل عن المتحدثين من الشعب، لكنها شخصية تاريخية غير معروفة كثيرا.
قضت المحكمة بإعدام سقراط. والغريب هو أن هذا الأخير لم يتكلم ولم يدافع عن نفسه ولم يقدم كثير مبررات ومؤازرات لأفكاره، ولم يسمح بالمقابل بأن يدافع عنه أحد. ظل صامتا ثم حملوه ليسجن في إحدى المغارات المفتوحة في جبل بينكس (جبل محاذي لأثينا شمالا).
وبعد أن اقتنع الحاكم بالقضية المطروحة أمامه، ومن تظلم المتحدثين منه، أمر سقراط بالمثول أمام اللجنة العليا في أثينا بهدف الدفاع عن نفسه لآخر مرة ضد التهم المنسوبة إليه من إفساد الشباب والهرطقة العمومية.
واللجنة العليا هي لجنة مفتوحة يشارك فيها مواطنون عن طريق القرعة من بين الرجال المنتمين إلى مختلف الطبقات الاجتماعية، والذين يحملون الجنسية الأثينية، ما عدا النساء والعبيد والمقيمين الأجانب.
واجه سقراط محكمة مكونة من 500 مواطن أثيني، حيث يظهر من كثرة العدد أهمية تلك المحاكمة وقتئذ. وبعد أن قدم كل من المدعين وسقراط ما لديهم، حكم القاضي بإدانة سقراط بـ280 صوتا مقابل 220.
في عز المحاكمة ظل سقراط يتهكم على هيأة المحكمة، بحيث اقترح سقراط على النائب العام أحكاماً بديلة: كأن اقترح مازحاً عقوبة تتكون من أكل مجاني في البيراتانيون (كان هذا الشرف خاصا برعاة المدينة والفائزين بالألعاب الأولمبية)، ثم يقوم سقراط بدفع 10 آلاف درهم (وهو ما كان يساوي خمس ثروته لأنه كان كثير الفقر). وآزره في اقتراحه كل من أفلاطون وكريتون وكريتوبولوس وأبولودور (أنجب وأغنى تلامذته)، على أن يدفع سقراط ثلاثة آلاف درهم بضمانة. في المقابل تشبث المدعي بعقوبة الإعدام.
جاء التصويت في صالح عقوبة الموت (360 صوتاً مقابل 140)، حيث خسر سقراط تعاطف المواطنين معه بسبب نبرته الساخرة وعدم طلبه العفو.
توجه سقراط لأعضاء المحكمة قائلا:
«كنت أفتش عن الحقيقة وأبحث عنها كما يبحث الجائع عن طعام، ليحفظ عليها حياته وليستمد منها الغذاء والقوة، ولم أستطع أن أقبل المشكلات من غير مناقشاتها، فلقد كنت في حاجة لكي أرضي ذلك النداء الملح الذي يريد من كل إنسان أن يجتهد للوصول إلى الحقيقة الكاملة، وها أنا إذاً، لا يهمني أن أكون مثلكم لا أملك شيئاً من علم، ولكنني لا أريد أن أعاني ما تعانون من جهل».
نصحه طلابه بالهروب، سيما أن مغارة السجن كانت مفتوحة وأن هروبه سيبقى موضوع الصفح والمسامحة القضائية، لكن سقراط رفض من البداية ذلك بسبب عدم توافقه التام مع المحكمة ومنظومتها وكذا بسبب تمسكه المستميت بأفكاره، حيث كان هروبه سيكون هدما نسقيا لكل مشروعه الفكري ومصداقيته التامة.
جاء إليه الحارس باكيا في إحدى ليالي فبراير الباردة، وأمده بكأس فيها سائل الشوكران الأبقع السام (سم فتاك يقتل في أقل من نصف ساعة)، وضعها سقراط بجانب سريره إلى غاية الفجر، وفوجئ بأفلاطون وتلامذة آخرين يستجدونه بأن يعدل عن فكرة شرب السم. كانت زوجة سقراط آخر شخص تسامح معها الفيلسوف، واعتذر منها لكونه لم ينعمها بنعم العيش وهو القادر على ذلك، ثم استأذن الجميع ليرى الشمس تشرق ولو لآخر مرة، ثم رجع إلى المغارة فمات. هكذا تحول سقراط إلى شهيد من شهداء الحكمة عن عمر يناهز 70 سنة.