الدعاء والقرآن  - تيلي ماروك

القرآن، دين ، فكر الدعاء والقرآن 

الدعاء والقرآن 
  • 64x64
    telemaroc
    نشرت في : 04/04/2023

هرب شاب مغربي من جحيم البطالة ليعمل في حقول الفاكهة في أوروبا، لكنها حقول ترش بمواد مسرطنة، وخلال ثمانية أشهر فرح بالأورو في جيبه، ولكنه حمل السرطان في أحشائه. سألوني الدعاء له، ولكن الجدل حول هذه المسألة يقول: إذا كان كل الكون يسير بقوانين وسنن ثابتة وصارمة، فما الجدوى من الأدعية؟ والجواب أنه يجب فهم القوانين، ثم فهم ما هو الدعاء، وثالثا علاقة الدعاء بسنن الكون.. فأما سنن الله فلن تجد لسنة الله تبديلا. نحن هنا أمام معادلة من ثلاثة مجاهيل؛ الجهد والدعاء والعلاقة بينهما.. فكيف نفهم هذا المركب الذي آمن به المتقون وكفر به الملحدون؟

في أمريكا وألمانيا، قلما يستخدمون الدعاء في حياتهم اليومية، لسيطرتهم على سنن مجريات الأمور، وهامشية المجهول في حياتهم، وإذا حدث فدعوا فهو حين اليأس إذا هم فيه مُبْلِسُونَ.. وعندنا وبفعل هول مساحة المجهول ندعو كثيرا، ولو في موعد إنجاز معاملة.. فنقول إن شاء الله، ويعني لن تنجز! 

نحن تصب على رؤوسنا المصائب بقدر الأدعية، مع أن الله يقول: (ادعوني أستجب لكم). نحن ندعو فلا يستجيب الرب الدعاء، أما الألمان واليابانيون فلا يدعون وينجزون أكثر منا كثيرا.. فأين الخلل؟ والله يقول: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني).

الرب يقول ادعوني استجب لكم، ولكنه يستجيب بطريقته الخاصة؛ فهو يستجيب لليابانيين والألمان بدون دعاء، ولا يستجيب لأدعيتنا نحن المسلمين.. فهل هناك أكثر من رب في العالم؟

علينا أن نفهم إذن أن الجهد لا يأتي في موضع الدعاء، كما أن الدعاء لا يشتغل في مكان الجهد.. ولكن كيف؟

إذا كان الكون يقوم على السنن والتسخير هو السنة التي تحكم الوجود، فأين موضع الدعاء والدعاء مخ العبادة؟

 للإجابة عن هذا السؤال الذي يشغل بال المؤمنين، وتندر عليه «خروتشوف»، الذي حكم الاتحاد السوفياتي في ما مضى، فقال في مذكراته إن الدعاء لم ينفع أحدا.. كما سخر منه «فرانسيس بيكون»، حين قيل له إن الله استجاب دعاء المؤمنين في لحظات غرق السفن.. فكان جوابه: ولكن كم عدد الذين لم يستجب لهم؟

ولتقريب المفهوم نقول إن الجهد الواعي يقابل عالم الشهادة، والـــــدعــاء يقابـــل عالم الغيب. والوجود بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى هو عالم شهادة، أي لا يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، إلا في كتاب مبين. أما العالم بالنسبة إلينا فهو عالمان: عالم شهادة وعالم غيب. والغيب هو في الواقع ثلاثة غيوب:

1ـ الغيب هو المستقبل الذي لا نعرفه: (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء).

2- كذلك الغيب هو أحداث الماضي التي مرت ولا سبيل لنا إلى معرفتها، (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين).

3ـ كذلك فالغيب ثالثا هو حوادث الحاضر التي لا يعلمها الإنسان، ولو كانت أمام عينيه، وهو لا يدرك حقيقتها بالضبط، كما غاب عن الجن الذين كانوا بخدمة النبي سليمان عليه السلام أنه لم يكن إلا جثة: (فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).

إذن يمكن تعريف الغيب على نحو ثلاثي:

إن الغيب هو ما غاب عنا فلم ندركه أياً كان في مستوى الزمان أو المكان. وجمعت هذه المعاني الثلاثة هذه الآية الرائعة (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين). فهذه الإحاطة الشاملة لله سبحانه وتعالى مالك مفاتيح هذه الأسرار هو كل الغيب وأكثر منه، فهو الذي يعلم السر وأخفى. ثم إن عالم الغيب والشهادة في حالة ديناميكية وليس استاتيكية، أي أن هناك تغيرا في المقادير والعلاقات. فمثلا بإمكاننا اليوم أن نرى العظام تحت اللحم بواسطة أشعة رونتغن، كما يمكن لنا أن نحيط بمقادير إنتاج الهورمونات في الدم، أي أصبحت لنا عيون جديدة، وهكذا تضخم عالم الشهادة أمام أعيننا، فما كان من عالم الغيب قديما أصبح من عالم الشهادة حديثا. ولكن الوجود في الوقت نفسه هو في حالة تمدد وكبر وزيادة (يزيد في الخلق ما يشاء)، وهذا يعني بكلمة أدق أن معرفتنا تبقى محدودة، مهما تعمقت وامتدت. وتتمثل هذه المعرفة في أرقام محدودة أمام الكون اللامتناهي. ونحن نعرف أن نسبة الرقم إلى اللامتناهي تساوي الصفر في عالم الرياضيات، وأفضل نظرية للمعرفة تلك التي تغطي المواجهة تماما.

إن الوجود الذي نعيش فيه، فيه حركة تداخل الليل والنهار، والظلام والنور، المعرفة والجهل، الشهادة والغيب. والتغطية العلمية هي التي تتناول كافة السطوح والمجالات والحقول المعرفية، فعالم الشهادة يواجه بالجهد الواعي، أما عالم الغيب فيقابل بالدعاء، للصلة بمنبع الوجود. الدعاء بكلمة أدق هو لنا أكثر من كونه لله!

وهكذا ففي اللحظة الواحدة يتأرجح الإنسان بين عالمي الشهادة والغيب، ولتكون المواجهة صحيحة كان لا بد من المزج الدائم بين العمل الواعي والدعاء. وكذلك تدخل عملية النقد الذاتي ضمن هذا الإطار الأخلاقي، فكما أنها حاسة وعي لمطاردة الأخطاء، كذلك هي التفات إلى الداخل للتطهير، وبالتالي التوجه بالدعاء إلى الله بوضع الذنوب، والتثبيت على الطريق، والنمو في الاكتمال الإنساني، وتذكير الإنسان نفسه دوما أن الخطأ له أقرب من حبل الوريد. الدعاء إذن هو المواجهة العلمية لورطة الوجود كلها. والدعاء تواضع سقراط في اكتشاف مساحة جهله، فقال إن كنت أعلم شيئا فهو مقدار جهلي. والدعاء هو يقظة الروح في اكتشاف أعماق الذات. وهي معان يعرفها من ذاقها وينكرها من ران على قلبه، فهو عن الحكمة محجوب مع دنوها وقربها، (كلا إنهم عن ربهم لمحجوبون).