في صيف 2007 بالمنطقة الروسية الخلاء عند مقاطعة تسارسكوي، سيتم العثور من طرف الشرطة العلمية لسان بيترسبورغ على هياكل عظمية لشخصين شابين. وبعد التحميضات المختبرية سيتم الإقرار أولا على أنهما بقايا هياكل عظمية ليافع ذكر عمره 14 سنة عند وفاته، وهيكل عظمي لفتاة في 21 سنة من عمرها عند وفاتها. وستزيد التدقيقات الحمضية والمسحية أنها هياكل لجثث تم دفنها منذ 90 سنة. وقبل هذا الاكتشاف بحوالي 16 سنة، تم العثور بمنطقة قريبة من غابة تسارسكوي على رفات 5 جثث لها نفس العمر من الدفن. هذه الهياكل العظمية هي لعائلة نيقولاي رومانوف، آخر قياصرة روسيا، وزوجته وبناته الأربع وابنه، الذين لقوا حتفهم من طرف ثوار بولشفيك في ربيع 1917.
في التاسع من نونبر لعام 1894 سيعتلي نيقولاي الثاني عرش الإمبراطورية الروسية العظمى خلفا لوالده ألكسندر الثالث. سيتزوج الإمبراطور نيقولا من ألكسندرا فيودوروفنا، أميرة من سلالة عائلة آل جورج وهي عائلة ملكية إنجليزية.
لم يحظ نيقولاي الثاني سريعا بطفل ذكر إلا بعد إنجابه لأربع بنات تحولن بفعل جمالهن وتواضعهن وأعمالهن الخيرية إلى أيقونات حية داخل الإمبراطورية وفي كل بقاع روسيا، بل وحتى خارج روسيا. ولشدة ولع الإمبراطور نيقولاي الثاني بالأدب، وخصوصا مؤلفات ألكسندر بوشكين، سيسمي بناته بأسماء بطلات قصص هذا الكاتب الروسي الشهير. أنجب بنته البكر الأميرة أولغا، ثم بعدها بسنة ونصف السنة الأميرة تاتانيا، وبعدها الأميرة ماريا، التي روى المؤرخ الروسي بوشكين أنها ولشدة جمالها كانت في صغرها شديدة الشبه بحوريات الرسام الإيطالي الشهير بوتيتشيللي... فالصغيرة أناستازيا التي كانت تعشق ركوب الخيل وارتداء بزات عسكرية، وكان والدها دوما يجد صعوبة في إقناعها أن الذهاب إلى المعارك لا يليق بفتيات أميرات صغيرات. وانطلاقا من الأحرف الأولى لأسماء الأميرات الأربع، أطلق الروس عليهن اسم شجرة «أوتما» otma المباركة.
لم يصدق القيصر نفسه ولا زوجته بأنهما سيحظيان أخيرا بطفل ذكر أطلقا عليه اسم أليكسي، الذي سرعان ما سيبرز أعراضا مرتبطة بمرض الهيموفيليا (القاتل آنذاك)، وهو مرض كان يسقط الأمير الصغير بين الفينة والأخرى في نوبات ألم حاد وغضب واضطراب في السلوك، بالرغم من طبعه المسالم، لكثرة شبهه بالقيصر الهادئ واللطيف جدا نيقولاي الثاني. بعد ذلك سينزل خبر كالصاعقة على آل رومانوف، حيث سيصدر المجلس القيصري (وهي أعلى هيئة لتدبير عمل القيصر وسلطاته) «بلاغا» بعدم أهلية أليكسي نيقولاي رومانوف بولاية العهد ووراثة العرش. لكن صلوات العائلة القيصرية بشفاء الطفل أليكسي من آلامه كانت تتجاوز صلواتهم له باعتلاء عرش أسلافه.
كانت الحياة اليومية لآل رومانوف ربما أكثر الحيوات الملكية تصويرا وتوثيقا، بحيث كان القيصر نيقولاي الثاني جد مولع بهواية التصوير لدرجة كان يخصص ثلث يومه لتصوير أفراد أسرته والاعتناء الكبير بصورهم في ألبومات مرصفة بعناية فائقة. ولحسن أو لسوء الحظ سيأخذ القيصر آخر صورة لأسرته قبيل تصفيتهم بساعات في المنزل المهجور «إيباتيف». حاول العديد من الرسامين من بعد إعادة رسم الصورة الأخيرة لرومانوف، لما تحمله من معان إنسانية تراجيدية تمتزج فيها أحاسيس رهيبة من الخوف ارتسم بشدة في عيون أميرات وأمير مريض، بأحاسيس قوية من الحب المتبادل من طرف أفراد أسرة ملكية سيتم تصفيتها ببشاعة قصوى لا توصف.
نقطة بداية النهاية لآل رومانوف كانت عندما دخلت روسيا إلى الحرب العالمية الأولى، فبالرغم من انخراط القيصر شخصيا هو وابنه المريض فيها من خلال قيادته لمعسكر «موغيلاف» في غرب روسيا، وانخراط الأميرات والملكة في عمليات إسعاف وعلاج الجنود في القصر الشتوي، فإن الحرب كانت قاسية جدا على البنى الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية أيضا لروسيا في ذلك الوقت: الدولة فلاحية وأغلب الفلاحين الذكور انخرطوا في ساحات المعارك، مما أثر على إنتاجية الزراعة وتفشي المجاعة، إضافة إلى أحوال الطقس الباردة الاستثنائية التي غطت ثلثي مساحة روسيا وقتئذ.
وروسيا لم تكن فقط حقولا للفلاحين، بل أيضا موطنا لمفكرين أفذاذ وطبقة بورجوازية ناشئة في الغرب كانت لها مطامح إقلاع اقتصادي ومالي وثقافي قوية لم تستطع العائلة الملكية مواكبتها جراء أرثودوكسية النظام وطابعه التقليدي الصرف. بحيث كان نيقولاي الثاني لا يستطيع مواكبة المجالس الاستشارية التي كانت تهتم بالأوضاع الاقتصادية والمالية، وكانت تنوب عنه فيها ابنته البكر الأميرة أولغا.
ملامح النظام الحاكم لروسيا في عهد نيقولا الثاني كانت ملامح فيودالية صرفة. لكن الدخول في الحرب العالمية الأولى، وما اقتضته الحرب من تسلح وصناعة وبنى تحتية متطورة وآليات عسكرية جاهزة، طور لدى معارضي الحكم، وأبرزهم بافلوفيتش ريابوتشينسكي، وإليتش أوليانوف لينين وغيرهم من المثقفين ورجال الأعمال، فكرا ثوريا متأثرا بالفكر الأوربي بعد الثورة الفرنسية وما حملت معه من نزعة جمهورية مدنية وديمقراطية بكل أوربا.
الهزيمة في الحرب العالمية الأولى زادت الثورة تهيجا وانتظم البولشفيك سنة 1917 في ما يعرف بالثورة البولشفية، التي اندلعت في فبراير لتطيح بالنظام القيصري الروسي في مارس من السنة نفسها. أثناء اندلاع الثورة أحس نيقولاي الثاني بقرب نهايته كقيصر روسيا، والتجأ يستنجد بالعائلة الملكية لإنجلترا، لكن جورج الثاني تفادى إعطاء أي دعم لأن كل الأنظمة الملكية في أوربا كانت تحس بانحباس في شعبيتها، وبالتالي فمبدأ التآزر بين الملكيات لم يكن مبدأ قابلا للتنفيذ في تلك الفترة بالذات. لقد سبقه لويس السادس عشر في ذلك، لكن الملوك الإنجليز لم يريدوا المجازفة بشعبيتهم.
تحتم على نيقولاي أن يلقى مصيره بنفسه هو وأفراد عائلته، حيث سيحل في قصره مسلحون من البولشفيك، وسيتم سجنه هو وأسرته بقصر ألكسندر الثالث (قصر شبه مهجور) في منطقة تسارسكوي الباردة، ثم سيحولوهم إلى قصر توبوسك. وهو المكان الذي ستصاب فيه الأميرات بداء الحصبة والحمراء وكثير من الأمراض الجلدية التي أودت بوضعية بشراتهن وفروات رؤوسهن. سيقوم نيقولاي الثاني بأخذ صورة أخيرة للفتيات وهن حالقات لشعورهن ومنهمرات في قهقهات هستيرية.
بعد ذلك، في أبريل 1918، سيتم ترحيل العائلة الملكية من طرف البولشفيك إلى منطقة معزولة في «إيكاتيرينبورغ»، وفي يوليوز من السنة ذاتها سيقيمون في منزل شبه سري ومعزول سيطلق عليه في ما بعد بمزل «إيباتيف».
عندما دقت الثانية صباحا من يوم 17 يوليوز 1918، سيحضر القائد البولشفي لاكوف لوروفسكي مؤازرا بعشرة جنود مسلحين، وسيوقظون كل أفراد عائلة نيقولاي الثاني. سيتم وضعهم في بهو البيت مصطفين، وسينادي لوروفسكي أولا على القيصر ويخبره بأنه سيقتل... لم يحظ القيصر بفرصة توديع ولا تقبيل فتياته وابنه وزوجته ولا الصلاة ولا أية حظوة تحترم طقوسية الموت الفجائي. ستطلق رصاصة من بندقية لاكوف نحو قلب القيصر، ثم من بعد سيتم تهشيم رأسه ووجهه بمطرقة حادة. وقع ذلك أمام أعين أفراد أسرته.
المآل نفسه ستواجهه الأميرات والملكة والأمير ألكسي، الذي تروي الروايات أنه وبالرغم من تلقيه رصاصة في القلب وعشرات الضربات على الرأس والوجه، توجه زاحفا نحو باب المنزل وهو ما جعل جثته تحظى بأكبر عدد من الطلقات النارية والضربات. أحرق البولشفيك الجثث ودفنوها متفرقة في أماكن عديدة. ولم يعرف الروس مصير القيصر وعائلته إلا بعد مرور 90 سنة على هذه الأحداث. بعد اكتشاف الجثث، ستتم عمادتهم ودفنهم في كنيسة سان-بيترسبورغ الكبيرة.
ما وقع في فرنسا مع لويس السادس عشر ومع نيقولاي الثاني في روسيا يدعونا لوضع استنتاجات متقاطعة لهذين الاغتيالين البشعين. وصفنا للأحداث تطلب منا جهدا في التحقيق في جزئياتها، وكنا حذرين لكي لا نسقط في الحكي الذاتي لأحداث تاريخية امتزجت فيها إرادة الشعبين الفرنسي والروسي للديمقراطية من خلال ثورتين تاريخيتين هامتين (الفرنسية والبولشفية). لكن بالمقابل، كان التخلص من الملكيتين بشعا، وقاسيا ووصم طويلا المعتقد السائد غير الصحيح على أن جمهوريي فرنسا (نهاية القرن 19) والبولشفيك في روسيا كانوا يحملون فقط لواء السلم التام والمصالحة التامة.