في شبه عرف رئاسي وشبه طقوسية فرنسية خاصة، يقوم رؤساء فرنسا، بمجرد اعتلائهم مقاليد الرئاسة، بزيارة «معبد» أو «ضريح» البونتيون Panthéon، حيث رفات الجندي المجهول ورفات جون جوريس. من يكون جون جوريس هذا؟ ولماذا حظي هذا الصحافي والسياسي الفرنسي المقتول بكل هذه القدسية لدى الفرنسيين؟
لو كتب لجون جوريس الحياة معنا اليوم لما كان سيحظى بالحظوة التاريخية الخاصة التي تطبع شخصيته منذ اغتياله سنة 1914. فقد كان صحافيا نشطا، بل مديرا للنشر للجريدة الاشتراكية الفرنسية Humanité ومناضلا مجدا في الحركة العمالية الاشتراكية، وأكثر ما كان يعرف عنه قيد حياته، هو إيمانه الراسخ والعلني والشجاع بأن دخول أوربا في الحرب العالمية الأولى وبالأخص فرنسا سيكون كابوسا على جميع دول أوربا، خصوصا أن أوربا لم تتعاف بعد من جروح الثورات الديمقراطية التي أشعلت حروبا طويلة وقاسية للتخلص من أنظمة الحكم السياسي الإلهي الوراثي في فرنسا وفي دول أوربية كثيرة.
ولتأصيل نضاله المستميت ضد الحرب وخصوصا ضد الألمان، سينشئ جون جوريس هو وثلة من الاشتراكيين ما سمي آنذاك «الوحدة المقدسة»، وهي جماعة سياسية اشتراكية أوربية نافذة كانت تدعو عبر الأحزاب والنقابات والجرائد والجامعات، إلى عدم دخول فرنسا في الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في يوليوز لسنة 1914.
كما كان جون جوريس يحظى في مشروعه السياسي بمؤازرة فكرية للعديد من المفكرين الفرنسيين المرموقين آنذاك وعلى رأسهم ليفي برول وإميل دوركهايم وغيرهما.
في يوم الجمعة 31 يوليوز 1914 عقد جون جوريس آخر اجتماع مع فيفياني رئيس المجلس الحكومي، وتوجه بعد ذلك إلى مكتبه بجريدة Humanité لصياغة افتتاحية فاتح غشت، والتي كان موضوعها «التحرك ضد نشوب الحرب». في الساعة التاسعة مساء، سيضرب موعد عشاء بمطعم Le Croissant مع صديقه بيير رونوديل، وهو رئيس الحزب الاشتراكي الفرنسي آنذاك، وجون لونغي، عضو قيادي بالحزب ذاته وحفيد كارس ماركس.
بعد مرور أربعين دقيقة، سيقترب شاب في الثلاثين من عمره يدعى راؤول فيلان، ويستل مسدسا من معطفه ويصيب عن مسافة قريبة الصحافي والسياسي الفرنسي الشهير جون جوريس في رأسه بطلقتين ناريتين غادرتين. سيموت جوريس في الحال.
من قتل جون جوريس؟ ولماذا؟ بعد القبض على القاتل سيتم التعرف عليه وسيتم تعميق التحقيق ليتم التعرف على توجهاته السياسية. فهو الشاب راؤول فيلان من اليمين المتطرف آنذاك، ينتمي إلى الحركة اليمينية المتطرفة «الحركة الفرنسية» أو «الحركة من أجل فرنسا» التي يتم فيها تجنيد الشباب الفرنسي، خصوصا من الضواحي حول أفكار يمينية تدعو إلى مجد فرنسا ومجد أمجادها الملكية ونبذ الاشتراكية والشيوعية التي كانوا يعتبرونها أفكارا دخيلة على الفرنسيين، بل وأفكارا تم استيرادها من أوربا الشرقية البولشفية.
وقد وجدوا في محفظته الشخصية وفي بعض المخطوطات التي يحتفظ بها في بيته أنه كان يتربص بجون جوريس ثلاثة أشهر قبيل اغتياله، وأنه كان ينعته في بعض مذكراته بـ«جوريس الخائن» و«جوريس الألماني».
بعد مرور أربع سنوات من اعتقاله، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ستعاد محاكمة راؤول قاتل جون جوريس وستتم تبرئته، بل واعتبار حدث اغتيال الزعيم الاشتراكي من طرف هذا المتطرف اليميني الشاب على أنه حدث عارض وفردي ولا يرتبط بأي مبررات سياسية. مرت تبرئة راؤول فيلان بالموازاة مع انتخاب Poincaré رئيسا لفرنسا بدعم حاشد من طرف الوطنيين واليمينيين. وهي نتيجة سياسية في بلد خرج مكسورا من حرب قصمت ظهره وأضعفته. الحركات الوطنية في فرنسا آنذاك، كما في العديد من الدول التي دخلت الحرب العالمية الأولى، كانت سائدة، وهو ما فسح المجال لتبييض الذمم الجنائية والسياسية للعديد من الوطنيين من بينهم قاتل جون جوريس.
الحملة اليمينية الشرسة على جون جوريس وعلى حركة «الوحدة المقدسة» الاشتراكية المناهضة للحرب ودخول فرنسا فيها، جاءت في سياق سياسي وإقليمي عرفت فيه فتورا كبيرا للعلاقات الدبلوماسية بين فرنسا وألمانيا. هذا الفتور راجع إلى التنافس الاستعماري الذي نشب بين إنجلترا وفرنسا وألمانيا في اقتسام خريطة المد الاستعماري بينهم، خصوصا أن بسمارك، قائد ألمانيا، كان دوما يعتبر أنه وقع إجحاف تاريخي في حق دولته في ما يخص حظوتها بامتداد استعماري يليق بقوتها العسكرية وتجذرها التاريخي.
هذا التنافس الاستعماري بين فرنسا وألمانيا سيزيد من حدته، عندما سيطلب السلطان المغربي المولى عبد الحفيظ من فرنسا مؤازرته في صراعه الداخلي مع القبائل الثائرة. وهو ما سيسهل من وجود فرنسا العسكري داخل التراب المغربي، وبالأخص في فاس والرباط ومكناس. دخول اعتبره الألمان خيانة لاتفاق الجزيرة الخضراء، وهو ما دفع بهم إلى التوجه بأسطول عسكري إلى حوض أكادير. وهي الأزمة التي عرفت «بأزمة المغرب» أو «أزمة أكادير».
ونضال جون جوريس السياسي في هذه الفترة الحساسة بالذات من أجل عقد مصالحة مع الألمان والدفع بخطورة الحرب ضدهم، سيسهل من مأمورية اليمين الفرنسي بتوجيه تهم الخيانة إلى جوريس ومعه كل الاشتراكيين الفرنسيين الموالين له والنشطاء في حركته «الوحدة المقدسة». ستزيد تحركات جون جوريس من حساسية وضعه ومواقفه السياسية، عندما سينسق مع فرقاء سياسيين ألمان لدعم نفس توجهاته.
حدث اغتيال جون جوريس قبيل اشتعال الحرب العالمية الأولى بثلاثة أيام، لم يكن حدثا عابرا، بل جسد صراعا سياسيا كبيرا وعميقا عرفته فرنسا بين اليمين واليسار، وهو الصراع الذي أسس للقطبية السياسية التي تعرفها فرنسا اليوم، خصوصا حول قضايا تهم من جهة فرنسا كوطن خاص للفرنسيين، ومن جهة ثانية فرنسا كفاعل أوربي لا يمكنه أن يكون وطنيا بالشكل التقليدي الذي يريده اليمين.
عند اندلاع الحرب ودخول فرنسا فيها، ستنقلب الموازين لصالح اليمينيين الوطنيين، وستعرف مواقف العديد من الاشتراكيين والراديكاليين والشيوعيين انقلابا جذريا. بحيث صعب على الفاعلين السياسيين الاشتراكيين آنذاك الالتزام الجذري بمواقفهم ضد الحرب، والدولة منهمكة في الحرب بقتلاها وآلامها وتعاطف المواطنين المتزايد معها. سيعلن مثلا غوستاف هيرفي، رئيس تحرير الجريدة الراديكالية «الحرب الاجتماعية» بأنه «لا يمكن أن نقتل فرنسا لأنهم قتلوا جون جوريس»... وستصدر جريدة «الشارة الحمراء»، وهي جريدة راديكالية يسارية متطرفة، مانشيت كبير بعنوان «جوريس مات.. فلتحيا فرنسا». وكلها إشارات سياسية تروم ضرورة تغذية أدلوجة الدولة الفرنسية القاضية بمؤازرة فرنسا سياسيا لأنها في زمن حرب عالمية قاتلة وخطرة.
التوافق السياسي المؤقت بين الاشتراكيين والوطنيين الراديكاليين حول وحدة فرنسا ودعمها السياسي والنفسي في زمن الحرب، سينتج عنه في ما بعد شيء أعتبره ردا لجميل هذا التوافق وتجسيد ذلك في رفع تهمة التخوين عن جون جوريس، بل وتحويله رمزيا إلى أيقونة سياسية فرنسية ناضلت من أجل السلم والسلام الأوربي.
ستنطلق في فرنسا بشكل متسارع وغريب أيضا عمليات وضع تماثيل لجون جوريس بسبع مدن فرنسية، وتسمية شوارع باسمه، بل وسيقترح رئيس مجلس الوزراء، الراديكالي إدوارد إيريو، سنة 1924، تحويل رفات جون جوريس ووضع تذكار جمهوري له بمعبد البونتيون، تبركا بقيمته السياسية والإنسانية لفرنسا.
وهذا حال غالبية ضحايا الاغتيال من السياسيين، وخصوصا بأوربا، حيث تحدث مصالحة متأخرة في حقهم نسبيا ويتم تأصيل تجربتهم سياسيا وتتحول قبورهم إلى متاحف ومعابد للديمقراطية.
الأمر لا يحصل دائما لثوار سياسيين في بقاع أخرى، ونحن إذ انتقلنا إلى أمريكا اللاتينية مثلا، في نفس حقبة جون جوريس، سنجد ثوارا من طينة أخرى، تمت تصفيتهم بشكل مخالف لكن لم تكن لهم نفس حظوة التقديس، بل دنسهم التاريخ وجاءت سينما هوليوود وأفلام الويستيرن، لتصورهم كقطاع طرق همجيين. لنلق نظرة على حياة إيميليانو زاباتا وبانتشو فيلا ونضالهما لفائدة مزارعي المكسيك واغتيالهما ببشاعة في حقول «الهاسيانداس» (استغلاليات زراعية كبيرة).