تمكن قراءة متأنية لتاريخ الثورة المكسيكية التي اندلعت سنة 1910، من الاقتراب من ملامح مجتمع زراعي فيودالي يشبهنا كثيرا ويشبه كثيرا من ملامح تاريخنا، بالرغم من وجود فوارق وتقاطعات. المكسيكيون في بداية القرن العشرين كانوا في غالبيتهم (أكثر من 80 في المائة) مزارعين، سواء أكانوا ملاكا أو مستخدمين. والنظام الحاكم وقتئذ، بالرغم من طابعه الجمهوري والعسكري الظاهر إلا أنه كان امتدادا للاستغلال الاستعماري الفرنسي والإسباني، وبعد ذلك دخوله تحت أنماط التوجه الاستثماري الأمريكي.
وانفتاح المكسيك على الأجانب، خصوصا في عهد حكم الجنرال خوسي دي لاكروز بورفيريو دياث (1830-1914)، كان سيفا ذا حدين: رفاه في البنية المركزية ناتج عن عائدات الاستثمارات الأجنبية، وقهر اجتماعي في البوادي والاستغلاليات الفلاحية.
ولأن المكسيك أرادت من مخططها الاقتصادي أن يفتح الفلاحة والزراعة على الاستثمارات الأجنبية، فقد أثر ذلك على بنيات الملكيات والاستغلاليات الزراعية القروية المحلية. حيث كانت سنة 1857 مفصلية بعد التعديلات الدستورية وما صاحبها من مراسيم تنظم الملكيات الفلاحية. وقد أعقب ذلك تحول جذري من نمط زراعي جماعي (حيث كان سكان القرى يملكون مشتركين كل الاستغلاليات الفلاحية لقراهم) إلى ظهور الملكيات الفلاحية الكبرى في يد قلة من الإقطاعيين. تغير ملامح بنيات امتلاك الأراضي أثر على البنيات الاجتماعية الزراعية للمكسيك. وكان ملاك الأراضي المتوسطون هم أكبر المتضررين من سياسة التحرير الكامل للزراعة ونمطها.
هذا السياق التاريخي والاقتصادي هو ما شكل أساسا نبض الثورة المكسيكية لبداية القرن العشرين، وهو السياق الذي ترعرع وكبر فيه أحد أشرس ثوار الجنوب، إيميليانو زاباتا.
في مقاطعة أناناكويلكو (أو نبع الماء الذي لا ينضب) بولاية موريلوس بجنوب المكسيك، سيرى إيميليانو زاباتا النور، وهو الابن الرابع لأسرة من 9 أطفال، عاش في أسرة إقطاعية كانت معروفة أكثر بتربيتها للخيول البرية.
هذه الميزة التي تميزت بها آل زاباتا، أثرت في إيميليانو الشاب، الذي سيشتهر في بلدته بقوته وفنيته في ترويض الخيول وبأناقته الكبيرة في ارتداء أزياء الفروسية (تشارو)، وعشقه للنساء وإنجاب الأطفال (يقال إنه تزوج 27 مرة). حيث كانت حياته صاخبة حينا ومفعمة بحيوية ذلك المكسيكي «الهندي» العاشق للحياة والمفعم أيضا بالفروسية والسخاء.
هذه السمات في الشخصية والكاريزما مكنت إيميليانو سريعا من تقلد منصب الناطق الرسمي لسكان وفلاحي أناناكويلكو، وهو عادة منصب يعطى لكبار السن وأعيان المنطقة. وهو المنصب الذي سرعان ما جعله مسؤولا عن حماية أراضي أهل البلدة، عندما بدأ المخطط العام في ضم الأراضي وإعادة تمليكها للمستثمرين. فأراضي منطقة إيميليانو كانت خصبة كثيرا وتنتج كميات هائلة من قصب السكر، وهو المنتوج الذي كانت المكسيك تعول عليه لزيادة قوتها الاقتصادية.
لم يتحمل أهل الجنوب أخذ أراضيهم بقرارات حكومية، مما اضطر زاباتا إلى حشد جموع فلاحين بسطاء والهجوم على الاستغلاليات الزراعية وطرد من فيها وإعادة توزيعها على الأهالي. ولأن الحكومة المركزية كانت في تلك الفترة منهمكة في تدبير قلاقل سياسية وبوادر انقلاب ترأسه السياسي المكسيكي المعروف واشتراكي النزعة فرانسيسكو ماديرو، فإن الفرص كانت سانحة لفلاحي الجنوب وقائدهم زاباتا باسترجاع مزيد من الأراضي، مما مكنهم من فرص إضافية في الكبر والتقوي.
ولأن فيليبو ماديرو كان هو أيضا ذكيا فقد استطاع أن يعبئ لصالحه ثورات الفلاحين، وأن يقنع إيميليانو زاباتا في الجنوب وبانتشو فيلا في الشمال، وهما ثائران زراعيان، بالانضمام إليه سنة 1910 لإسقاط حكم بورفيريو دياث وهو ما حصل في سنة 1913.
لم يكن إيميليانو زاباتا رجل سياسة ورجل مفاوضات وتكتيك، بل فلاحا له «أجندة» واحدة ووحيدة هي إرجاع كل أراضي ولاية موريلوس إلى أصحابها من الفلاحين، وإقامة نمط في الاستغلال الجماعي المشترك لها بين المزارعين. ولم يكن يعي أنه بصدد المطالبة بنمط شيوعي جنوب المكسيك تؤازره دواعي استقلال وانفصال عن نمط الحكم المركزي. ولأن فرانسيسكو ماديرو كان رجل سياسة فذا وذكيا وجد مثقف، فإن الفجوة بين الرجلين سرعان ما ستتسع لتحصل القطيعة بينهما، وينسحب زاباتا من دعمه لهذا الرئيس الشاب.
تقول المؤرخة المكسيكية ماريا خورسي بياز إن قوة وصرامة زاباتا في كل مسيرته الثائرة، ورفضه المطلق لكل التعاقدات والتنازلات التي يفرضها منطق المفاوضات السياسية بعد الثورة، كانت بسبب بساطة رسالته والتي كان عنوانها «الأرض لمن يزرعها». وكان مصلح TERRA هو القلب النابض لكل حروبه مع الدولة المركزية، وهو القلب الذي جعل كل فلاحي المكسيك، وخصوصا جنوبه ووسطه، يهتفون بهذا الفارس الذي ترك أملاكه وأصدقاءه من كبار رجال السلطة، ليعيد أملاكهم بدون هوادة.
شعرة معاوية التي قطعها فرانسيسكو ماديرو مع إيميليانو زاباتا هي عندما طالب الأول الثاني بوضع سلاح الثورة إلى حين إعداد مخطط زراعي وطني جديد. لكن الرئيس ماديرو سيقتل في انقلاب عسكري سيقوده الكولونيل فيكتور يانو هورتا سنة 1914، وهي السنة التي ستعرف فيها الثورة المكسيكية منعطفا جديدا سيزيدها قوة وشرارة، هذا المنعطف كان عندما التقى إيميليانو زاباتا وجيشه وثواره من الجنوب، بالثائر الشمالي بانتشو فيلا وميليشياته، وذلك في ضواحي مكسيكو العاصمة من أجل التنسيق لاحتلالها.
يحتفظ أرشيف الثورة المكسيكية بصور وتسجيلات الفيديو أيضا لهذا اللقاء التاريخي، الذي نظرت إليه الولايات المتحدة الأمريكية بعين الخوف والشك والريبة. صور بقدر ما تعكس تنسيقا عسكريا بين الرجلين، بقدر ما تجسد اختلافات جوهرية في ملامح الرجلين، وفي نظراتهما وطريقة جلوسهما وأكلهما وكلامهما. ففي الوقت الذي كان بانتشو فيلا (سنعرض حياته لاحقا) يوحي بالدهاء بالابتسام للكاميرا والكلام مع من يجالسه وأكله النهم غير آبه بمن ينظر إليه، أوحى إيميليانو زاباتا بصمت ذلك «القروي» الخجول والقاسي، والذي لم يرفع كثيرا وجهه لعدسات الكاميرا ولم يعبر، من شدة قسوة تعبيراته، على أنه كان في وضعية أريحية وهو يحتل القصر الرئاسي وموائده... ببساطة كان باله دوما شاردا مع قريته وقضيته البسيطة والملحة.
رفض زاباتا من جديد كل مصالحة مع النظام الحكومي، وطلب من بعض أتباعه من المحامين والمثقفين (لأن ثورته ستجر كثيرا من اشتراكيي المكسيك ودول أمريكا اللاتينية) بيانا تاريخيا، ربما يعد أول البيانات الثورية الفلاحية في العالم وهو ما يسمى بـ«مانيفيستو دي أيالا» يلخص فيه رسالته الثورية بمطالبها التي وسمها زاباتا بنوع من القداسة، بل وتحولت مضامينه إلى «العقد الفلاحي المكسيكي الجديد»، بعد الثورة الحديثة ضد الفيودالية المتوحشة.
احتلال المزارعين الثوار لمكسيكو، لم يكن حدثا عابرا ولم تستسغه المكونات الأساس لمنظومة الجيش ومنظومة الاقتصاد المكسيكي آنذاك. كما أن إرسال الولايات المتحدة الأمريكية للجنرال جون بيرشنغ لتصفية بانتشو فيلا، حليف زاباتا (الذي ارتكب خطأ احتلال منطقة في شمال المكسيك تقع ضمن نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية)، جعل الثورة تتصدع من الداخل عندما انسحب ثوار الشمال، وبدأ مثقفو ثوار الجنوب بمحاولة إقناع زاباتا بالتحول من نمط الثورة التقليدية البسيطة إلى العمل السياسي التفاوضي. إلا أن زاباتا ظل متمسكا بحمله السلاح ورفضه لكل أطروحة تزيغ به عن رسالته الثورية التي تضمنها «إيل مانيفيستو دي آيالا».
بعض أخطاء زاباتا، كتصفية العديد من رموز حركته بتهمة خيانته، جعل الكثيرين ينفصلون عنه، كما كان لسنوات الجفاف بين 1915 و1918 أثر بليغ على تموين الثورة، زيادة على كون الثوار ضاقوا ذرعا من غيابهم طويلا عن عملهم كمزارعين وآثار ذلك على اضمحلال أوضاع أسرهم وأطفالهم.
نصب الكولونيل غيساس غوغاردو كمينا لإيميليانو زاباتا، الذي تم إبلاغه بأن أحد كبار قادة الجيش سيقود انقلابا جديدا على الحكومة المركزية ويحتاج إلى دعم زاباتا ومؤازرته.
الطابع البدوي الصرف، وعدم درايته بمقالب السياسة، وانعزاله عن كبار مستشاريه، وضعف وهوان حركته الثورية كل هذا جعله يقبل لقاء هذا القائد العسكري في منطقة كوانتالا، جنوب المكسيك. لم يكتب لزاباتا أن يتجاوز سنه 39. ووقع ضحية كمين عسكري أودى بحياته رميا بالرصاص.
يروى أنه تم العبث بجثته التي حملوها في عربة وظلوا يطوفون بها في كل قرى ولاية مورليوس الشاسعة، وكل مرة يطلون جثته بالجبص لكي لا تتعفن. وبعد مدة أمر غيساس غوغاردو، بدفن رفات إيميليانو زاباتا في مكان مهجور في حقول قصب السكر بقرية كوانتالا، والغريب هو أن تعليمات أمرت بحفر حفرة عمقها أكثر من 10 أمتار تكون قبرا لزاباتا لكي لا يستطيع مزارع أن يعيد إخراجها.
«زاباتا لم يمت... إنه هو ذلك الشخص الذي تأتي به رياح قصب السكر فتتغنى بقدومه... الفارس الغريب الذي يطوف بحصانه في حقولنا في كل صيف من كل سنة...قبعة مكسيكية كبيرة ولباس تشارو رائع... يحمل معولا بيده اليمنى وبندقية باليسرى... ليطمئن على قصب السكر، هل يحلي كؤوس شاي الأهالي الذين لم يخذلوه»، هي كلمات لأغنية محلية يتغنى بها سكان أناكويلكو (مسقط رأس الزعيم). هذا الزعيم الذي تغنت به السينما العالمية في شخص مارلون بروندو في فيلم «Viva Zapata»، والذي حاول الفن السابع الاقتراب نوعا ما من هذه الشخصية المكسيكية الأسطورية التي رفعت السلاح في وجه «سارقي أراضي المزارعين» ولم تقبل بأية مصالحة معهم.