وأنت تزور مقر الكونغرس الأمريكي ستجد مكتوبا في ردهة رسمية مرموقة أسماء كبار ثوار المكسيك، وبينهم اسم مكتوب بالذهب، لبانتشو فيا. كما أنك ستتعرف بسهولة، في المتحف الوطني لمكسيكو، على سيارة قديمة من نوع «فورد» كانت لبانتشو وقت مقتله سنة 1923.
بدأت قصة هذا الثائر المكسيكي، عندما اكتشف أن مالك إحدى المزارع قد اغتصب شقيقته، فقام بقتل الرجل ثم امتطى ظهر جواده هارباً إلى التلال، ومنذ ذلك اليوم، وبانتشو فيا هارب محارب ثائر وقتيل. حولت الثورة المكسيكية فيا إلى أسطورة الرجل الذي لا يشرب الخمر ولا يدخّن إطلاقا، وبالمقابل لا يتردد أبدا في القتل. شأنه شأن إيميليانو زاباتا، ثائر الجنوب، سيجمع بانتشو فيا جيشا صغيرا من المزارعين المتضررين من قرارات الحكومة المكسيكية المركزية، ويبدأ سلسلة من الغارات على الإقطاعيين الأثرياء، ليوزع الغنائم على رجاله وعلى المزارعين الفقراء من بلدته.
في عام 1910 م، سيصبح بانتشو فيا قائداً عسكرياً يقاتل تحت قيادة الجنرال فرانسيسكو ماديرو في الثورة التي أطاحت بالرئيس بورفيرو دياز واستبدلته بالجنرال ماديرو. وبسبب موهبته التنظيمية وانضباطه التكتيكي في قيادة الغارات والهجمات، اكتسب بانتشو فيا رتبة عقيد، ولكن سيغادر الجيش ليتحول إلى رجل أعمال. لم تطل حياة بانتشو المدنية البعيدة عن أجواء الحرب، وسرعان ما سيلتحق بجنرالات الجيش المكسيكي، خصوصا في صفوف الجنرال باسكوال أوروزكو الذي أطاح بماديرو عام 1912، ثم فيكتوريانو هويرتا الذي سيمسك بزمام الجيش المكسيكي إبان الثورة المكسيكية.
ولأنه لم يستفد من مجاراة الجيش ولم ينل جميع مطالبه بوقف استغلال صغار الفلاحين بمنطقته، سيتمرد بانتشو فيا على الجنرال فيكتوريانو هويرتا الذي سيأمر باعتقاله وإعدامه لاتهامه بالخيانة. سيتم اعتقاله بعد أشهر من التمرد وسيصدر حكم بالإعدام في حقه. والغريب أنه قبل إطلاق الرصاص بلحظات، سيصل راؤول ماديرو، شقيق الرئيس المكسيكي، ويوقف عملية الإعدام في حق بانتشو فيا.
سيهرب بانتشو فيا من السجن العسكري ويتوجّه إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هناك، وبعد سنة واحدة، سيسمع نبأ اغتيال ماديرو وتنصيب هويرتا ليكون دكتاتور المكسيك، وبالتالي سيقرر العودة إلى المكسيك لإعادة الانخراط في الثورة المكسيكية من جديد.
عاد بانتشو فيا إلى بلاده، وانضم إلى الجنرال إيميليو كارانزا وإيمليانو زاباتا من أجل بدء ثورة. وقد تمكن جيشه المؤلف من 35 ألف رجل من إنجاح الثورة. وفي عام 1914، استقال الدكتاتور هويرتا بضغط من الثوار وعلى رأسهم بانتشو فيا، واستلم كارانزا منصب رئاسة البلاد.
مرة أخرى، لم يكتمل الوفاق بين الرئيس كارانزا وبانتشو فيا، لذلك ثار من جديد بُعيد تغيير التشكيلة الحكومية، وقام - بالتنسيق مع زاباتا- باحتلال مدينة مكسيكو سيتي العاصمة، وهكذا صار في حكم خارج على القانون، لكن الجيش الحكومي تمكن بدعم أمريكي من إرغام جيش فيا على التراجع خارج مدينة مكسيكو باتجاه التلال الشمالية، وإرغام فيالق إيميليانو زابا بالتراجع جنوبا.
ظل بانتشو فيا فترة من الوقت بعيداً عن الأنظار، فقد انشغل بتأمين الخدمات للمنطقة التي يسيطر عليها، فكان يوزع الأراضي على المزارعين ويقترب أكثر فأكثر من الفقراء ويؤمن طرق الشمال بشكل ساعده على توفير مداخيل مهمة لمنطقته.
لكن، في سنة 1916 عاد بانتشو فيا إلى سطح الأحداث، بعد أن أغضبه اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بحكومة كارانزا، كما شعر بالحاجة إلى إمدادات وتموين، ولذلك قام مع رجاله بغزو بلدة حدودية أمريكية، وبالتالي أمر الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون بإرسال حملة عسكرية تحت إمرة الجنرال جون بيرشنغ للقبض على بانتشو فيا حياً أو ميتاً، لكن الحملة لم تتمكن من تنفيذ مهمتها، مع أنها كلّفت الخزانة 100 مليون دولار أمريكي في تلك الفترة من الزمن.
وفجأة ظهر بانتشو فيا من جديد ليستسلم لقوات الحكومة عام 1920. وبالرغم من أنه مطلوب للعدالة في الولايات المتحدة الأمريكية، كانت فكرة محاكمته غير واردة، لأنه ما زال بطلاً شعبيا ومعروفا بحيث ستكون فكرة سجنه أو إعدامه محفوفة بالمجازفة، لكونها ستشعل القلاقل بعد تمكن السلطة المكسيكية من تهدئتها بصعوبة. منحته الحكومة المكسيكية عفواً وراتباً تقاعدياً يعادل مليوني دولار بالذهب، وهكذا استقر فيا في مزرعته وعاش في سلام.
كتب المؤرخ صامويل مايو عن تلك الفترة: «كان ذلك تغيراً دراماتيكياً في حياة زعيم العصابات، فقد بدأ يبني مشفى ومدرسة ومكتب بريد في بلدة بارال الصغيرة. ولكنه لم يستطع البقاء صامتاً تجاه شؤون المكسيك». وعندما اقتربت الانتخابات الرئاسية، تورط في دعم صديقه القديم أدولغو دي لاهويرتا ضد المرشح الآخر كالاس، المدعوم من طرف الولايات المتحدة الأمريكية. وقد نصحه الأصدقاء وحذروه من الخطر الكامن وراء هذا الانخراط الجديد في موازين القوى السياسية بدولة غنية ومحط اهتمام دولي.
في تلك الأثناء، بدأ خيسوس سالاس، كبير جنرالات الجيش المكسيكي، يحضّر خطة لاغتيال فيا أولا، انتقاماً منه لمجزرة نفّذها فيا قبل سنة في قرية إيل أورو وقتلت فيها كوادر عسكرية كثيرة، مما شكل خسارة فادحة للجيش المكسيكي آنذاك، وثانيا لأن بانتشو فيا بعودة نشاطه السياسي والعسكري سيؤثر في موازين القوى السياسية ويقلبها رأسا على عقب.
وهكذا بذل سالاس جهوده ليجمع عدداً من المتآمرين، من معارف وأصدقاء فيا، وفي شهر أبريل 1923م استأجر منزلاً يطل على الطريق التي يعبرها فيا عادة في طريقه من مزرعته وإليها. وفي ذلك المنزل، درس سالاس مع ستة من رجاله، عادات فيا ومواعد مروره، وأفضل المواقع لإطلاق النار عليه. ولم ينتبه أحد إلى تلك المجموعة المتآمرة مع مضي ثلاثة أشهر على إقامتها في ذلك المنزل الغامض.
في المرة الأولى، صوّب الرجال باتجاه فيا لقتله، وكان الهدف واضحاً جداً، لكن مجموعة من أطفال المدرسة تصادف مرورها في الوقت نفسه، وفي المكان ذاته، فأُلغي المشروع مؤقتاً. وفي 20 يوليوز 1923، وفي الساعة الثامنة صباحاً، كان بانتشو فيا يستقل سيارته من طراز «فورد» وبصحبته مساعده الكولونيل ميغيل تريللو وفي تلك اللحظة انطلقت مئات الرصاصات، منها أربعون أصابت السيارة وتسع رصاصات استقرت في جسم بانتشو فيا.
فارق بانتشو فيا الحياة فوراً عن عمر ناهز 55 عاماً، بعد أن نجا من محاولات اغتيال سابقة عديدة، ومن مطاردات الجيش القادم من الولايات المتحدة الأمريكية مقتفياً آثاره. ركب المتآمرون خيولهم وانطلقوا باتجاه التلال إلى مخبأ أعدّ سابقاً.
بعد أيام سيسلم سالاس نفسه لمحاكمته، وهناك أعلن أنه يتبرع بالجائزة التي كانت واشنطن قد أعلنتها لمن يأتي بفيا حياً أو ميتاً، إلى عائلات ضحايا بانتشو فيا الكثيرين. وفي 20 شتنبر 1923 صدر الحكم على سالاس بالسجن عشرين سنة، وقد خرج من السجن بعد قضاء جزء من تلك المدّة.
حظي بانتشو فيا، شأنه شأن إيميليانو زاباتا باهتمام السينما الأمريكية، لكن غالبية الإنتاجات وبالأخص أفلام الويسترن كانت تجسد بانتشو فيا كأحد كبار زعماء العصابات وقطاع الطرق المطلوبين للعدالة الأمريكية. وفي أحد الأيام، سينتفض روبيرت ميتشوم، أحد كبار ممثلي هوليوود في خمسينات القرن الماضي، ثائرا على دعوات المنتجين السينمائيين ليشركوه في أعمال تسخر غالبها من ثوار المكسيك، وخصوصا بانتشو فيا، بحيث سيبوح لصديقه شارلز برونسون، ممثل أمريكي كبير اشتهر بملامحه المكسيكية، بأن عليهما أن يكفا عن المشاركة في أفلام همها تقديح شخصيات مكسيكية تاريخية عظيمة، ذنبها الوحيد أنها عاشت ثائرة على استغلال بشع للفقراء من شعبهم.