قصة الصعود الأسطوري للسلطة التي عاشها أدولف هتلر، لم تكن سينمائية بذلك القدر الذي صورته لنا قصص التأريخ الصادر من فرنسا وإنجلترا. فالرجل قطع أشواطا حياتية كثيرة ومعقدة، ومفعمة بالمغامرات والمؤامرات، سواء تلك التي اقترفها ضد منافسيه السياسيين من المحافظين والكاثوليك الوسطيين واليهود من النبلاء المدافعين عن القيمة القيصرية للسلطة الجرمانية، الماقتين للعسكر، أو تعلق الأمر بتصفية حسابات سياسية مع رفاق قدامى وموالين سالفين له.
وربما احتفظ أدولف هتلر بكثير من الألم وهو يرى نفسه مدفوعا من طرف النظام السياسي الألماني المحافظ من جهة، ومن رفاقه العسكريين على رأسهم الجنرالان غورين وهيملر، لتصفية صديقه إرنست روم، رئيس فرقتي «كتيبة العاصفة» (إس- أ) وكتيبة «القمصان البنية» شبه عسكريتين، اللتين ساعدتا الحزب النازي في اكتساح المشهد السياسي والعسكري الألماني، في السابق، ومنح هتلر تلك القوة الضارية عبر تنظيم حملات تمشيط عسكري وتنظيم تصفيات سياسية للعديد من منافسي هتلر. حيث يشاع على أن الكتيبتين كانتا وراء حرق البرلمان الألماني بعد تولي هتلر منصب القنصل العام.
ليلة السكاكين الطويلة (بالألمانية: Nacht der langen Messer) أو «عملية الطائر الطنان»، هي أكبر عملية اغتيال عسكري سياسي وقعت في ألمانيا النازية بين 30 يونيو و2 يوليوز 1934، عندما نفذ النظام النازي، تحت قيادة الغيستابو، سلسلة من عمليات الإعدام السياسية. وكان معظم القتلى من أعضاء فرقتي «كتيبة العاصفة» (إس أ) و«القمصان البنية» شبه العسكريتين. واضعين نهاية لأقوى وأشرس تنظيمات عسكرية ألمانية موازية لهتلر، لكنها نهاية كانت مجرد بداية لتنظيمات أبشع وأكثر ضراوة وهي «س.س» تحت قيادة الجنرال هيملر.
قبل أن يضطر أدولف هتلر إلى إعطاء الأوامر الرئاسية والمركزية بالبدء في عملية تصفية قياد كتيبة SA وزعيمها الجنرال إرنست روم، سيكتب رسالة إلى هذا الأخير (لأنهما كانا صديقين قديمين) حيث سيؤرخ المؤرخ ماكس غالو لفقرة عبر فيها هتلر عن مودته لإرنست روم، وبالمقابل عن عزمه وضع حد لبطش منظمة SA التي بدأت أعمالها المروعة تحرجه شخصيا مع كبار قناصلة ألمانيا ورجال أعمالها وشخصياتها السياسية الكبيرة:
«عندما هاتفتك اليوم في مكتبك الحالي، صديقي العزيز، كان تنظيمك SA يعيش ظروفا صعبة للغاية. ولك الفضل صديقي في جعل هذا التنظيم وهذه الآلية السياسية تتحول في بضع سنوات إلى القوة الأولى التي مكنتني شخصيا من كسب معركة السلطة... ويبدو لي جديرا أن أشكرك على كل الخدمات الجليلة التي أسديت في خدمة مشروعنا الوطني-الاشتراكي وللشعب الألماني قاطبة. ولتعلم أنني مدين لك بذلك ومجبر على توشيحك بصفة رفيق الدرب والسلاح - صديقك هتلر». // ماكس غالو، ليلة السكاكين الطويلة في 30 يونيو 1934.
ما الذي دفع بأدولف هتلر، في صيف 1934، إلى قتل صديقه إرنست روم، أحد أشرس المدافعين عن النازية بألمانيا؟
أول الدوافع أتى من العنف المتزايد الذي عبر عنه تنظيم SA في نهاية 1934 وبالضبط في مدينة ميونيخ، حيث انخرط العديد من المتحمسين للنازية من الشباب والعاطلين وقطاع الطرق في التنظيم وبدأت التصفية العشوائية للمواطنين، وخصوصا المعروفين منهم. وبالتالي وجدت حركة SA شبه العسكرية في مشروع حماية النازية من أعدائها الذريعة السياسية لتصفية الكثير من النشطاء والسياسيين ورجال الأعمال غير الموالين للنازية. وكانت أبرز أعمال العنف التي أثارت حفيظة النظام المركزي الألماني وأدولف هتلر نفسه، هو عندما تمت تصفية الناشطة السياسية الاشتراكية روزا لوكسمبورغ، بعد اغتصابها من طرف أكثر من عشرين ناشطا عسكريا بالتنظيم النازي SA، والقتل البشع للكاتب والمستثمر الصناعي الشهير والتر راتنو (كان يدعم حركة تمثيل غير الألمانيين من المستثمرين الأجانب بالمجتمع السياسي الألماني).
عمليات الشغب والقتل الممنهج للأجانب وسلب الممتلكات لليهود من الطبقات الوسطى، لم تكن الدوافع الوحيدة التي كانت وراء تصفية قادة SA. فقد كان منافسو إرنست روم من العسكريين كثيرين، بالنظر إلى زيادة شعبية هذا الأخير وقوة تنظيمه (بحيث فاقت القوة العسكرية لتنظيم SA بحوالي 10 مرات قوة النظام العسكري المركزي). وبالتالي بدأ الغيستابو، وهو الجهاز المخابراتي العسكري التابع لهتلر، في فتح تحريات مخابراتية على إرنست روم وقادته، والجدير بالذكر هنا هو التزوير الذي شاب جل التقارير المنجزة حول SA، بحيث بدأ الغيستابو يرفع تقارير حول الإعداد لانقلاب عسكري من طرف جهاز SA بدعم من فرنسا وإنجلترا.
بدأت الحبال تزيد اختناقا على الصديقين أدولف هتلر وقائد كتيبة SA إرنست روم، خصوصا عندما سيتحرك وزير الخارجية الألماني آنذاك ويشجب بقوة القتل الممنهج الذي اقترفته تنظيمات روم ضد الدبلوماسيين والقناصل الأجانب المعتمدين بألمانيا. هذا النزوع للعنف على الدبلوماسيين ستشجبه الطبقات الوسطى والمحافظون وجنرالات الجيش. وسينضم إلى هذا الحنق العام كبار المستثمرين وأرباب المعامل وأغنياء ألمانيا وكذا رجال الدين من الكنيسة البروتستانتية. وسيلقي وزير الداخلية آنذاك Wilhelm Frick كلمة قوية بمجلس الشعب، يأمر فيها بضرورة إعطاء هتلر تعليماته بالصد الآني والضروري لهذا التمرد الخطير الذي يقوم به روم ورجاله.
في 17 يونيو 1934 سيلقي نائب هتلر، القنصل فرونز فون بابن، وهي شخصية سياسية ألمانية مرموقة وقتئذ، كلمة أمام أساتذة وطلبة جامعة ماربورغ الراقية، كلمة محرجة لهتلر ونظامه، بحيث سيذكر بأن ألمانيا عظيمة بفنها وثقافتها وقوة رؤيتها للمستقبل الممتد في أوروبا، وهي القيم الغائبة ليس فقط عند هذه «الشرذمة» من المتعصبين النازيين من كتيبة القمصان البنية، بل غائبة تماما عند هتلر وعند الجيش الذي من المفروض أن يحمي ألمانيا من كل تطرف وتعصب. وهي الكلمة التي اتهمت هتلر بالتواطؤ في السر مع إرنست روم، والتنسيق معا، في توسيع عمليات التصفية لكل معارضي نظام هتلر ومشروعه التسلطي.
تحرك أخيرا أدولف هتلر ضد SA وزعيمها إرنست روم، لأنه رأى في الأخير أن استقلال هذه التنظيمات وميل أعضائها لأعمال العنف في الشوارع تهديدا مباشرا لسلطته. كما أراد التوفيق بين قادة قوات الجيش الألماني الذين يخشون ويحتقرون الـ«إس أ»، وطموح روم الخاص في استيعاب قواتها تحت قيادته الخاصة.
في الثانية والنصف من صباح يوم 30 يونيو 1934، سيتجه هتلر شخصيا وهو يحمل مسدسه لملاقاة روم وكبار قادة SA في مقر وزارة الداخلية بميونيخ. لم يجد روم هناك وأمر بعدم تنفيذ أي تصفية لأي قائد حتى يجد روم ويناقش معه إمكانيات حل هذه التنظيمات العسكرية الموازية.
في الساعة السادسة والنصف سيتجه هتلر إلى فندق هانزل هاور، بوسط ميونيخ، حيث يوجد إرنست روم وكبار مساعديه. وهو يحمل مسدسه في يده، سيداهم هتلر الغرفة التي يبيت فيها إرنست روم، ويأمر باعتقاله بدعوى تهمة الخيانة العظمى لألمانيا والفوهرر. وتروي قصص هذه المداهمة الشهيرة أن هتلر وهو يدفع بعنف باب إحدى الغرف المجاورة سيكتشف وجود النائب الأول لإرنست روم والمسمى إيدوند هاينز، في وضعية جنسية مخلة مع بعض شباب تنظيم SA.
في ليلة 30 يونيو 1934، لقي ما لا يقل عن 85 شخصا حتفهم خلال عملية التطهير التي شملت تنظيم SA، على الرغم من أن العدد النهائي للقتلى قد يكون بالمئات، واعتقل أكثر من ألف من المعارضين. ويقال إنه وفي الوقت الذي كان هتلر يأمر باعتقال إرنست روم، التفت غوبلز (وزير دعاية هتلر) إلى الجنرال هيملر وخاطب إياه بكلمة السر الرهيبة Colibri، والتي من خلالها أعطي الضوء الأخضر لاغتنام فرصة تصفية SA بتوسيع لوائح المستهدفين من معارضي هتلر ومعارضي مشروعه النازي الشمولي. ونفذت معظم عمليات القتل من قبل (إس إس) الغستابو، وهي الشرطة السرية للنظام، بحيث عززت عملية التطهير هذه توحيد ودعم قوات الدفاع الألماني لهتلر. وقدمت أيضا في ما بعد الأسس القانونية للنظام النازي، إذ ألغت الحظر القانوني القديم ضد عمليات القتل خارج نطاق القضاء، وفتحت الباب على مصراعيه للإبادة التي اقترفها الغيستابو من بعد.
تقول الروايات إن هتلر احتراما لصداقته القديمة مع إرنست روم، أعطى أوامر صارمة بعدم تصفيته مباشرة وإعطائه فرصتين، إما الهروب خارج ألمانيا، أو تسليمه مسدسا لينتحر بشرف. بعد يومين سيسأل هتلر عن مصير إرنست، وسيجيبه هيملر بأنه رفض الاقتراحين معا، مما اضطر الغيستابو إلى قتله برصاصتين في الرأس. فهم هتلر بأن هيملر كذب عليه في شأن موت صديقه، لكنه وبفضل براغماتيته القاتلة، اعتبر أن الحادث مكنه أخيرا من التخلص من تنظيم عسكري مواز يشهد لهتلر بأنه بمعية إرنست روم كانا وراء كبريات عمليات السفك والسلب واللصوصية التي تم اقترافها بين 1922 و1934 على الأقل.