نسمع كثيرا، وخصوصا أولئك المتشبعين أو المطلعين على تاريخ الفكر الماركسي اللينيني، بمصطلح «البرافدا» أو الحقيقة وهو المصطلح الذي كان عنوانا لأول صحيفة ماركسية إبان الثورة البولشفية سنة 1917، والتي أسسها وأدارها بحكامة نادرة المفكر والكاتب والسياسي الروسي المعروف ليون تروتسكي، واسمه الحقيقي ليف دافيدوفيتش برونشتاين (25 أكتوبر 1879 -21 غشت 1940).
قدم تروتسكي نموذجا حيا للمثقف الملتزم (وهي صفة تداولتها الفلسفة الفرنسية في ما بعد من لويس ألتوسير وبيير بورديو وإدغار موران)، وللتشخيص فالمثقف الملتزم وهو ذلك المناضل السياسي الذي لا ينام إلا بعد منتصف الليل، وتراه في الخامسة صباحا يرافق العمال في تظاهراتهم الصباحية، ويعقد بعد الزوال اجتماعات في الحزب ومع الحكومة، ثم يتوجه مساء إلى الجريدة والصحيفة ليشرف على أعداد اليوم المقبل. وعادة ما يكون هذا المناضل قويا في كاريزمته وفاتنا في خطاباته وقاسيا في مبادئه وغير مكترث لا للمناصب ولا للثروة... وكثيرا ما تنتهي حياته بشكل درامي كما لو كان قد اختار مسبقا نمط حياته وطريقة موته. نهاية تروتسكي كما العديد من أمثاله كانت تراجيدية.
هكذا عاش ومات ليون تروتسكي. وهو من أبرز وأكبر زعماء ثورة أكتوبر في روسيا عام 1917، إضافة إلى الحركة الشيوعية العالمية في النصف الأول للقرن الماضي ومؤسس المذهب التروتسكي الشيوعي، بصفة أن هذا المذهب هو أحد فصائل الشيوعية التي تدعو إلى الثورة العالمية الدائمة، وهو المبدأ الذي عمل به ثوار اشتراكيون من بعده، ونذكر من بين المتشبعين به الشهيد المهدي بن بركة وغيره، كما كان مبدأ قامت عليه أنظمة اشتراكية برمتها منها النظام الكوبي لفيديل كاسترو والثورة اللاتينية بقيادة تشي غيفارا.
ولشدة إيمانه بأن قوة التغيير السياسي تأتي بتأطير وتنفيذ عسكريين، مادامت قوة الأعداء تكمن أصلا في امتلاكهم السلاح والعسكر، فقد كان تروتسكي أيضاً مؤسس الجيش الأحمر، الذي كان له الأثر الفعال في القضاء على أعداء الثورة، والقضاء على النظام القيصري بانقلاب عسكري. عينه لينين مفوضا للعلاقات الخارجية عندما أسس حكومته البلشفية الأولى عام 1917، حيث كان يعتبره آنذاك أفضل العقول في الحزب الشيوعي، وأقدر من لينين نفسه في بعض الأمور السياسية بفضل ثقافته الواسعة ودرايته الاستراتيجية والتفاوضية وديناميته الغريبة. ولأنهما عملا جيداً مع بعضهما، لدرجة لم يكن يقدر لينين على فعل أي شيء من دون استشارة ليون تروتسكي، اعتقد أغلب الشعب الروسي أن تروتسكي سوف يخلف لينين في رئاسة الحزب، لكن ستالين، الفاقد للدقة والحاصل على الحقد والتعبئة الشيطانية، كان ذا سلطة قوية أيضاً فانتصر في النهاية هازماً وقاتلا لتروتسكي.
في سنة 1905 عندما اندلعت الثورة في روسيا، عاد تروتسكي من فنلندا (حيث كان يعبئ على اندلاع الثورة ضد الملكية)، إلى الإمبراطورية الروسية ليترأس مجلس نواب العمال في مدينة سان بطرسبرغ، وينتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمجلس السوفيات في سان بطرسبرغ التي صار اسمها في ما بعد (لينينغراد). لكن سيتم إلقاء القبض عليه عام 1907 بعد فشل الثورة وأصدرت المحكمة حكمها بنفيه إلى سيبيريا مدى الحياة مع تجريده من جميع حقوقه المدنية، غير أنه ما لبث أن هرب إلى أوربا الغربية ومنذ ذلك الحين وحتى عام 1917، عندما قاد مع لينين الثورة الروسية، ظلّ تروتسكي يشكّل القوة الكامنة المنفيّة لثورة البروليتاريا العالمية في شتى أنحاء أوربا بداية القرن العشرين.
كان تروتسكي أحد الدعاة إلى عقد مؤتمر زيمروالد عام 1915. الذي أدان الحرب العالمية ووصفها بأنها حرب «إمبريالية» موجهة ضد العمال والطبقات الفقيرة في العالم كله، أدت دعوته لمعارضة الحرب ولتأسيس «الأممية الثالثة» إلى تقارب في وجهات النظر بينه وبين لينين بعد سنوات طويلة من الخلاف بينهما. وكان أيضا من بين أصدقائه من السياسيين الفرنسي، جان جوريس، الذي سيغتاله اليمين المتطرف 3 أيام قبل اندلاع الحرب.
كان تروتسكي أول وزير للحربية ورئيس المجلس العسكري الثوري في جمهورية روسيا السوفياتية الاتحادية الاشتراكية، التي تشكلت بعد الثورة البولشفية. ومن إنجازاته التاريخية أنه بنى الجيش الأحمر من حوالي مليون مقاتل شاركوا وانتصروا خلال الحرب الأهلية التي تلت قيام الثورة. وبعد ذلك سيحتفظ التاريخ لتروتسكي أنه كان أكبر منظر رئيسي للإرهاب الأحمر، وخلق آلية قمعية ضد مناهضي الثورة الحمراء، وهي الآلية التي اعتبرها تروتسكي بمثابة أداة أساسية لقمع طبقة «محكوم عليها بالموت» على حد تعبيره.
وكسائر الثوار والمؤمنين بأن أهم شيء هو تحصين الثورة بالسلطة، كان تروتسكي يسعى دوماً إلى تولي زمام السلطة في الحزب والدولة. لكن لينين الذي حظي في مرحلة الثورة والحرب الأهلية بشعبية أكبر منه حال دون وقوع ذلك.
بدأ التصادم مع ستالين، وكان في الأول صداما سياسيا حول الموقع الذي من الممكن أن يعطى لنقابات العمال التي شكلت دينامو الحزب الشيوعي. ونشأ أول جدال بين الرجلين، فقد أراد تروتسكي جعل النقابات تحت سلطة الدولة، ولم يرغب ستالين في ذلك.
في سنة 1924 حدث شيء لم يكن في الحسبان. بعد الموت المفاجئ للزعيم لينين، لم يحضر تروتسكي الجنازة لعدم وجوده في المدينة وقتها، واستغل ستالين ذلك حيث عين نفسه خليفة للزعيم واتهم تروتسكي بقلة الاحترام للينين، فاحتدم الصراع من أجل السلطة بينه وبين ستالين الذي تمكن من التحالف مع زينوفييف وكامنييف وبوخارين وغيرهم، بل وتمكن أيضاً من عزل أنصار تروتسكي في الحزب. وفي عام 1926م تم إعفاء تروتسكي من العضوية في المكتب السياسي للحزب البلشفي بتهمة النشاط المعادي للحزب ونفيه من روسيا من قبل ستالين.
بعد تهجير تروتسكي سنة 1929 إلى مدينة آلما آتا في آسيا الوسطى، ثم إلى تركيا، سيعدم ستالين كل الموالين له في الحزب. حيث كانت سنة 1932 سنة دامية في روسيا. وهي نفسها السنة التي تم نزع جنسية الاتحاد السوفياتي عن تروتسكي، فانتقل إلى فرنسا ثم إلى الدانمارك والنرويج عام 1935. ثم اعتقلته الحكومة النرويجية وصادرت مؤلفاته كلها خشية تأثيره السلبي على الوضع الداخلي في البلاد. واضطر إلى مغادرة البلاد خوفاً من تسليمه إلى الحكومة السوفياتية. وفي عام 1936 هاجر تروتسكي إلى المكسيك، حيث أقام في منزل الفنان ديوغو ريفيرا. وفي سنة 1937 أقيمت في الاتحاد السوفياتي محاكمة غيابية لتروتسكي ووجّهت إليه تهمة الخيانة العظمى وأدين بالإعدام.
تعرض تروتسكي منذ عام 1940 لمحاولات اغتيال كثيرة وفاشلة، كانت أبرزها المحاولة التي اقترفها كلاوديو سيكيروس، وهو فنان مكسيكي معروف له ميولات ستالينية.
ومنذ ذلك الحين وضع ستالين تكتيكات وأموالا وبذل جهوده لإزالة هذه «الشوكة التي تؤذي خاصرته»، وهي شوكة تروتسكي الذي كان يحظى بدعم واحترام الأممية الاشتراكية التي كان عرابها ومؤسسها. ولتعذيب تروتسكي نفسيا، تمكنت مخابرات الجيش الأحمر سنة 1938 من التسلل إلى مستشفى بباريس، حيث كان ابن تروتسكي ليون يرقد مريضاً هناك، وخطفوه ثم قتلوه باسم الثورة.
بعد ذلك تسللت مخابرات ستالين إلى المكسيك وفي صباح 24 من شهر ماي سنة 1940، اندفع عشرون مسلحا من الروس - متخفّين بملابس رجال الشرطة المكسيكية- داخل منزل تروتسكي في مدينة مكسيكو سيتي، وزرعوه بالديناميت، وأمطروه بالرصاص... ولم يكن تروتسكي في المنزل.. لكنهم اقتادوا حارسه القادم من نيويورك: روبرت شيلدون.. وقد عثر على جثته ممزّقة بفعل شفرات السكاكين الستالينية. بعد ذلك الهجوم الرهيب، سيتحول منزل تروتسكي إلى ما يشبه القلعة، حيث أضيف المزيد من الفولاذ إلى الأبواب والنوافذ والجدران، وكحرب بين روسيا والمكسيك سيحشد مناصرو تروتسكي من كل أمريكا اللاتينية المتطوعين من الميليشيات التي وضعت الأسلحة الأوتوماتيكية حول منافذ منزله، فيما جُنّد جيش من الحراس للمراقبة الدائمة له.
لكن في سنة 1940 أخطأ تروتسكي في إهمال حراسته وتعرف على فتاة أمريكية اسمها سيلفيا آغليوف وصديقها فرانك جاكسون (اسمه الحقيقي رامون ميركادير)، وكانا طالبين جامعيين من باريس، لكنهما كانا مخبرين روسيين من تأطير الروس والأمريكيين في الوقت نفسه. حيث كان تروتسكي شأنه شأن الاشتراكيين الأمميين مطلوبين من طرف العديد من الدول العظمى.
وفي يوم 20 من شهر غشت سنة 1940 دخل رامون ميركادير منزل تروتسكي متسلّحاً بمسدس وخنجر، وحاملاً فأساً في ثنايا معطفه. ثم توجّه المتآمر إلى غرفة المكتب، حيث أخفى الفأس، وبعد ذلك توجّه لمجالسة تروتسكي. دخل رامون مع تروتسكي إلى غرفة المكتب، وفجأة سمعت زوجة تروسكي ضجة في تلك الغرفة فنادت الحراس واندفعت تفتح الباب، ويا لهول المنظر الذي شاهدته في الداخل... رصاصات في الصدر ورأس شبه مفصول. انقض الحراس على رامون وسلموه إلى العدالة المكسيكية.
رغبت زوجة تروتسكي في نقل جثة زوجها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدفنه هناك، لكن وزارة الخارجية الأمريكية أصدرت بياناً يحظر دخول تروتسكي - حياً أو ميتاً - إلى الولايات المتحدة الأمريكية... وهكذا دفن تروتسكي يوم 27 من شهر غشت عام 1940م في مدينة مكسيكو سيتي. بعد مفاوضات طويلة بين المكسيك والاتحاد السوفياتي، أطلق سراح رامون 1960، وسمح له بالمغادرة إلى تشيكوسلوفاكيا الشيوعية، حيث عاش هناك فترة، ثم أُعلن عن منحه لقب بطل الاتحاد السوفياتي.