ستكون حلقاتنا حول تاريخ الاغتيالات السياسية مجحفة إن هي لم تتطرق لحالات تصفية ناشطات سياسيات من النساء. ولا نفرط في القول إن نحن أكدنا أن غالبية عمليات تصفية المعارضات السياسيات أو الزعيمات من طرف أنظمة سياسية شمولية، كانت ربما أكثر بشاعة وقسوة مقارنة بحالات قتل السياسيين الذكور، حتى ولو كان الموت واحدا في كل ذلك. كما أن التأريخ لحالات تصفية النساء (سياسيات أو إعلاميات أو فنانات...) كان في كثير منه ضحية للنمطية.
سنحاول في هذه الحلقة أن نتحدث عن اغتيال الأخوات ميرابال (باتريسيا، مينيرفا وتيريزا)، أو الفراشات الثلاث (ماريبوزاس) من طرف جنود الجنرال رافاييل تروخيليو الذي حكم جمهورية الدومينيكان بقبضة حديدية من 1930 إلى 1961.
وأنتم تزورون الدومينيكان، هذا البلد الشاطئي «الأرخبيلي» الجميل ستضطرون إلى صرف عملاتكم إلى البيسوس الدومينيكي، ويمكن لكم أن تلاحظوا صور ثلاث نساء على وجه ورقة 200 بيسوس. وهي أوجه الأخوات ميرابال اللواتي تحولن، بعد تصفيتهن سنة 1961، إلى أيقونات وطنية ودولية للترميز على صراع وكفاح نساء المستعمرات ضد الأنظمة العسكرية القمعية التي وضعها الاستعمار الغربي كـ«بالوعة» لضمان امتصاص الثروات والخيرات وقتل المناضلين والأحرار.
هناك متحف في الدومينيكان (مدينة أوخو دي آكوا) باسم الأخوات ميرابال، بل يمكن الجزم بأنه وفي سنة 1981 تقدمت الحركات النسائية الدولية للجمعية العامة للأمم المتحدة باتخاذ يوم 25 نونبر من كل سنة كيوم لمناهضة العنف ضد النساء، تخليدا لذكرى اغتيال الأخوات ميرابال. وهي المذكرة الاقتراحية التي تم اعتمادها في القرار الأممي 134/54 بجعل هذا اليوم ذكرى أممية لنبذ أشكال العنف ضد النساء.
باتريسيا ومينيرفا وتيريزا هن بنات السيدة مرسيدس كاميلو والسيد إنريكي ميرابال، من الأسر الأرستقراطية العاملة في مجال التجارة. كن يتمتعن بجمال أخاذ وبقدرات تحصيلية مدرسية لافتة، خصوصا مينيرفا والتي أبدت منذ صغرها شغفا بالقراءة والرسم والمسرح. هذا الفن الذي أعطاها كاريزما خاصة في الإعدادية التي كانت تدرس فيها، بحيث كانوا ينادون عليها لتقديم حفلات المدرسة وأخذ الكلمة نيابة عن الطالبات.
سيكون شهر يوليوز 1949 حاسما في حياة آل ميرابال، وخصوصا في حياة مينيرفا وهو اليوم الذي سيشكل منعطفا تراجيديا في حياتها. بحيث ستتلقى العائلة دعوة لحضور حفل رئاسي بقصر الرئاسة ينظمه الجنرال تروخيليو. وسيكون هذا الحفل المناسبة التي ستقع أعين الرئيس على مينيرفا وسيبهر بجمالها وسيبدأ في تسخير مساعيه للنيل منها. في ذلك الوقت كانت مينيرفا على علاقة بالشاب بيريكلس فرانكو مؤسس الحزب الاشتراكي الشعبي بالدومينيكان، وهي العلاقة التي لم تكن الأسرة تستحسنها لأسباب اجتماعية ولم يكن الجنرال يستحسنها لا من ناحية نرجسيته كجنرال قوي معجب، ولا من ناحية بعدها السياسي بحيث كان هذا الحزب
«شوكة في خاصرته».
سيكرر الجنرال تروخيليو إرسال دعوات خاصة إلى مينيرفا من أجل حضور حفلاته الخاصة، لكن أسرة ميرابال لم تتردد في رفضها، بل وانسحب جل أعضائها من إحدى حفلات الديكتاتور عندما بالغ في التودد بابنتهم، التي بدأت فعلا في توطيد علاقاتها الخفية مع أعضاء الحزب الاشتراكي الشعبي آنذاك.
في أول رد فعل له، سيعتقل الجنرال أب مينيرفا السيد إنريكي ويعذبه لدرجة قاسية أودت بحياته، كما سيعتقل مينيرفا ورفيقاتها في الحزب الاشتراكي الشعبي وسيعلن قرار اعتقال بيريكلس فرانكو (زعيم الحزب). ستعيش منذ ذلك الوقت كل أسرة ميرابال كابوسا حقيقيا من الاستنطاقات والاعتقالات والتعذيب النفسي والجسدي.
في بداية خمسينات القرن الماضي ستعرف دول أمريكا اللاتينية
«ربيعا تحرريا» ممتدا ضد الدكتاتوريات العسكرية. حيث سيسقط نظام الدكتاتور الكولومبي غوستافو روخاس بينيا، ثم يتبعه سقوط الدكتاتور الفنزويلي ماركوس بيريز خيمينيز، وفي سنة 1959 سيطرد فيديل كاسترو وميليشياته الثورية الدكتاتور الكوبي باتيستا.
في هذا التاريخ ستكون مينيرفا طالبة جامعية وستتزوج من تافاريس مانولو، أحد أكبر زعماء الثورة بالدومينيكان من بعد، وفي سنة 1959، ومواكبة للحراك السياسي اللاتيني وخصوصا دول الكارايبي، ستقوم مينيرفا وأختها تيريزا بتنظيم لقاءات زعماء الثورة ببلادهم ويعلنون بداية التخطيط للانقلاب على النظام العسكري للجنرال تروخيليو.
ستتشكل نواة تنسيقية لثوار أمريكا اللاتينية ودول الكارايبي بدعم من فيديل كاسترو الذي سيرسل فيالق مسلحة إلى حدود الدومينيكان يوم 14 يونيو 1959، لكن الجنرال تروخيليو سيصدها ومن ذلك التاريخ سيبدأ التنسيق بين ثوار الدومينيكان (بحضور مينيرفا) وفيديل كاسترو وميليشياته، وهو الدعم الذي سمح بتشكل المجلس الثوري التأسيسي (مجلس ماو) للدومينيكان برئاسة تافاريس مانولو، زوج مينيرفا.
ردة فعل القيادة العسكرية بالدومينيكان كانت قوية، وأعطى الجنرال تروخيليو أوامره باعتقال وتعذيب كل نشطاء الثورة ضد نظامه. ولأن غالبية الشباب المنخرط في المجلس الثوري كانوا من الطبقة البورجوازية لدولة الدومينيكان، فإن حملة الاعتقالات والتعذيب أسفرت عن سخط عارم في البلاد لدرجة قدمت الكنيسة الكاثوليكية آنذاك رسالة شجب موجهة إلى الجنرال، مطالبة إياه بالقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية فورية.
سيتم إطلاق سراح العديد من الشباب نشطاء المجلس الثوري بمن فيهم مينيرفا وبعض النساء الثائرات المعروفات (كابرال وموراليس وموريل)، فيما سيتم الإبقاء على مؤسسي المجلس الثوري من الرجال قيد الاعتقال والتعذيب.
سيفقد النظام أعصابه تدريجيا عندما سيعطي الجنرال تروخيليو أوامره بالتخطيط وتنفيذ عملية اغتيال رئيس فنزويلا روميو بوتانكور (الداعم لثوار الدومينيكان)، وهو الاغتيال الذي سيؤلب على الجنرال حنق وغضب منظمة الدول الأمريكية OEA، التي طالبت بالقيام بتحقيق وإرسال بعثات إلى الدومينيكان لمعرفة الأوضاع السياسية والأمنية بها. في سنة 1960 ستجتمع قيادات دول أمريكا اللاتينية بزعامة فيديل كاسترو، وتعلن من مدينة سان خوسيه (كوستا ريكا) بقرار الإعلان عن عقوبات اقتصادية في حق نظام تريخيليو.
باتريسيا، مينيرفا وتيريزا، إضافة إلى كونهن ناشطات ثوريات كن أيضا زوجات لقادة المجلس الثوري وكن يمتطين دوما سيارتهن من نوع (جيب) لزيارة أزواجهن بالسجن وتنظيم الاجتماعات ولقاءات المجلس. ولأن عملية القتل من خلال التسبب بحوادث سير مميتة كانت عملية معروفة لدى نظام تريخيليو، فإن كل أعضاء المجلس الثوري كانوا يحذرون الأخوات من مطب السياقة، خصوصا بضواحي المدينة.
في مساء يوم 25 نونبر 1960، وبينما كانت الأخوات متجهات نحو منزلهن، تربصت بهن سيارة بها مسلحون من تنظيم «المصالح الاستخباراتية العسكرية» التابعة للقيادة العسكرية، وهي السيارة التي كان بها إيميليو ماليتا، عسكري كوبي ومخبر وسفاح معروف على صعيد دول الكارايبي كلها (اشتغل لصالح الكثير من الأنظمة العسكرية). كانت التعليمات مقتصرة على التسبب في حادثة سير مميتة، لكن اجتهاد الميليشيا المسلحة ذهب بعيدا: فبمجرد مرور سيارة الأخوات ميرابال، أطلق المخبرون وابلا من الرصاص أصيبت على إثره الأخوات بجروح بالغة، فتم اقتيادهن إلى غابة مجاورة وتم تهشيم رؤوسهن بمعاول وحملن بسيارة لأعلى جسر في ضواحي بويرتو بلاتا (حيث كن يقمن) وتم إلقاؤهن من أعلاه.
ستكون سلمى حايك، الممثلة الأمريكية المعروفة، ابتداء من سنة 2001، بطلة سلسلة تلفزية أمريكية شهيرة من إخراج المخرج الدومينيكاني المعروف ماريانو باروززو، وهي سلسلة عنوانها
«زمن الفراشات الثلاث» تحكي قصة الأخوات ميرابال اللواتي تحولن إلى أيقونات النضال النسوي ضد السلطة العسكرية وضد القهر، ولو كان ذلك على حساب حياتهن.