عاشت سان فرانسيسكو في يوم 27 نونبر لسنة 1978 حدثا استثنائيا. فقد اعترض البرلماني دانييل جيمس وايت طريق عمدة سان فرانسيسكو جون موسكون والنائب البرلماني عن سان فرانسيسكو المستشار هارفي ميلك، فأطلق النار عليهما ليرديهما قتيلين.
لم تعرف التحقيقات الفيدرالية لحادث الاغتيال صعوبات تذكر، فالقاتل جيمس وايت كان من المحافظين المتشددين والمقتول المستهدف كان هارفي ميلك، وهو نائب برلماني وسياسي أمريكي معروف كان قد أشهر مثليته الجنسية وكان من أشرس المدافعين على حقوق المثليين في المجتمع السياسي الأمريكي آنذاك. أما مقتل جون موسكون في هذا الحادث فقد كان عارضا بمحظ الصدفة لأنه كان مرافقا لهارفي ميلك في ذلك اليوم.
الحديث عن المثلية الجنسية في المجتمع الأمريكي كان وما يزال من بين المواضيع الطابو خصوصا في معظم الولايات المعروفة بنظامها الحقوقي والقضائي والمجتمعي المحافظ. وللذكر فإن حياة هارفي ميلك، المليئة بالمغامرات والشجاعة الاستثنائية لهذا الفاعل الحقوقي الأمريكي، لم يكتب لها أن تتحول إلى قصة من "القصص الوطنية" المعروفة إلا عندما تشجع المخرج غوس فن سانت لإخراج فيلم "رائع" عن السيرة الشخصية والحياتية والسياسية لهذا السياسي وبالأخص حينما لم يكن سوى الممثل العالمي شين-بين الممثل الوحيد الذي قبل أن يجسد شخصية هارفي ميلك (رفضها آل باتشينو) في فيلم حصل على جائزتي أوسكار لأحسن تشخيص وأحسن سيناريو سنة 2008.
قضى قاتل هارفي ميلك ست سنوات من السجن بعد الحكم عليه بالقتل غير العمد جراء اضطرابات نفسية وجسدية ناتجة عن مرض السكري ونظام غذائي غير متزن. هذا الحكم "اللين كثيرا" اعتبره مجتمع المثليين في سان فرانسيسكو وفي باقي الولايات بأكبر دليل على تواطؤ المؤسسات وأولها القضائية أمام حقوق المثليين واعتبروا هارفي ميلك أول شهيد للمثلية الجنسية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. وعرفت الولايات المتحدة الأمريكية تنظيم أكبر مسيرة احتجاجية قادها المثليون ليلة 21 ماي 1979 عرفت بليلة وايت White Evening
ومنذ تلك "الليلة البيضاء" (ربما هذه الكلمة مستوحاة من هذه القومة المثلية في ليلة 21 ماي 1979) عرفت التنظيمات الموالية لحقوق المثليين الجنسيين بالولايات المتحدة الأمريكية وباقي عواصم أوروبا تصعيدا في الاحتجاج وتنسيقا مكثفا. ومن الإحرازات الحقوقية الكبيرة التي أحرزتها هذه التنظيمات سنة 1979 وهو إحراز حقوقي غير معروف لكنه حاسم، هو سحب المثلية الجنسية من مجلد "الاضطرابات النفسية والسلوكية" المعتمد من طرف الجمعية العالمية للأمراض النفسية والمعروف بإسم DSM-4 حيث أنه من خلال هذا المجلد، كانت المثلية لغاية 1979، توصف في الأدبيات السيكولوجية الرسمية (المعتمدة قضائيا) بأنها اضطراب نفسي وسلوكي تطوري متقدم. وهو ماكان يحس المثليين وعلى رأسهم هارفي ميلك بالدونية المدنية والقضائية.
ولد هارفي ميلك بضواحي نيويورك عام 1930 من أسرة يهودية الديانة. وهو طفل كان ميلك مثار سخرية عارمة جراء طول أنفه وأذنيه ورجليه لدرجة كانوا ينعثونه بالهلوان. لكن مساره الدراسي كان مبهرا بحيث كان دوما يحصل على أولى النتائج كما كان متميزا بقدراته الهائلة منذ صغره في فنون المسرح والرقص.
وخلال الخدمة العسكرية سيحمل لواء الدفاع عن الجنود المثليين مما دفعه للاعتراف بمثليته وبالتالي طرده من المارينز (ربما خوفا على حياته). بعد الخدمة العسكرية سيرتكب هارفي ميلك خطأ التوجه للعيش في دالاس عاصمة ولاية تيكساس. فلأنه كان متفوقا وضليعا في علوم المحاسبة الماتلية ظن هارفي ميلك أنه سيجد عملا بسهولة في دالاس التي كانت آنذاك قطب المال والأعمال. لكن أصوله اليهودية لم تمكنه وقتئذ من الحصول على عمل وسيتجه لنيويورك باحثا عن فرصة ببورصة وول ستريت.
وبالموازاة مع عمله كمحاسب بالبورصة، كان هارفي ميلك مؤلفا ومنتجا مسرحيا حيث عمل إلى جانب المخرج المسرحي آنذاك توم هورغان وأخرجا معا العديد من المسرحيات. بعد ذلك سينصحه أصدقائه والمقربين منه للهجرة إلى سان فرانسيسكو وهي مدينة كانت معروفة آنذاك بعاصمة "الهيبي" والبوهيميين والبوذيين والإرواحيين والمثليين.هناك ستعرف على رفيقه الجنسي سكوت سميث وسيفتحان محلا لبيع وكراء الأجهزة والآلات الفوتوغرافية المعروف باسم Castro Camera
سيهتم ميلك بالمجال السياسي خصوصا وأن هذا المجال كان ليعزز حقوقه الخاصة وحقوق المثليين مثله. وبمجرد تعديل النمط الانتخابي الجماعي آنذاك (التحول من الاقتراع الجهوي إلى المحلي)، ولأن ميلك كان بفضل نشاطاته الفنية والجمعوية ودعمه للعديد من التجار الشباب في المسائل المحاسباتية وكذا لصداقته الوطيدة مع عمدة سان فرانسيسكو جورج موسكون، سيحصل على منصب مستشار مقاطعة كاسترو بسان فرانسيسكو. وبالتالي سيصبح هارفي ميلك أول مثلي جنسي "معلن" يخوض انتخابات محلية ويصبح مستشار محلي لأحد كبريات العواصم بالولايات المتحدة الأمريكية.
هذا التميز سيجعل من هارفي ميلك موضوعا إعلاميا وشخصية تلفزية بائعة خصوصا وأن سان فرانسيسكو كانت دوما قبلة لكبار فناني العالم وكبار مشاهير الفن من المثليين. كما أن أنشطته ومعاركه السياسية ذات الطابع القانوني، وخصوصا تلك المعلنة ضد الميز الممارس على المثليين، سرعان ما ستنتشر في ولاية كاليفورنيا وفي باقي الولايات كالنار في الهشيم. ومن أبرز معاركه السياسية التي برز فيها اسم هارفي ميلك، تلك المعركة التي خاضها ضد ما كان يعرف "بالمقترح السادس" (مشروع قانون أطلقه المستشار جون بريغز يمنع المثليين من مزاولة مهام التدريس في المؤسسات التعليمية الأولية والثانوية)، وهي المعركة التي حسمها هارفي من خلال تعبئة العديد من النشطاء الحقوقيين والسياسيين والمستشارين منهم مجموعة من الحزب الجمهوري نفسه لدرجة اقتنع فيها السيناتور رونالد ريغن آنذاك بالمرافعة الحقوقية لهارفي ميلك بدعوى أن المقترح السادس سيعطي انطلاقة مقترحات أخرى من شأنها الحد من الحريات، والتي كان المجتمع الأمريكي يعتبرها عماد الديمقراطية الأمريكية برمتها.
بفعل نشاطه السياسي الذي بدأ يتطور وتتطور معه المؤازرات من طرف منظمات المثليين التي كانت تعمل في السر وبفعل تعاطف العديد من نشطاء الحقوق الفئوية والخاصة، وكذا جراء تفرد هارفي ميلك بالدفاع عن قضية خاصة لم تكن من قبله موضوعا لا سياسيا و لا إعلاميا، بدأت تحوم حول هذا السياسي المثلي مجموعة من التهديدات المعلنة لتصفيته. لدرجة تطوع أكثر من 20 شخص لتوفير حماية جسدية لصيقة به، وهو ما كان يضايقه بشدة بدعوى انه كان يريد لتحركه السياسي والحقوقي أن يكون عاديا وانسيابيا مادام يعتبر حقوق المثليين حقا مشروعا يجب على المجتمع الأمريكي أن يقبل به حتى ولو تطلب منه أن يموت لتحقيق هذا الهدف. وكانت مقولته الشهيرة رنانة في صفوف المثليين المحيطين به حيث كان يقول " لو كتب لرصاصة أن تخترق يوما جمجمتي، اتركوها تخترق في نفس الآن تلك الرفوف والأبواب الموصدة" في إشارة منه إلى عيش المثليين في تكتم اجتماعي وحقوقي وسياسي كبير.
وبالفعل فقد دفع مقتل هارفي ميلك بجعل قضايا المثليين في المجتمع الأمريكي تحظى باهتمام متزايد لدرجة تحول مجتمع المثليين من نقطة التكتم إلى تقوية اللوبي المثلي الأمريكي الذي دعمته فيما بعد اللوبيات اليهودية وجعلته يتحول إلى أكثر التجمعات واللوبيات استقواء إن على المستوى السياسي والحقوقي او على المستوى الفني (مؤازرة الفنانين المثليين وفتح أبواب الإنتاج والتألق)...
قتل هارفي ميلك بأربع رصاصات أطلقها عليه دان وايت وهو مستشار محلي استقال من منصبه بفضل ضغوط مارسها هارفي ميلك عليه جراء مواقفه السياسية المتطرفة ضد المثليين. لكن محاكمة وايت كانت غريبة بحيث اعتبرت الجريمة "قتلا غير متعمد" والأغر هو اعتبار القاضي أن القاتل كان ضحية تلوث كيميائي أثر على أعصابه بفعل نمط غير صحي في الأكل (وهي العبارة التي اشتهرت باسم Twinkie ). سيطلق صراح وايت سنة 1984 لكنه سينتحر في أكتوبر من السنة الموالية.
بعد مقتل هارفي ميلك ستتكاثف الأعمال الرمزية لتخليد ذكراه خصوصا الأعمال الفنية، لتحوله إلى أيقونة وطنية خالدة (وهو ما يبرز قوة اللوبي المثلي الأمريكي آنذاك في تخليد ضحاياه). سيتم إخراج مسرحيات وملحمات ونشر روايات وقصص حول حياة هارفي ميلك كما ستنتج أفلام حوله أشهرها فيلم "هارفي ميلك" للمخرج غوس فان سانت وشين بين. كما سيقترح مارك لينو، مستشار عن ولاية كاليفورنيا ومثلي جنسي "معلن" الدعوة لجعل 22 مـــاي (يوم ولادة هارفي) يوما خاصا للاحتفال به من طرف مثليي الولاية، لكن أرنولد شوارزنغير (عمدة كاليفورنيا) سيعترض. في سنة 2009 سيمنح الرئيس باراك أوباما لروح هارفي ميلك "الميدالية الرئاسية للحرية" وهي ميدالية مرموقة تعطى عادة لكبار مناضلي الحريات وحقوق الإنسان بالولايات المتحدة الأمريكية.