يشكل حادث اختطاف واغتيال واختفاء المهدي بن بركة في صباح 29 أكتوبر 1965 أمام مطعم ليب في شارع سان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية باريس، أهم وأفظع حدث سياسي ستعيشه فرنسا والمغرب والعالم في ذلك الوقت وربما إلى اليوم، وذلك بالنظر لقيمة الرجل السياسية والإنسانية على المستوى الإقليمي والدولي.
لم يكن المهدي بن بركة مجرد معارض لنظام أو لمستعمر، يسعى لتحرير بلده من بطش استعماري معين أو يسعى لإسقاط نظام حكم مستبد، بل كان بن بركة رجلا سياسيا يحمل، ليس فقط تصورا حول تغيير ملامح الحكم في العالم، بل يتأبط أجندة فعلية وخطة عمل حقيقية شرع في تنفيذها وحشد الدعم والمؤازرة السياسية والمالية لها قبيل اختطافه.
وأنا أصل إلى حلقة "بن بركة" أجدني أكتب عن شهيد وطني لقضية بلدي الوطنية والتي لا ترتبط فقط، كما كان يؤمن به بن بركة، بطرد المستعمر الفرنسي، بل بطرد كل ملامح الاستعمار التي يغذيها ويقويها نظام عالمي منبن على البطش واستغلال موارد وثروات العالم الثالث. استغلال طورته آلية رأسمالية عمياء شرعت تتحكم، بعد الحرب العالمية الثانية، في كل الأنظمة السياسية للعالم لتأصيل الاستغلال الاقتصادي بنيويا ومأسسته سياسيا من خلال دعم أنظمة تخدمه وقمع حركات تحاربه.
أجدني أروي قصة مناضل سياسي مغربي وعالمي من طينة خاصة، عاش حياة صاخبة مفعمة بالحركة والسفر والنضال والتعبئة والمقاومة، بقوة خلاقة نادرة، فمات ميتة صامتة بدون رفات ولا قبر ولا جاني ولا قاتل... وهي ربما الصفات التي قال عنها رجيس دوبري، وهو يصف مقتل تشي غيفارا، بأنها هي التي تجعل من الضحية رمزا وتزيده توهجا في الضمير المشترك لرواد التحرر والحرية والديمقراطية في العالم. مات من قتلوا بن بركة، وبقي هو حيا لم يمت.
في صباح 29 أكتوبر 1965، كان المهدي بن بركة على موعد مع مخرج سينمائي فرنسي أمام مطعم ليب في شارع سان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية، لإعداد فيلم حول حركات التحرر، وكان هذا المخرج مشاركا في سيناريو الاختطاف. تقدم رجلا شرطة فرنسيين إلى بن بركة وطلبا منه مرافقتهما في سيارة تابعة للشرطة.
وبعد ذلك وحتى الآن، اختفى اثر بن بركة ورسمياً لم يعرف إلا ما أدلى به الشرطيان أمام محكمة، حيث اعترفا أنهما خطفا بن بركة بالاتفاق مع المخابرات المغربية وأنهما أخذاه إلى فيلا تقع في ضواحي باريس حيث شاهدا الجنرال محمد اوفقير وزير الداخلية المغربي آنذاك ومعه أحمد الدليمي مدير المخابرات المغربية وآخرون من رجاله وأن بن بركة توفي أثناء التحقيق معه تحت التعذيب. فقد وعيه أولا جراء حالته الصحية المزرية بحيث كان قلبه ضعيفا وكان يشكو من آلام مبرحة في رقبته جراء حادثة سير وقعت له في وادي الشراط (بين الدارالبيضاء والرباط) إثر محاولة اغتيال فاشلة سنة 1963.
لم يكن بن بركة في بلده مناضلا عاديا، فمنذ 11 يناير 1944 قدم مع آخرين إلى الملك محمد الخامس ما عرف في ما بعد بوثيقة الاستقلال وهي وثيقة تاريخية تطالب باستقلال المغرب قدمها مجموعة من مثقفي المغرب وكان من بين أصغر الموقعين عليها آنذاك بعد المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، وكان عمره 24 عاما، اعتقلته السلطات الفرنسية سنة كاملة على اثر تقديمه تلك الوثيقة. وصار بن بركة وهو شاب، سنة 1945 رئيساً لحزب الاستقلال المغربي الحزب الأكبر في المغرب وقتئذ والذي قاد الحركة النضالية من اجل الاستقلال في المغرب. كما قاد حركة شبابية وثقافية وسياسية داخل حزب الاستقلال ليصدر الجريدة التي ستصير جريدة الاستقلال الأولى في المغرب وهي جريدة العلم. وفي سنة1948 سيسافر بن بركة إلى باريس لتقديم تقرير عن أوضاع حقوق الإنسان بالمغرب إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة المنعقدة بقصر شايو بالعاصمة الفرنسية وكان من جدول أعمالها إعداد تصريح حول حقوق الإنسان وبالأخص تحت وطأة الاستعمار الفرنسي.
وهو ما سيدفع المقيم العام الجنرال جوان في فبراير 1951 إلى إصدار أمر باعتقال المهدي بن بركة باعتباره من أخطر أعداء الحماية الفرنسية بالمغرب. وظل رهن الإقامة الجبرية ثم أدخل إلى سجن الدار البيضاء لغاية أكتوبر 1954 حيث سيطلق سراحه. بعدها سيشرع بن بركة في إعادة تنظيم حزب الاستقلال على أساس تمتين العلاقات مع قيادة النقابة العمالية الكبرى في المغرب (الاتحاد العام للشغالين) وحركة المقاومة المسلحة التي أصبحت واقعا سياسيا بمجرد خلع الملك في غشت 1953. سنتان بعد ذلك سيشرف على إعداد المليشيا الشعبية التي ضمنت الأمن وسهرت على النظام في هذه الحقبة التي عاد فيها المغفور له محمد الخامس مظفرا إلى شعبه. ولأنه كان يحظى باحترام بالغ من طرف السلطان محمد الخامس ويحظى بإجماع الفرقاء السياسيين بالمغرب، سينتخب بالإجماع في 16 نونبر 1956 رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري (أول برلمان للمغرب).
بعد استقلال المغرب بسنة سيضع وينفذ مشروعا وطنيا بنفحة سيادية وسياسية كبيرة ألا وهو مشروع طريق الوحدة في صيف 1957 بمشاركة اثني عشر ألفا من المتطوعين الشباب على رأسهم ولي العهد آنذاك الأمير الحسن.
يوم 25 يناير 1959 قدم استقالته من اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال ليكون حرا يشارك بفعالية في التحولات السياسية التي تمخض عنها ظهور حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كقوة سياسية تهدف إلى استمرار روح المقاومة الوطنية في ضمير الجماهير وقواها الحية. وبعد جولاته الدولية إلى الصين والهند ومصر ولبنان وفرنسا وإسبانيا، سيتحول بن بركة من زعيم حزبي بالمغرب إلى أحد كبار القادة العالميين لحركات التحرر وعدم الانحياز. وهنا ستشتد الضغوط عليه وعلى النظام المغربي بضرورة تحجيم وإضعاف قوة هذا السياسي "الخطير".
وفي ظهر الجمعة 16 نونبر 1962 تعرض لمحاولة اغتيال قرب بوزنيقة، ونظرا للجروح الخطيرة التي أصابته في ثلاث فقرات عنقية فقد اضطر للسفر إلى ألمانيا وتم استبعاده هكذا من معركة مقاطعة استفتاء 7 ديسمبر 1962.
في يوم 15 يونيو 1963 وبعد أن تأكد للجميع أن الممارسة الديمقراطية السليمة تواجه آفاقا مظلمة نظرا للمواقع الخطيرة التي يحتلها خصوم الديمقراطية في أجهزة المملكة، قرر المهدي بن بركة مغادرة المغرب. وفي يونيو 1963 صدر حكم غيابي بالإعدام في حقه بعد اتهامه بالمشاركة في ما سمي "مؤامرة و محاولة اغتيال الملك" وهو في الخارج.
سيقرر السياسي الثائر العودة إلى المغرب لكن ليس قبل أن يتمم إجراءات إعداد مؤتمر القارات الثلاث بمدينة هافانا في يناير 1966. ولم يكن يعلم أنه كان حقيقة طريدة للمخابرات الدولية تحاول اصطياده لخطورة هذا المؤتمر على التوازنات الدولية والجيو سياسية التي كانت قيد التشكل وقتئذ. تأخر بن بركة في العودة للمغرب، وتقرر اغتياله فورا.
يمكن اعتبار رواية الاختطاف والاغتيال، الصيغة الرسمية الوحيدة المتفق عليها من الأطراف المشاركة بالجريمة أو عائلة بن بركة ورفاقه، لكن ما بعد ذلك لا زالت الروايات متعددة ومتباينة، ولحد الآن رغم مرور أربعين عاما لا يعرف مصير جثمان بن بركة وأين دفن. وكل الروايات المتداولة قابلة للتصديق وكلها لا تحمل ما يؤكدها.
من الناحية القانونية، فإن عائلة بن بركة ورفاقه لا يطالبون بالكثير، يريدون فقط حقيقة مصير جثمانه ومكان دفنها. وتبقى الوثائق الرسمية الفرنسية والتي بدأت تكشفت على جملة من الحقائق وترفع السرية عنها، بعد اربعين عاما من وضعها تحت بند أسرار الدفاع وحظر نشرها، لا تتحدث عن مصير الجثمان. كما أن السلطات المغربية ما زالت تتحفظ في الحديث عن الملف بمجمله وترفض الخوض فيه، رغم ما عرفه ملف حقوق الإنسان وما يعرف بمسلسل طي صفحة الماضي من تقدم طوال السنوات العشر الماضية.
منذ منتصف التسعينات، دشن المغرب مسلسل كشف ماضيه في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بحيث بدأ المسلسل بطيئا لكنه مع تولي الملك محمد السادس الحكم في صيف 1999 تسارع وقطع خطوات مهمة، فطلب من الضحايا الحديث العلني وتم تعويضهم وعائلاتهم عن ما لحقهم من اضطهاد وفتحت السجون السرية (ليس كلها) أمام منظمات حقوق الإنسان وكشف عن مصير عشرات المخطوفين ومجهولي المصير كما كشف عن مقابر جماعية لضحايا مواجهات أو ضحايا اعتقال. لكن المسلسل سار محاذيا لملف المهدي بن بركة دون الاقتراب منه ودون معرفة الحكمة من تلك المحاذاة.
من غرائب مسارات التحري والبحث أن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو الحزب الذي كان بن بركة أحد زعمائه السياسيين الأوائل، سبق وتقدم بشكوى أمام القضاء المغربي للتحقيق مع البخاري في ما قاله حول زعيمه، خاصة ان البخاري تطرق إلى أماكن شهدت الإعداد والتنفيذ و ذكر أسماء بعينها شاركت في كل المراحل ومنها من هو لا زال على قيد الحياة. وطلبت عائلة بن بركة في فرنسا من قاضي التحقيق بالقضية الاستماع رسميا للبخاري، لكن السلطات المغربية قالت إن ملف شكوى الاتحاد الاشتراكي قد فقد، وفي الوقت نفسه منعت البخاري من السفر وسحبت جواز سفره بعد رفع قضية ضده بتهمة شيك بدون رصيد.
قضية المهدي بن بركة هي قضية تتجاوز المغرب لضلوع أجهزة دولية فيها لكن ذلك لا يبرئ الأجهزة المخابراتية المغربية آنذاك والفرنسية من المسؤولية. ويروى أن دوغول نفسه تم تجاوزه ولم يعلم بالاغتيال إلا يوم حدوثه وهو نفسه اليوم الذي كان على موعد للقاء بن بركة معه ولكنه تخلف عنه. وتروي الروايات كيف أن دوغول عاتب السلطات المغربية بشدة بل وقطع علاقاته الديبلوماسية طويلا مع المملكة ومات وفي حلقه "شوكة بن بركة".