مجلة «مواقف».. تأسيس كتابة جديدة/ أدونيس
ما نحاوله، اليوم، في «مواقف» يتجاوز ما بدأته «شعر» ويكمله في آن. فلم تعد المسألة أن نغير في الدرجة، أي في الطريقة، بل أصبحت المسألة هي أن نغير في النوع، أي في المعنى. لم تعد المسألة، اليوم، مسألة القصيدة، بل مسألة الكتابة. كنت في «شعر» أطمح إلى تأسيس قصيدة جديدة، لكنني في «مواقف» أطمح إلى تأسيس كتابة جديدة.
ص 3 العدد رقم 15 فاتح مايو1971
مجلة «الكرمل».. تأسيس فلسطين الرؤية/ محمود درويش
مجلة جديدة، نعم.
جديدة لأنها لا تنطلق من الفراغ، بل من تراكم التجارب الإبداعية العربية.
جديدة، نعم.
لأنها تسعى الجديد، والجديد ليس جديدها، بل هو جديد الثقافة العربية. جديد هذا الصوت الذي لم يختنق، وهذا الوعي القادر على أن يلملم شتاته وينهض، ويؤسس لإطار صغير. قد يكون حاجة، وقد يكون إعلانا عن الحاجة إلى الصراخ المدوي. لذلك يكون جديدها، هو قدرتها على أن تكون أرضا للحوار والتعدد. أرضا للثقافة وعلاقة كتابة الثورة بثورة الكتابة التي تبدأ من جديد.
وهذا الصوت ليس جبلا.
الكرمل جبل في فلسطين، وهذه «الكرمل» ليست اسما والاسم لا يدل على شيء، إذا لم يكن فعلا باتجاهه. والاسم لا يدل إلا على رغبتنا في أن نساهم في تأسيس فلسطين الرؤية. هذه الرؤية المدهشة التي تتشكل من مزيج الدم والتوقعات والخيبة، من هذا الأمل الفذ الذي يولد من جديد.
ص 4 العدد رقم 1 فاتح يناير 1981
مجلة «نزوى».. إشارات/ سيف الرحبي
لا ننطلق من فراغ في صنع مجلة وتأسيسها فمثل هذا الفراغ محض ادعاء، فأمامنا إرث الثقافة العربية بمجلاتها وصحافتها ومنابرها. لكنا لا نستطيع ولا يخطر على بالنا نسخ ذلك الإرث بمعطياته الخاصة زمنا وتاريخا ومكانا، مما يذوب طموحنا في خضم العموميات وفقدان الملامح والوجهة الخاصة للمكان العماني وثقافته وعناصره المختلفة... وفي سياق طموحنا إلى التعدد العربي والتماس مع ثقافة العصر الموارة بالتيارات والاتجاهات، ضمن هاجس الخصوصية وإبداعها وملامحها. نطمح إلى أن تكون «نزوى» مجلة متنوعة وشاملة من حيث الآراء والتعبيرات الفنية والثقافية أو من حيث تنويع المواد وعدم حصرها في اتجاه واحد، أي أن تكون مرآة شمول ثقافي وفني وفكري بما يعني ذلك من محاولة تركيب عناصر مجلة تلم شتات موضوعات تمتد من التحقيقات الصحفية الحية والتاريخية حتى الإبداعات والكتابات الشعرية والمسرحية والسينمائية والموسيقية، وصولا إلى التنظير الفكري والأدبي ضمن وحدة شاملة تتوسل المجلة تطويرها وتوسيعها... ص 4 العدد رقم 2 فاتح مارس 1995
محمود الرحبي: «نزوى» بعد مائة ربيع وربيع
أطفأت، مؤخرا، مجلة نزوى الثقافية، شمعة صدور عددها المائة، فهنيئا وصولها الآمن إلى الثلث الأول من الألفية الثالثة، بعد أن دشنت وجودها في الثلث الأخير من الألفية الثانية. ونرجو الآن أن تتحول كل ملفاتها إلى مجلدات تكون في متناول الباحث والمهتم. ذكرى كثيرة يمكن استحضارها مع الخطوات الأولى لنشأة المجلة. فقد كنا -أخي الدكتور أحمد الرحبي وأنا- برفقة الشاعر سيف الرحبي «عمو سيف» نقصد شاطئ «الحيل» كل يوم، حيث لم يظهر بعدُ مشروع الموج... فقط، كانت هناك حديقة جميلة جدا من تصميم ياباني، يؤمها الناس وتسكنها طيور وسط أعشاب متفرقة في هدوء ووحشية أنيقة بين شجيرات تعشش فوق أغصانها الغربان، تلتصق بأرض «السيب» وتتماهى مع طبيعتها البحرية. وكان يلوح من بعيد بيت الصديق مبارك العامري، وأمامه سدرة ضخمة معرشة. ورغم أن السدرة لا تزال موجودة حتى الآن فإنها صارت محاطة ببيوت كثيرة و«اختفى» بيت مبارك العامري، الذي كان قبالة وجه البحر مباشرة وبلا سياج. في ذلك الفضاء كنا نتداول في اقتراحات لتسمية المجلة، بينها «الطليعة» وأسماء أخرى. نتنقل في سيارة «مازدا» رصاصية ونسكن – ثلاثتنا- في الغرفة التي خصصها المرحوم والدي في «الحيل»، وكان مرحبا بكل من يريد أن يدخل ويمكث من الأصدقاء. وكان سيف الرحبي عائدا لتوه من هولندا. وكنا نأخذه إلى مقر صحيفة «عمان»، التي كانت في «روي». وحين اكتمل مشروع المجلة ومبناها، جاء المصمم، وهو الفنان المعروف ضياء العزاوي، وعقد اجتماعا حضره مجموعة من الكتاب العمانيين كان منهم -حسب ما أذكر- هلال العامري.
مجلة «نزوى»، التي صدر مؤخرا عددها المائة، ظهرت بعدما أفل نجم مجلات ثقافية عريقة في الوطن العربي، منها «الناقد» و«مواقف» و«الكرمل»، ولكنها انطلاقا من ذلك النهج الرصين الذي سنته تلك المجلات استطاعت، بدورها، أن تكون رصينة وتحظى باحترام خاص أهلها لأن تكون قبلة للأقلام الأدبية في الوطن العربي أساسا. كما فتحت هامشا للفكر والسينما والفلسفة والتاريخ... وبمرور الوقت، صارت «نزوى» أحد المراجع المهمة ليس لطلاب كليات الآداب فقط، بل أيضا لطلاب العلوم الإنسانية وللباحثين في الفنون والموسيقى والسينما. وقد كان لجانب الدراسات والتراث، أيضا، دور في المجلة، إذ لم يكد عدد من أعدادها منذ أن ظهرت يخلو من دراسة موسعة، سواء في التاريخ العماني أو في الشأن الاجتماعي. وهي، بتنويعها ومزجها تضع كنوز عمان اللامادية أمام أعين القراء العرب، لأن عمان ليست نفطا فحسب -وربما هي أقل دول النفط أهمية لأنها لا تصدر إلا مليون برميل- ولكنها بالأساس تراث ومعرفة وثقافة وتنوع إثنوغرافي ضاربُ في القدم، إلى جانب محكيات لا ينضب معينها وتعد نبعا صافيا يمتح منه كل مبدع وباحث، ناهيك عن كنوزها الجغرافية والأركيولوجية، من جبال وأودية وهضاب وشواطئ ساحرة ورمال ناعمة.
أسهم في الكتابة في احتفاء المجلة بعددها المائة مجموعة من المبدعين والباحثين العرب الذين سايروا المجلة منذ تأسيسها، وكان من أبرزهم الناقد الأدبي المعروف سعيد يقطين، الذي كنت أحضر له إسهاماته في الأعداد الأولى من المغرب بالطريقة التقليدية المتبعة حينئذ والشبيهة بطريقة «المرسال»، وهو الشخص الذي ينقل الرسائل من بلد إلى آخر. وقد فعلتُ هذا مع أكثر من صديق مغربي، أصبح لمعظمهم الآن شأن كبير في البحث والأدب والصحافة، أذكر منهم، على سبيل المثال، رشيد نيني، الذي بعث معي أكثر من مرة، نصوصا لنشرها في المجلة.
أخيرا يجب القول، ما كان للمجلة أن يكون لها كل هذا الثراء والغزارة والتنوع في المادة لولا العلاقات الجيدة لرئيس تحريرها، الشاعر المعروف سيف الرحبي، بمختلف الأوساط الأدبية والفنية والأكاديمية في بلدان العالم العربي كافة.
(كاتب من سلطنة عمان)
كمال أخلاقي: مجلات.. أو نوافذ الضوء القادم من كل الجهات
كان للمجلات العربية مثل مجلة «الناقد» و«الكرمل» و«مواقف» وغيرها تأثير واسع على عموم الكاتبات والكتاب على المستوى العربي، وساهمت مساهمة كبيرة في ظهور أسماء كثيرة وكان الفضل في خلق حركية إبداعية وثقافية مهمة. هذه المجلات الرائدة التي ذكرت وغيرها طبعا كمجلة مشارف وشعر والآداب كانت تمثل روافد أساسية للحقل الأدبي العربي ونوافذ كبيرة، منها كان ينفذ الضوء القادم من كل الجهات عبر مسارات كتاب كبار حملوا على عاتقهم مهمة نشر قيم الحداثة والمعرفة والإبداع الحقيقي الذي يستشرف مستقبل الثقافة العربية في انفتاحها على آفاق كونية وإنسانية رحبة. لا يمكن للقارئ الذي نهم من ضوء هذه المنارات الورقية إلا أن يستشعر طعم الحسرة والحنين إزاء هذا الفراغ المهول الذي خلفه توقف وغياب هذه المشاريع الثقافية التي لم يستطع أصحابها مواصلة الطريق في غياب دعم مالي واضح من الجهات المسؤولة والتي في الغالب كانت تنظر بانزعاج وبكثير من الريبة إلى ما كانت تنجزه هذه المنابر من خلخلة ونقاش في بنية ثقافتنا العربية. شخصيا أنا في التسعينيات من القرن الماضي كنت أبحث عن أعداد هذه المجلات في كل المكتبات بل أحيانا كنت أسافر إلى مراكش أو الدارالبيضاء من أجل اقتنائها وأحيانا كنت أكتفي بنسخها عن طريق الفوطوكوبي إذا عثرت عليها عند صديق. الكرمل والآداب كنت أحبهما كثيرا وكنت أحلم أن أنشر فيهما قصائدي وهذا ما حصل مع مجلة الآداب، وكدت أطير فرحا لما رأيت نصا لي منشورا في أحد أعدادها الأخيرة وفرحا أكثر برسالة شكر من المجلة. بعد رحيل هذه المجلات أصبحت من قراء ومن كتاب مجلة نزوى العمانية التي أنشر فيها من وقت لآخر وأكن احتراما كبيرا لرئيس تحريرها الشاعر سيف الرحبي. من الصعب في وقتنا الراهن وفي زمننا الثقافي البائس هذا، صناعة مشاريع ثقافية بحجم تلك المجلات لاعتبارات موضوعية وذاتية عديدة لعل أبرزها هو القطيعة التي حدثت أمام اكتساح التداول الرقمي وظهور وسائط جديدة للأسف لم نستطع ترويضها وتطويعها هي الأخرى لخلق مساحات جديدة وجدية للتداول الثقافي ثم أن الكتاب أنفسهم لم تعد لديهم في الغالب تلك الطاقة الخلاقة لخلق تصورات بديلة ومغايرة، يتجمع حولها المثقفون والأدباء من أجل بناء مشروع ثقافي واضح الأهداف بدون خلفيات أيديولوجية متقادمة أو روابط شللية بعيدة عن الجوهر الثقافي الذي ينتصر للقيم الإنسانية النبيلة. والتي في غيابها لا يمكن تصور أي مستقبل لأي جهد قد يبذل ويضيع سدى بعد صدور عدد أو عددين أو في الأقصى خمسة أعداد كما هو الحال مع العديد من المجلات التي تظهر هنا أو هناك ثم تختفي بلا أثر كأنها لم تكن قط. أضيف أيضا أن جل الكتاب والمبدعين أصبحوا يشترطون تعويضات مالية مقابل موادهم الأدبية بغض النظر عن القيمة الأدبية للمجلة أو لخطها التحريري وهذا ما يحصل الآن من تهافت الكتاب على مجلات الخليج الدسمة التي أنتجت كما كبيرا من أشباه الكتاب الذين يتهارشون على مساحة ورقية ويجلسون منتظرين أرقام حوالات الويستريونيون؟
(كاتب وشاعر مغربي)
عبد الفتاح بن حمودة/ إيكاروس: أغلب المجلات العربية تحولت إلى دور نشر
عادة ما يتم النظر إلى الأشياء الضائعة أنها فردوس مفقود، لذلك نظل نبكي بعد ضياعها. فكلما تذكرت المجلات الأدبية العربية، إلا ولفني إحساس فظيع باليتم. ففي بدايتي، لم أكن أحلم كثيرا بالنشر فيها، بقدر ما كان مجرد الحصول عليها يشعرني بأنني أحيا، كان الصديق «عمر» يستقبل الطلبة والكتاب في كشكه وسط شارع بورقيبة في مساءات العاصمة التي تضج بأناشيد آلاف العصافير. فكان يعطينا المجلات والصحف العربية البارزة التي تصل تونس حتى وإن لم يكن لدينا أموال في انتظار منحة الطلبة لنأتي بعد ذلك لتسديد ما تخلد بذمتنا وكنت والصديق الشاعر رضا العبيدي نسترق السمع إلى أناشيد آلاف العصافير فوق الأشجار. كان باعة الورود وسط الشارع في كل مكان بابتساماتهم ومحباتهم.
كنت أعود بالمجلات مساء إلى غرفتي بالمبيت الجامعي محملا بمواقف والكرمل وفصول وكتابات معاصرة والناقد وإبداع والفكر العربي المعاصر والعرب والفكر العالمي والثقافة العالمية والآداب والهلال والعربي الكويتية وعالم المعرفة وعالم الفكر وعيون والوحدة وغيرها، وكذلك بصحف القدس العربي والعلم والاتحاد الاشتراكي المغربيتين وكذلك جريدة أخبار الأدب المصرية والحياة والشرق الأوسط وبريد الجنوب لاحقا. كنت كأنني أحمل سلة أزهار، فيكفي أنك تقرأ كل ما تعثر عليه لرواد الحداثة في الشعر والقصة والرواية.. فأول قصة قرأتها للراحل محمد زفزاف كانت منشورة في الآداب وكذلك القصيدة الأدائية للعراقي علي الطائي. أما مجلة المدى فكانت تصل إلى الأستاذ محمد لطفي فيقدمها إلى الصديق الشاعر نصر سامي فننسخ منها ما تيسر وأول قصة قرأتها للكردي الرائع شيرزاد حسن كانت بعنوان «عزرائيل» كانت في المدى. كان الأصدقاء ينسخون كل النصوص والبحوث والدراسات التي تشدنا. وقرأت في مواقف رواية «البومة العمياء» للكاتب الإيراني صادق هدايت فلم أنس ذلك أبدا.
كنت أقرأ كل ما يصل من مجلات، محاولا متابعتها حسب المقدرة المادية. لكن رغم انقطاع أغلبها، فقد ظل بعضها يصل مثل كتابات معاصرة وعاد بعضها بعد انقطاع مثل إبداع والفكر العربي المعاصر وشهدنا ظهور مجلات أخرى مثل إبداعات عالمية ونوافذ وعلامات في النقد ونزوى وغيرها. والظاهر أن المجلات العربية ارتبطت بأحلام كتاب عرب فمواقف ارتبط اسمها بأدونيس وكتابات معاصرة ارتبط اسمها بإلياس لحود وإبداع ارتبط اسمها بأحمد عبد المعطي حجازي والناقد ارتبط اسمها برياض نجيب الريس والآداب ارتبط اسمها بسهيل ادريس. والعرب والفكر العالمي والفكر العربي المعاصر والوحدة ارتبطت بمطاع صفدي والكرمل ارتبط اسمها بمحمود درويش وسليم بركات، لكني أعتقد أن كل تلك الأحلام تحولت إلى دور نشر فمواقف كانت لدار الساقي والناقد كانت لدار رياض نجيب الريس والمدى كانت لدار المدى والآداب كانت لدار الآداب وعيون كانت لدار الجمل لاحقا.
(كاتب وشاعر من تونس)
جمال أكاديري: حكايتي مع مجلة «الناقد»
كان ذلك في سنة 90 و91 نشرت بصفتي كاتبا مبتدئا نصوصا في المجلة الطلائعية الكبيرة «الناقد» التي تصدر من لندن إلى جوار كتابات كبار الكتاب العرب انسي الحاج، الماغوط، غالي شكري، ناصر أبوزيد، علي حرب... كانت مفاجأة مذهلة أنا الشاب المغمور أتوصل برسائل من الورق الفخم عليها تواقيع بقبول النشر مع المكافأة موقعة من لدن كتاب ستكون لهم مكانتهم، مثل الشاعر السوري نوري الجراح. النص الأول كان قصصيا، تجريبيا بامتياز، مطعما بتفاصيل واقعية. نشر فورا، وأتبعته في ما بعد بمقالتين نقديتين. فعلا كانت تجربة استثنائية واعترافا جازما بأن ثمرة النص الجيد هو كل شيء وأن الإخوانية الحزبية وسرطان المحسوبية وثقافة الزبونية لا تفرخ إلا كتابا جد رديئين لا يعول عليهم. كما كان حال سطوة ماكينة الإقصاء لدينا التي كانت تشتغل بصرامة ستالينية داخل المؤسسات الثقافية وتفصل خريطة النشر الثقافي على مقاس جدول الهرم التدرجي لأسماء يقارن بها، إبداع الوافدين الجدد انطلاقا من معيار الانتماء لمظلة ما أو حسب درجة رسوخ عادة الانبطاح والانحناء السياسي. لكنني اتكأت على مجداف الحظ ورفعت جرعة الثقة في أقنعة ذواتي المتعددة وأبحرت صوب جرائد ومجلات عربية تصدر من أوروبا لكسر الحصار المضروب على إبداع شباب مثلي كان ذنبهم الوحيد أنهم يحملون في جوف قلوبهم نصوصا دامية متشوفة للانفجار والانفلاش في كل جهات الهواء الطلق. هكذا متشبثا أن يبقى صوتي صامدا بين أصوات لم تتنازل ولم تتراجع ولم تتنكر لنبرتها الخاصة في اختراق الثابت المميت من مواضعات المجتمع المحافظ جدا الذي كان يطوقنا، فهوت على ساحتنا فجأة مجلة «الناقد» كالنيزك من حيث لا ندري جارفة أمامها ركاما من مجلات بترودولار وكثيرا من تلك المجلات الصادحة بشعارات الريادة الأدبية والحابلة بنزعة أبوية استعلائية مقيتة (كما كان الحال في مصر). من خلال أعدادها المتوالية، وبسرعة قياسية، برز الاختلاف النوعي البين في صناعة مجلة ورقية تنحاز إلى جذب انتباه قارئ مثقف محترف لم يعد يرضى بمتلاشيات الثقافة الغثة التي تفوح منها نتانة الجماليات البلاغية المستهلكة. بل إن لم أبالغ ظهورها كان يشبه الصاعقة فاتحا فضاء ثقافيا جديدا سيحاول إعادة قلب وترتيب المشهد برمته بتجسير الضفاف المتباعدة بين مثقفين وأدباء وشعراء ورسامين وقصاصين (كنت واحدا منهم) كانت الصلة الثقافية شبه منعدمة بينهم، باعثة فيهم تلك النزعة الحيوية التي تجدد الجدالات الفكرية والسجالات الفنية والأدبية. كان هذا أشبه بفتح أكورا agora يونانية جديدة في فترة عرفت ظهور بوادر تمزق الثقافة العربية وتشتتها موزعة أشلاءها، بين بوتيكات النشر المحلية التابعة إيديولوجيا والمسيسة التي حنطت الثقافة لخدمة مصالحها، وبين بلدان المنافي والاغتراب والهجرة القسري. فبدأ تأثيرها أمام أعيننا يتعاظم، خاصة عندما تمترست علانية دون خوف كجبهة ثقافية طليعية لكسر كل الطابوهات الرائجة آنذاك من الممنوع إلى المسكوت عنه والترويج للنصوص الأدبية الجريئة الصادمة إلى درجة أن بعض ملفات أعدادها الساخنة صارت عرضة للتهريب من تحت أنوف الجمارك. في تلك الحقبة، حقبة الاختناق والفقر الثقافي المشبع حتى الغثيان بالزعيق والاقتتال السياسي وفي عز الأفول الفكري للإديولوجيات الكبرى، مبادرة إصدار مجلة كالناقد من دولة غربية تحديدا، كان مفعوله أقرب إلى إنعاش جسد منهوك يحتضر بمضادات قوية مهيجة. فقد استفادت بشكل ثوري من عطاء الهجرات الثقافية العربية إلى أوروبا ومن تنامي شبكات التلاقح الثقافي الطليعي التي كانت متاحة هناك بحرية، ففتحت لنا أبوابها بكرم وفرشت لنا بساط الطيران الإبداعي والتحليق بجوار الكبار وكانت تلك هي انطلاقتي الحقيقية في تجربة النشر القيمة.
شكرا لمجلة «الناقد» على كل ذلك السخاء الأدبي الذي فات.
(كاتب مغربي)