«في سنة 1659 كانت الدولة السعدية، وهي تحتضر مائة سنة فقط بعد تأسيسها، تتوفر على نظام سيادي خاص في ما يتعلق بحماية السلع المغربية التي كانت في ذلك التاريخ يتم تصديرها إلى أوربا، خصوصا بريطانيا التي كانت تجمعها بالدولة السعدية صداقة متينة جدا.
مدينة تارودانت لم تكن فقط عاصمة تجارية للسعديين، وإنما أيضا عاصمة علمية للدولة بحكم أنها كانت تتوفر على كل مظاهر السيادة الواحدة من أعرق الدول التي حكمت المغرب، رغم قصر المدة التي استمرت فيها الدولة السعدية، إلا أن التاريخ سجل لها الفوز باحترام أقدم ملكية في التاريخ، ويتعلق الأمر بالمملكة البريطانية المتحدة. إذ إن البريطانيين كانوا يخطبون ود المنصور السعدي، أقوى من حكم من سلالة السعديين، ومعه كانت «الديوانة» المغربية في شكلها البدائي، تقريبا، تعيش أزهى فتراتها، بحكم أن القوانين الصارمة التي فرضت على موظفي «الديوانة» المغربية وقتها، كانت تجرم تلقي الرشاوى أو العمولات أو حتى الدخول في صفقات مع التجار الإنجليز الذين كانوا يحصلون على السكر المغربي على وجه الخصوص، وفق شروط الملك السعدي وليس بشروط ملكة أقوى دولة في العالم.
أما في عهد العلويين، فقد كانت السيارات أبرز المحجوزات التي خلقت حالة استنفار في البلاد، تلتها محجوزات أخرى كالمطابع وأدوات الزينة واللوحات الفنية التي حجزت في ميناء طنجة في أكثر من مناسبة منذ 1880 تقريبا، وكان خبر حجزها ينشر في الصحافة بين الفينة والأخرى خلال ذلك التاريخ وكان يستأثر باهتمام الرأي العام الدولي، ويزيد التصور الغامض عن المغرب، رغم أنه لم يكن يخلو من مبالغات في أغلب الأحيان».
قصص المحجوزات التي أمر «التفتيش» بمنع دخولها إلى المغرب
في عهد المولى الحسن الأول، الذي غادر الحياة وترك خلفه المغرب في بداية عهد الانفتاح على فرنسا والإنجليز سنة 1894، وقعت عدة حوادث، لم يشر إليها التاريخ الرسمي للأسف. يتعلق الأمر بوقائع عن الجدل الداخلي الكبير حول مشروعية دخول بعض المنتجات الأوربية إلى المغرب.
صحيح أن هناك نقاشا بين العلماء في جامعة القرويين وغيرها من المعاقل العلمية في المغرب، تم التأريخ له في المراجع الرسمية لتاريخ المملكة، لكن وقائع كثيرة وثقها الدبلوماسيون الأجانب، لا نجد لها اليوم أي إشارات في «الأخبار» التي جمعها السلف من كُتاب في الدواوين ومؤرخين وعلماء.
سنتين قبل وفاة المولى الحسن الأول، وصل إلى فاس خبر وصول سيارة إلى مدينة طنجة، وشاع خبر بأن «الديوانة» في المدينة سمحت بنزول السيارة من الباخرة الألمانية، التي جاءت بالسيارة تلبية لطلب ثري ألماني كان يقيم في طنجة ويخطط لبناء فندق كبير بها. لكن اتضح في نهاية الأمر ألا وجود لتلك السيارة، حسب ما دونه رفيق شريف وزان الذي عاش بطنجة لخمسين سنة بعد وفاة الشريف، في كتاب من 200 صفحة يحكي فيه عن ذكرياته في عدد من المدن العربية من بينها طنجة. يقول إن السلطان المولى الحسن الأول أرسل من فاس فريقا من الجيش، أمرهم بتأديب رئيس «الديوانة»، إذا صح خبر السماح بنزول تلك المركبة على رصيف ميناء طنجة الخشبي. واعتمد المولى الحسن الأول في قراره على نصائح من علماء جامع القرويين الذين حرموا في عهده دخول تلك السيارات، حتى أنهم بعد وفاته أصدروا فتوى رسمية حرموا فيها ركوب السيارات التي لا تجرها الخيول، ولم تكن معروفة بـ«السيارات»، وإنما تتم الإشارة إليها بـ«العربات». وادعى العرافون أن السيارات بدون خيول كانت تسير بقوى خفية شيطانية، وهو ما جعل الحقد على «الديوانة» التي سمحت بنزول السيارات في ميناء طنجة وشوارعها، يزداد اتقادا.
بالعودة إلى تجربة الثري الألماني في طنجة، فقد اتضح لاحقا للمولى الحسن الأول أن خبر توصله بالسيارة من نوع «مرسيدس» غير صحيح بالمرة، وأن الأمر كان مجرد إشاعة سرت في أوساط المخزنيين المغاربة بمدينة طنجة. فقد سبق خبر السيارة وصولها الفعلي، ولم تنزل أول سيارة في مينائها إلا سنوات بعد ذلك. أما وصول أول سيارة إلى فاس، فقد حدث في عهد المولى عبد العزيز، وكانت موضوع غضب كبير في أوساط المحافظين وعلماء القرويين.
لقد كانت السيارات أبرز المحجوزات التي خلقت حالة استنفار في البلاد، تلتها محجوزات أخرى كالمطابع وأدوات الزينة واللوحات الفنية التي حجزت في ميناء طنجة في أكثر من مناسبة منذ 1880 تقريبا، وكان خبر حجزها ينشر في الصحافة بين الفينة والأخرى خلال ذلك التاريخ وكان يستأثر باهتمام الرأي العام الدولي، ويزيد التصور الغامض عن المغرب، رغم أنه لم يكن يخلو من مبالغات في أغلب الأحيان.
كيف تأسس الخط الأول لتأمين استخلاص الضرائب عبر البر والبحر؟
في عهد المولى محمد الرابع وقعت مشادات بين تجار ميناء مدينة الناظور وتجار مدينة فاس. والسبب أن الفاسيين أحسوا بمنافسة كبيرة لهم من طرف تجار ميناء الناظور، الذين كانوا يحققون أرباحا كبيرة من خلال تجارة السلع الواردة إليهم من السفن الأوربية. بينما الفاسيون كانوا يجدون عائقا كبيرا في افتقار فاس، عاصمة المغرب، إلى ميناء يمكنهم من احتكار السلع والتحكم في أسعارها، وكانوا يلجؤون بدل ذلك إلى الحصول عليها من ميناء الدار البيضاء والجديدة على وجه الخصوص. حتى أن مقتنيات الأثاث الأوربي لكبار التجار الفاسيين كان يأتي تحديدا من ميناء الجديدة أو طنجة في بعض الأحيان، وهذا المعطى تؤكده مراجع كثيرة.
أما ميناء الناظور فلم يكن الفاسيون يسيطرون عليه، ولجؤوا بدله إلى نقاط أبعد، وهو ما أجج الهوة بينهم وبين التجار الناظوريين. ليأتي الحريق الغامض الذي التهم ميناء الناظور وتضرر بسببه تجار المدينة وأعلن بعضهم إفلاسهم، بسبب الإتلاف الكامل لسلعهم التي كانت ترابط في الميناء في انتظار تعشيرها على يد الجمارك المخزنيين.
هذا الحادث التي تقول بعض المراجع التاريخية الرسمية وغير الرسمية إنه وقع في مناسبات أخرى، بعد وفاة المولى إسماعيل وعلى عهد المولى عبد الرحمن أيضا، إلا أن الخلاصة تكمن في أن المغرب كان يحمي حدوده الجمركية جيدا، ولم يكن يتم السماح للسلع الأوربية وحتى الأمريكية بالوصول إلى المغرب، إلا بعد أداء الضرائب عليها لصالح خزينة الدولة.
هذا الواقع الأمني المحكم كان ليستمر لولا أنه تعرض لاختراق خطير من طرف تجار مغاربة، مسلمين ويهود، أبرموا شراكات مع شركات أجنبية فرنسية وبريطانية وأمريكية، مكنتهم من احتكار استيراد سلع معينة، ووقعوا بشأنها اتفاقيات مع القصر الملكي في فاس، على عهد المولى محمد الرابع دائما، الذي حكم المغرب إلى حدود سنة 1859، لكنهم خانوا الثقة الملكية ومالوا إلى صالح الشركات الأجنبية وتواطؤوا معها وامتنعوا عن أداء الضرائب للدولة ومنهم من هرب إلى الخارج، كما حدث لعائلات من مدينة الصويرة، ولم يعودوا نهائيا إلى المغرب واستقروا في بريطانيا على وجه الخصوص.
هذا الخرق خلف سخطا كبيرا في أوساط موظفي المخزن الذين كانوا يشرفون على نظام «الديوانة»، ويحرصون على مراجعة لوائح وكتب ومجلدات ميناء الصويرة، وما يتضمنه من تفاصيل عن ثروة المغرب الضريبية.
المراقبة الجمركية المغربية قبل 500 عام
في سنة 1659 كانت الدولة السعدية، وهي تحتضر مائة سنة فقط بعد تأسيسها، تتوفر على نظام سيادي خاص في ما يتعلق بحماية السلع المغربية التي كانت في ذلك التاريخ يتم تصديرها إلى أوربا، خصوصا بريطانيا التي كانت تجمعها بالدولة السعدية صداقة متينة جدا.
وهكذا كان هذا النظام الضريبي يضمن للدولة المغربية بيع منتوج السكر الذي يتم تصديره من معمل عاصمتها، مدينة تارودانت، إلى الضفة الأخرى بناء على قوانين صارمة طالما شكلت هاجسا لرجال الأعمال الإنجليز، الذين كانت الملكة البريطانية إليزابيث الأولى تتدخل لصالحهم لدى الملك السعدي، لكي يمنحهم بعض الامتيازات.
كان معروفا على نظام «الديوانة» المغربية وقتها، الصرامة في استخلاص مستحقات الدولة على تلك السلع، سواء الصادرة منها أو الواردة. فقد حدث أيام المنصور السعدي أن أصابت المغاربة فترة من المجاعة المؤقتة، اضطرت خلالها الدولة إلى مقايضة السكر الذي تأتي به من دول جنوب الصحراء، مع منتوج القمح الممتاز الذي تنتجه أوربا.
حاول التجار الأوربيون، خصوصا من البرتغال وفرنسا، فرض نسبة أرباح أكبر عندما وصلت الحمولة إلى المغرب، والذي تجدر الإشارة إلى أنه كان يتوفر على نظام موانئ ضعيف جدا في ذلك العهد، لكن آخر ملوك الدولة السعدية تدخل لكي يفرض نظاما خاصا لأن المغرب في تلك الفترة كان يهيمن على صناعة السكر، وأيضا بيعه كمادة خام غير مصنعة، ووجدت الحكومات الأوربية التي كانت تتعامل معه نفسها أمام الأمر الواقع، إما خفض سعر القمح، وإما تحمل تكاليف إضافية مرتفعة مقابل الحصول على السكر الخام.
تقول بعض المعطيات التاريخية المرتبطة بالموضوع، إن هذه العملية التي تمت على عهد الدولة السعدية، كانت أول إجراء وقائي جمركي في تاريخ المغرب لإنقاذ السوق المغربي أمام التكالب الرأسمالي، الذي كان يخطط لتعميق أزمة المغاربة بسبب الجفاف.
لم يكن المغرب وقتها دولة متقدمة، ولم يكن يتوفر لا على موانئ في مستوى المنافسة التجارية ولا على طرق تسهل نقل السلع. لكن سلاح السعديين في ذلك التاريخ كان هو سيطرة الدولة على الأراضي، التي تمر منها القوافل التجارية من الصحراء لكي تصل إلى المغرب. لقد كانت مسافات بآلاف الكيلومترات المربعة، تحت نفوذ السعديين، وقبائلها تحمل في عنقها عهدا للسعديين بتأمين الطرق التجارية التي تمر منها قوافل تحمل أطنانا من المواد الأولية، التي تزخر بها دول جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى.
مدينة تارودانت لم تكن فقط عاصمة تجارية للسعديين، وإنما أيضا عاصمة علمية للدولة، بحكم أنها كانت تتوفر على كل مظاهر السيادة الواحدة من أعرق الدول التي حكمت المغرب، رغم قصر المدة التي استمرت فيها الدولة السعدية، إلا أن التاريخ سجل لها الفوز باحترام أقدم ملكية في التاريخ، ويتعلق الأمر بالمملكة البريطانية المتحدة. إذ إن البريطانيين كانوا يخطبون ود المنصور السعدي، أقوى من حكم من سلالة السعديين، ومعه كانت «الديوانة» المغربية في شكلها البدائي، تقريبا، تعيش أزهى فتراتها، بحكم أن القوانين الصارمة التي فرضت على موظفي «الديوانة» المغربية وقتها، كانت تجرم تلقي الرشاوى أو العمولات أو حتى الدخول في صفقات مع التجار الإنجليز الذين كانوا يحصلون على السكر المغربي على وجه الخصوص، وفق شروط الملك السعدي وليس بشروط ملكة أقوى دولة في العالم.
مفتشو «الديوانة» المغربية كانوا مضرب المثل قبل 120 سنة
نشرت صحيفة «التايمز» البريطانية العريقة، في شتاء سنة 1910، مشاهدات صحافية تناولت رحلات كتاب، مشاهير ومغمورين وصحافيين ودبلوماسيين، إلى المغرب. وقد تناول أحد المقاطع الذي جمعه صاحبه الصحافي «لاورنس.هـ» في كتاب، موضوع مفتشي «الديوانة» المغاربة ووصف كيفية اشتغالهم واستخلاصهم للضرائب في ميناء مدينة طنجة سنة 1907، وقد يكون بالغ ربما في وصف «كرههم» للأجانب، إلا أنه بالتأكيد قدم صورة ناطقة لما كان يجري في «الديوانة» المغربية. يقول: «وجدت في الجمارك أربعة رجال بلحى طويلة، تبدو عليهم علامات التقوى، ويتبعون دين محمد. كانوا منهمكين في عد السلع، بينما ألسنتهم تتمتم بذكر الله مستعينين بسبحة لا تفارق يد كل واحد منهم.
كانت هناك علب مفتوحة وسلع كثيرة متناثرة على الأرضية المتسخة تنتظر دورها، ليقوم الرجال التقاة بعدّها أيضا. قيل لي إن السلع تنتظر على الأرض أسابيع وربما شهورا حتى يقوم هؤلاء الرجال التقاة بعدّها، لأداء الضريبة عليها. لم يكونوا مستعجلين، ولماذا يستعجل مؤمن ليحسب أمتعة الكافر؟ ورغم تزايد عدد البضائع، إلا أن أولئك الرجال لا يفقدون صبرهم في التأني الشديد أثناء عد السلع، والتسبيح أيضا.
كانوا يجيبون على جميع الأسئلة بعبارة «إن شاء الله». هذه العبارة التي تعكس إيمانهم وتعليقهم للأمور المستقبلية وربطها بمشيئة الله أولا، والتي لا تتأثر بأي ظرف أو عائق. هذه العبارة سمعتها في مختلف الدول التي تتبع دين الإسلام، لكنني سمعتها أكثر هنا.
لا وجود لتعريفة جمركية محددة بالمغرب، بل إن الذين يحددون قيمتها يأخذون رشاوى من أصحاب السلع حتى لا يفرضوا عليها ضرائب مرتفعة.
كان أغلب الوافدين الأجانب على المغرب يحملون معهم أمتعة كثيرة ويثيرون الشفقة.
أحدهم قال: «إنه من الجيد أن يؤدي المسيحيون المال، بينما نحن نبتسم. باسم الله».
انطلاقا من تجاربي السابقة، قررت أن أعطي الرجل العجوز أربعة دولارات، وضعتها في يده ولمحت إلى أنني لا أريد وصلا عن الضريبة التي أديت. لمحت رجلا آخر اقترب من الذي ناولته المال، وجاء ليطالب بحقه من المبلغ الذي أديته للتو.
عملا بنصيحة صديقي أخفيت مسدسي داخل سروالي، حتى لا يحتسبه رجال الضريبة مع أمتعتي القليلة. وهو ما تسبب لي في صعوبة في المشي، لكن بما أنني نصراني وكافر، سيعتبرونني قد أفرطت في الشرب، لذلك أتمشى بصعوبة».
هذا هو ظهير 1901 الذي أقام به المولى يوسف انقلابا ضد الجمارك المغربية
كان السياق المغربي سنة 1900 متداخلا. كان وزير الدولة والصدر الأعظم القوي «باحماد»، في فراش المرض، لكن مستشاريه كانوا أقوى من أن يستسلموا لواقع أن سيدهم مريض. وهكذا باشروا مجموعة من الإصلاحات الانتقامية، لكنها كانت إيجابية ولصالح المغرب. خصوصا وأن هؤلاء الموظفين المخزنيين كانوا يهدفون إلى الانتقام من الأثرياء المغاربة الفاسيين، الذين كانوا لا يتوقفون عن مراكمة الامتيازات وخرق كل قواعد «الديوانة» المغربية، سواء بميناء الدار البيضاء أو بميناء طنجة، وحتى ميناء الصويرة، الذي كانت أرقام معاملاته وقتها تفوق أرقام معاملات الموانئ الأخرى.
المثير أن القانون نفسه الذي كانت تسير به «الديوانة» المغربية كانت تسير به منازل المغاربة وأسواقهم، أي إن القوانين ذاتها التي تحكم الواردات المغربية كانت تحكم صادراتها أيضا. حتى أن الدولة لما أصلحت نظام الجمارك المتعلق بما يدخل المغرب من سلع أوربية ليحد من أرباح الأوربيين، كان في الوقت نفسه يضيق الخناق على المغاربة، الذين أصبح واجبا عليهم أداء ضرائب للدولة عما يتوفرون عليه من سلع وأموال في منازلهم. وجمع الظهير المخزني كل شيء باسم «نظام الضريبة».
لم يتقبل الكثيرون نظام إصلاح الضريبة الجديد لأنه أضر بمصالح الكبار، والصغار الذين كانوا يعبرون بين الفينة والأخرى عن غضب كبير، كلما توجهت صناديق الدولة نحوهم لجمع الضرائب المفروضة عليهم، حتى لو كانت السنة سنة جفاف.
وهكذا صدر ظهير شريف في منتصف سنة 1901، سنة واحدة بعد وفاة باحماد، وبداية نفوذ تلميذه النجيب المنبهي الذي بدأ بمنصب وزارة الدفاع، لكن نفوذه كان يصل إلى «الديوانة» أيضا، بناء على شكاوى وتظلمات من الناس بخصوص استخلاص الضرائب، وقد وصف بأنه، أي الظهير «يسجل في مقدمته تظلم الرعية في تنوع شكاياتها ونسبة الحيف إلى أشياخها وولاتها ودعوى الإضرار في استخراج جباياتها»، أي إن الناس كانوا لا يزالون متضررين من الفوضى في استخلاص الضرائب والتلاعب بها. وقد وصف صاحب «مظاهر يقظة المغرب» الذي رصد فيه مجموعة من الإصلاحات، ما جاء في الظهير الشريف ولخص مضمونه في ما يلي: «ودرءا لهذا يعلن القانون الجديد توظيف مقدار محدود يدفع سنويا على أنواع البهائم والمواشي وعلى مزارع الحرث والبحاير والسواني والأشجار على اختلاف أنواعها. وبعد هذا يقرر الظهير ذاته أن هذه الجباية عمومية يستوي في أدائها الشريف والمشروف والقوي والضعيف، وحتى من كان عاملا أو شيخا أو خليفة أو نحوه يكون فيها كسائر الناس، بحيث لا يُستثنى أحد من شمولها. لذلك يقرر القانون لزوم إحصاء سائر الذكور الخاضعين لهذا الأمر بأسمائهم وأنسابهم، وبيان فرق كل قبيلة زيادة في الضبط.
والظهير يقرر إلغاء كل ضريبة أخرى يفرضها العمال ويقول في هذا الصدد: وأما العامل فلم يبق له سبيل على فرض شيء عليكم. أو قبض أي شيء منكم ولو قلامة ظفر. كما يقرر مرة أخرى أنه حدد للعمال مرتبا من بيت المال».
هذا الإصلاح الذي شمل حد تطويق الولاة والعمال للتحكم فيهم جهويا وضمان استقلال استخلاص الضرائب عنهم، جعل العديد ممن كانوا يستفيدون من النظام العتيق يتحسسون رقابهم، لأنه في السنة نفسها كان عدد من الأعيان قد زج بهم في السجن، وعلى رأسهم واحد من أخوال الوزير بنسودة، وآخر من عائلة الصديقي وأسرة أخرى كانت على علاقة مصاهرة وطيدة مع عائلة بركاش، كلهم وجدوا أنفسهم في السجن بعد هذا الظهير، لأن سلطتهم على جباة الضرائب لم تعد قائمة. فيما نظر إليهم البعض على أنهم مجرد أكباش فداء تمت التضحية بهم لاحتواء الأزمة، بالرغم من أن الإصلاح الذي اعتمده الوزير المفضل غريط يقوم أساسا على ترتيب الضريبة، بحيث يستوي الجميع في أدائها، بالإضافة إلى إلغاء الضرائب التي يفرضها العمال، ناهيك عن تعيين أمناء لاستخلاصها بشكل حصري، وتنبيه الناس حتى يدفعوا مليما واحدا لأي مخزني، ما لم يكن من الأمناء المعنيين بالظهير.
رغم كل هذا، فإن نظام المفضل غريط لم يعمر طويلا، لأن انقلابا كبيرا وقع في السلطة جعل أيام المفضل غريط تصبح معدودة، ببساطة لأن العائلات الكبيرة لم تقبل أن يكون أبناؤها في السجون بتهمة استخلاص الضرائب بدون حق لأنفسهم وليس للدولة، وهو ما جعل العلاقات والمصاهرات تتحرك لتلغي كل ما جاء به المفضل غريط، وذلك قبل حتى أن تلقي سنة 1912 بظلالها على المغرب، ويصبح الظهير نفسه الذي نظم استخلاص الضرائب وألغى سلطة العمال، في خبر كان، وتعم الفوضى من جديد.
المثير في هذا الموضوع أن هذا الإجراء أوقف النزيف ولو بشكل مؤقت في موارد الدولة المالية، وضرب على أيدي الذين كانوا يختلسون من مكاتب «الديوانة» ومن عائدات الضرائب المفروضة على السلع. لقد كانت هذه، باختصار، نبذة عن التحديات التي واجهها المغرب تاريخيا في مواجهة الفساد.
المغرب كان يتوفر على نظام موانئ وصف بـ«العجيب»
سبق لنا تناول تاريخ الضرائب في المغرب في أكثر من مناسبة، وبناء على وثائق ومخطوطات محلية اشتغل بعض الأكاديميين المغاربة على مضمونها، وبناء أيضا على وثائق من الأرشيف البريطاني الذي يضم معطيات لم يسبق نشرها عن فترات حالكة من تاريخ المغرب. ومن بين ما تم تناوله هو استخلاص الدولة للضرائب الجمركية في الموانئ.
لقد كان المولى الحسن الأول يبادر دائما إلى عقاب موظفي الجمارك في الموانئ، خصوصا في ميناء مدينة الصويرة الذي كان في عهده، سيما فترة 1880، وصولا إلى تاريخ وفاته سنة 1894، يضم سجلات بعائدات ضرائب مهمة لصالح المغرب، لكنه لا يجدها في خزينة الدولة، وفتحت تحقيقات مرات كثيرة، حتى في عهد المولى محمد الرابع، والد المولى الحسن الأول، لكنها باءت بالفشل لأن المطلوبين فيها كانوا يفرون من المغرب نحو دول أوربية، وكان بينهم تجار مغاربة يهود ومسلمون أيضا، مخافة أن يتعرضوا للعقاب. وجل هؤلاء التجار كانوا يتوفرون على محلات بميناء الصويرة أو الدار البيضاء. ولم يكن الأمر مقتصرا فقط على التجار، وإنما على عمال وولاة اكتشف القصر أنهم كانوا يتلاعبون بالضرائب التي يستخلصونها من الموانئ والتجار أيضا. وهكذا وجب تفعيل مبدأ العقاب.
أربع سنوات فقط بعد وفاة المولى الحسن الأول سنة 1894، وفي الوثائق التي جمعها مخطوط «مظاهر يقظة المغرب»، جاء أن إصلاحات الوزير المغربي المفضل غريط همت أحكام ضريبة الترتيب التي كان يخطط لتفعيلها في المغرب. وقد كان صارما في الإصلاحات التي اقترحها، إلى الحد الذي جعله يقترح سن عقوبات صارمة تستهدف الولاة والعمال، في حالة ما لم يسيروا على نهجه ولم يطبقوا نظامه في المناطق التي يسيرونها. حتى أنه سن فصلا خاصا بعقاب الولاة والعمال، إن ثبت أنهم لم يطبقوا الإجراءات المقترحة بحذافيرها.
فيما كان هناك فصل خاص، وهو السادس في الترتيب يتناول موضوع العقوبات، وقد استنبط أغلبها من الشريعة الإسلامية لمعاقبة أصحاب المخالفات والجرائم. وخصص الفصول المتبقية لنظام صارم في تنظيف الأزقة والمدن، في إطار تدبير مصاريف الدولة وتخصيص الميزانيات حتى يرصد الاختلالات السابقة، التي كانت تصرف فيها أموال الدولة سنويا بدون هيكلة واضحة للقطاعات التي تصرف فيها.
هذه النقطة بالذات جرت عليه غضبا كبيرا، لكن لا أحد كان يجرؤ على مواجهته، لأنه كان مدعوما من السلطان نفسه بشكل مباشر. سبب الغضب أنه أغلق جميع المنافذ السابقة التي كانت تخصص لها مصاريف عشوائية، كانت تستغل من طرف المتلاعبين بأموال الدولة، وقد كان السجن مصير كل الذين ثبت أنهم كانوا يختلسون أموال الدولة أو يتصرفون في أموال الضرائب واستخلاصها. فيما نفذ الحد على عدد كبير من الذين كان يتم إيقافهم بتهم السرقة وتهديد أمن الناس، مثل قطاع الطرق والقبائل المتمردة، وحتى الذين يفرضون إتاوات في معابر الطرق المؤدية إلى المدن أو في مخارجها.
هذا الإصلاح، رغم صرامته فقد لاقى استحسانا من موظفي المخزن الصغار، لأنه اعتمد تحسينا لأجورهم وتنظيما لطرق صرفها، بعد أن كانت تتأخر عنهم لأشهر، علما أنها كانت تصرف لهم بشكل سنوي وهو ما كان يفتح الباب أمام الفوضى، خصوصا أن موظفي المخزن القدامى كانوا يرجعون سبب تأخر صرف أجورهم السنوية إلى التجاوزات التي كان يقترفها الموظفون الكبار، ويبيحون لأنفسهم الحصول على أموال مباشرة بدعوى أن أجورهم تُنهب مع الضرائب.
لقد كان البر المغربي مرتبطا إذن بالبحر، وما كان يجري من فساد في «الديوانة» بالموانئ، كان يؤثر أيضا على نظام الضرائب بأكمله.