قد يكون الانتماء إلى الأوطان والبلدان محددا أساسيا لوجدان الإنسان وتركيبته النفسية والعاطفية، ومن خلال ذلك يبني جل مواقفه ومشاعره الخاصة. ولأن لكل قاعدة استثناءاتها المحدودة تبرز إمكانية ارتباط الإنسان بأكثر من وطن وهوية يؤثران معا في شخصيته بنسبة تقل أو تكثر بحسب الظروف والأحوال، ففي الأدب نجد نماذج لهذه الاستثناءات، فالروائي الروسي فلاديمير نابوكوف (1899-1977) Vladimir Nabokovلخص تضارب الانتماءات التي شكلت شخصيته:«أنا كاتب أمريكي، ولدت في روسيا، وتعلمت في إنجلترا، حيث درست الأدب الفرنسي قبل الانتقال إلى ألمانيا لمدة خمسة عشر عامًا، فرأسي يتحدث الإنجليزية، وقلبي يتحدث الروسية، وأذني تتحدث الفرنسية».إن كل تلك المؤثرات قد أسهمت في بناء عوالم رواياته مثل«لوليتا»ورواية«النار الشاحبة»ورواية«دعوة إلى جلسة قطع الرأس»التي يدور محورها العام حول جريمة اعتباطية غير معقولة والحكم بقطع الرأس في سجن يماثل هو الآخر عبثية الأحداث. وككل روايات نابوكوف تتميز بأسلوبها في البناء والتركيب المعقد لشكلها الفنيولا تخلو من مفاجآت وتعليقات جانبية ذكية ومذهلة تشد القارئ.
أما الروائي والرسام والناقد التشكيلي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا(1920-1994)، الذي ساهم رفقة الروائي عبد الرحمان منيف في تقديم أعمال روائية أساسية في الرواية العربية الحديثة، فارتبط بوطنه الثاني العراق حيث كان له تأثير كبير في وجوه الحداثة الأدبية والفنية ورموزها، من السياب إلى البياتي والجيل الجديد سركون بولص... رغم قوة هذا الانتماء، يلاحظ صديقه عبد الرحمان منيف: «جبرا منذ وصل العراق كان يقول بجهير الصوت أن العراق امتداد للوطن الذي يحبه ويؤمن به. لكنه ليس بديلا عن فلسطين، أرض الزيتون، الأمر الذي جعله في منتصف المسافة بين القبائل، وهذا ما سبب له مقدارا غير قليل من صعوبة التصنيف، وتاليا التقييم». لكن سيرة جبرا«شارع الأميرات» تظهر مدى عمق ارتباطه بالعراق عموما وبالنخبة المثقفة والفنية خصوصا.
لعل الروائي عبد الرحمان منيف أوضح مثال لتعدد الانتماء وتضاربه أحيانا. فهو من أب سعوديوأم عراقية، درس بالأردن والعراق ثم مصر وبأوروبا الشرقية. تنقل بين العديد من المنافي وعاش أواخر حياته في دمشق حيث توفي. حياته وأدبه الروائي مثلا التيه العربي في أجلى معانيه، وعلى حد قوله:«لأنني مجهول من ناحية«انتسابي»إلى قطر معين أو آخر، فهي ميزة لأني أنتسب فعلاً إلى منطقة واسعة وأعتبر نفسي ابناً لهذه المنطقة».في «سيرة مدينة»، يعود عبد الرحمان منيف إلى عمان بالأردن ليسترجع ذكريات الحرب العالمية الثانية ومرحلة دراسته الأولى.
الشاعر آلانبوسكي(1919-1998)Alain Bosquet شخصية كوسموبوليتية بامتياز، فهو روسي وأوكراني مولدا وبلغاري طفولة، بلجيكي جذورا ودراسة، وفرنسي ميولا وتجنسا. عاش فترة في أمريكا واصطبغ عالمه الشعري بكل هذه المؤثرات، وجعلت منه صوتا شعريا مختلفا في المشهد الشعري الفرنسي.
فلاديمير نابوكوف.. دعوة إلى جلسة قطع الرأس
الفصل الأول
وفقا للقانون أعلن حكم الإعدام إلى س. سنسيناتوس بهمسة. نهض الجميع وتبادل الابتسامات. وضع القاضي العجوز فمه قريبا من أذنه ولهث للحظة، ثم أدلى بهذا الإعلان وتحرك ببطء بعيدا، كما لو كان يفك نفسه. عندئذ أخذ سنسيناتوس مرة أخرى إلى القلعة. كان الطريق يتلوى حول قاعدتها الصخرية ويختفي تحت البوابة مثل ثعبان في صدع ما. كان هادئا إلا أنه احتاج لأن يسندوه أثناء سيره عبر الممرات الطويلة نظرا لأن خطاه لم تكن ثابتة كطفل تعلم المشي لتوه أو كأنه على وشك الانهيار تماما كرجل يحلم بأنه يمشي على الماء انتابه فجأة شك: ولكن هل هذا ممكن؟ استغرق روديون السجان وقتا طويلا لفتح باب زنزانة سنسيناتوس، لقد جرب المفتاح الخطأ وكانت هناك الضجة المعتادة. وفي الأخير أذعن الباب. وفي الداخل كان المحامي ينتظره مسبقا. كان يجلس على السرير وغارقا في التفكير من دون معطف زيه الرسمي(الذي نسيه على كرسي في قاعة المحكمة، كان يوما حاميا، يوما أزرق من كل النواحي)ووثب بنفاد صبر عندما أُدخل السجين. ولكن سنسيناتوس لم يكن في مزاج للحديث. حتى لو كان خياره البديل أن ينعزل في هذه الزنزانة بثقب بابها الذي يشبه فجوة في قارب فهو لا يبالي، طلب أن يترك لوحده وهكذا أذعن الجميع لرغبته وغادروا.
وهكذا من النهاية. الجانب الأيمن لا يزال جزءا غير مختبرا من الرواية والذي كان خلال قراءتنا المبهجة يجعلنا نشعر بخفة عبر اختبار آلي ما إذا كان لا يزال هناك الكثير المتبقي أم لا(وأناملنا التي لطالما سعدت بالسمك الهادئوالمؤمل)ستصبح فجأة، من دون أي سبب على الإطلاق، ضئيلة تماما، بضع دقائق من القراءة السريعة، التي تمت بخفة... ويا للفظاعة! كومة الكرز التي بدا لنا شكلها أحمر داكنا وأسود لامعا اصبحت فجأة ثمارا منفصلة فإحداها هناك ذات الندبة فاسدة قليلا وهذه ذابلة وجافة منكمشة حول نواتها(وتلك الأخيرة قاسية وغير ناضجة بلا شك)يا للفظاعة! خلع سنسيناتوس سترته الحريرية وارتدى ثياب نومه وضرب رجله قليلا ليوقف الارتجاف وبدأ بالمشي داخل الزنزانة. لمعت على الطاولة ورقة فارغة وقد برز بوضوح أمام هذا البياض، قلم رصاص مبري بعناية يشبه حياة أي رجل عدا سنسيناتوس، تلمع سطوحه الخشبية الستة. نزل أصبع السبابة لأسفل، وكتب سنسيناتوس:«على الرغم من كل شيء كانت لدي هواجس، هواجس بشأن هذه النهاية»كان روديون يقف على الجانب الآخر من الباب ويرمقه بانتباه قائد صارم من خلال ثقب الباب. شعر سنسيناتوس بقشعريرة باردة خلف رأسه. شطب ما كتبه للتو وبدأ يظلل الورقة بهدوء وبدأت تظهر تدريجيا زخرفة جنينية وتحولت إلى قرن كبش. فظيع! حدق روديون عبر الكوة الزرقاء إلى الأفق كانت ترتفع تارة وتنخفض أخرى. من أصيب بدوار البحر؟ سنسيناتوس. اندفع بقوة وهو يتعرق، كان كل شيء غارقا في الظلام وكان بإمكانه أن يحس بكل مسام شعره. دقت الساعة-أربع أو خمس مرات- تصحبها ذبذبات وذبذبات أخرى وأصداء مرتدة تليق بسجن. صوت أقدام، بينما أنزل عنكبوت(كان الصديق الرسمي للسجين)نفسه على خيط من السقف. ومع ذلك لم يطرق أحد على الجدار، حيث كان سنسيناتوس حتى الآن هو السجين الوحيد(في كل هذه القلعة الهائلة!).
جبرا إبراهيم جبرا.. شارع الأميرات
... حال استقراري في دارنا الجديدة، عدت إلى هوايتي الرياضية، المشي. واكتشفت أن قربنا من شارع الأميرات جعل الكثير من الناس يطلقون على شارعنا التسمية نفسها. ولكن عن غير حق، بالطبع، سوى ما اعتاد أهل بغداد من إطلاق تسمية يحبونها على شارع ما، وسرعان ما يروحون يطلقونها على الشوارع المجاورة أيضا. فقبل ذلك ببضع سنوات كنا نسكن في الأعظمية في شارع يدعى«شارع طه»قرب جامع ومخفر فاروق، وأدركت يومئذ أن شارع طه الحقيقي كان في الواقع على مسافة من شارعنا، وقد سمي باسم الفريق طه الهاشمي الذي سكن فيه سنينا طويلة. ثم انتشرت التسمية على عدد من الشوارع المجاورة له، بما فيه شارعنا. والطريف في الأمر أن شارع طه نفسه كان اسمه الرسمي، حسب لافتة أمانة العاصمة المعلقة في بدايته«شارع الخنساء»ولكن الاستعمال الشعبي كان أشد التصاقا به من كل تسمية رسمية، حتى اليوم. وشارع الأميرات بالذات، إنما اكتسب اسمه شعبيا من الأميرتين الهاشميتين اللتين كانتا من أوائل من بنى فيه دارا سكنية، وهما الأميرة بديعة، ابنة الملك علي، وهي الأخت الصغرى للأمير عبد الإله، الذي كان وثيق الصلة في الأصل بتحويل البستان الكبير في منطقة الداودي إلى الحي الذي أطلق عليه اسم حي المنصور. وكانت الأميرة الأخرى هي الأميرة جليلة، ابنة الملك علي أيضا، وزوجة الشريف حازم. والداران كلتاهما مازالتا قائمتين، بلونهما المميز المائل إلى الصفرة... أما الدار الأصغر، المجاورة لها مباشرة، فقد تقلبت عليها الأيدي إلى أن غدت اليوم محل مزادٍ علني معروف. وتسمية الشارع، فيما أرى، موفقة. فهي مأخوذة عن أوائل من سكن فيه أو أشهرهم(وهذه قاعدة اتبعتها مدن كثيرة في أقطار أخرى في تسمية شوارعها الجديدة)وهي تليق بشارع جميل هو من أجمل شوارع بغداد وأشدها وقعا في النفس، يتميز بانفتاح معظمه من ناحيتهالغربية على امتداد الأراضي المكشوفة التي أنشئت فيها ساحة السباق وملحقاتها. كما يتميز بمبانيه السكنية الأنيقة القائمة على الناحية الشرقية منه، والجزء الجنوبي من ناحيته الغربية. ولئن تظلل أشجار النخيل قسما من امتداده الجنوبي، فإن معظم رصيفيه مظلل بأشجار اليوكالبتوس الوارفة، وقد علت وكبرت مع الزمن، ومازالت بخضرتها الدائمة على مر الفصول تعطي الشارع مهابة ونضارة هو أهل لهما، إضافة إلى ما يتمتع به من هدوء أقرب إلى هدوء الريف، لأن المركبات العامة تكاد لا تدخله، مما يجعل هواءه-مع انفتاح أحد جانبيه على حقول السباق الخضراء-رقيقا، عذبا. وفي ذلك مزيد من الإغراء بالتنزه فيه. فضلا عن جمال منظوره المستقيم من خلال الأشجار. وهو لا يتعدى الكيلومتر الواحد إلا بقليل... والمعروف أن مهندسا هنديا في البستنة كان يعمل في الحبانية في الأربعينات ساهم في بستنة هذه المنطقة. واستورد لها من الهند اليوكالبتوس، طارد البعوض، وضروبا شتى من أشجار الزينة الاستوائية التي غدت فيما بعد جزءا ظاهرا من حدائق المدينة. وكان ذلك استمرارا بتقاليد استيراد فسائل الأشجار والنباتات من الهند بكثرة منذ العشرينات.
ص 93ص 94ص95
عبد الرحمان منيف.. سيرة مدينة
فجأة بدأ«تزريق»الشبابيك، وأخذت الدوريات تجوب عمان ليلا لكي تتأكد أن الأضواء لا تتسرب إلى الخارج، وأن الجميع ملتزمون بالأنظمة الجديدة التي أوجبتها ظروف الحرب !
قبل ذلك كان الحديث قد بدأ همسا، وبشكل أقرب إلى الغموض،أن الحرب قد وقعت. وأية حرب؟ أين؟ لماذا؟ من يحارب من؟ أسئلة لم يكن الكبار يجيبون عنها بوضوح، أو بطريقة ترضي فضول الصغار. والصغار الذين اندفعوا بحماس للمشاركة في عملية«التزريق»ثم أصبحوا كل شيء في هذه العمليات، إذ كانوا يذيبون«النيلة»في الماء ثم يطلون الشبابيك ومناور الأبواب، ما لبثوا أن شعروا بخيبة الأمل: أين هي الحرب؟ لماذا لم تصل؟
وإذا كانت العادة ألا يجاب عن أسئلة الصغار، فإن أسئلة المسنين لا يمكن أن تمر دون جواب. فالجدة حين رأت الحركة النشيطة حولها، ورأت الحذر، الأقرب إلى الخوف، في الكلام والتصرفات،سألت في إحدى الليالي، وبطريقة لا تخلو من غضب: شنوصاير بالدنيا؟
وحين تطلعت إليهاالعيون باستغراب لا يخلو من لوم، تابعت: الأتراك وخلصنا منهم ومن مصايبهم، هسا منوبعد؟ وعلى ويش يتحاربون؟
وتبرع أكثر من واحد ليشرح للجدة عن الحرب التي وقعت منذ فترة، وعن احتمال امتدادها ووصولها إلى هنا، وبالتالي لابد من الحيطة، بما في ذلك الالتزام بالتعتيم وعدم الحديث بصوت عالٍ...
... كان عدد الراديوات في عمان، ذلك الوقت محدودا، وفي بيوت الأغنياء فقط. وهذه الأجهزة، بالإضافة إلى قلة عددها، ورغم حجمها الكبير،«لا تسحب»إلا محطات قليلة، كانت محطة الشرق الأدنى إحداها. بالمقابل كان الكثيرون يريدون سماع محطة برلين. وهذه المحطة ليس من السهل التقاطها، إضافة إلى كونها ممنوعة، ولذلك كانت تتخذ الاحتياطات الكثيرة أثناء سماعها، إذ يجب أن يوضع الراديو في غرفة داخلية، وليس في غرفة الضيوف، كما هي العادة، ويجب أن تراقب بدقة الشوارع والدخلات التي تؤدي إلى البيت. كان الصغار هم الذين يتولون المراقبة، إذ يحتمل أن تتم عمليات المداهمة في أية لحظة، ومن شأن ذلك التعرض لعقوبات قد تكون قاسية، بما في ذلك مصادرة«الجهاز».
... لقد كان الراديو الوسيلة الأساسية لمتابعة أخبار الحرب. كان صوت يونس بحري من راديو برلين يثير الطرب وهو يقول«حي الغرب» وكان هناك متخصصون في سماعه ونقل ما يقوله إلى الآخرين، مع إضافات وتعديلات يرونها مناسبة، أو تلائم الذين تلقى عليهم. فهتلر حين ينقل اسمه إلى الآخرين يصبح أبو علي، ويصبح اسم ستالين أبو يعقوب. أما أخبار الحرب فتتلخص بكلمات قليلة:«قوات المحور تتقدم، تكتسح، تتوغلرومل يزحف، يسيطر، وقوات الحلفاء تتراجع، تنهزم»وهكذا.
ورغم أن الأردن، رسميا، كان إلى جانب الحلفاء، وأعلن دخوله الحرب، إلا أن عواطف الناس، بصورة عامة، كانت إلى جانب ألمانيا، ويمكن فهم وتفسير هذه العواطف بسهولة، فالموقف تجاه اليهود أبرزها، يضاف إلى ذلك أن النظرة نحو الإنكليز، وإلى الفرنسيين، لم تكن ودية، بل معادية، نظرا لكونهما المستعمرين المباشرين. ثم إن مجيء عدد إضافي من الإنكليز في هذه الفترة، وتعزيز بعض الوحدات، خاصة قوات البادية، والتي كانت الزرقاء مقرا لها، جعل الناس يتخوفون ويتحسبون أكثر من قبل.
كان الراديو إذن الوسيلة الأولى والأهم في متابعة أخبار الحرب، ومع أن... تجارا أقاموا، منذ وقت مبكر، مولدات كهربائية لم تصل إلى الكثير من البيوت، نظرا للكلفة العالية لقاء«الساعة»والتمديدات. لذلك فإن البيت الذي تنيره الكهرباء وفيه راديو لابد أن يقصده كثيرون من الأقارب والجوار. ومعنى ذلك أعباءومصاريف قد تحتمل في الظروف العادية. لكن في زمن الحرب، ومع تزايد المصاعب تصبح مرهقة. وهذا ما بدأ يشعر به الناس يوما بعد آخر.
ص 71ص 72ص 73 ص 74
الشاعرآلانبوسكي.. زحمة هويات
1- مابين القصيدة وطابع بريد
الشعر في كل مكان. القصيدة في الكلمات وليست في أي مكان آخر. أستطيع أن أقول بأني ولدت بوعي بين القصيدة وطابع بريد. كان ذلك في«فارنا»المرفأ البلغاري على ساحل البحر الأسود سنة 1923. كان عمري أربع سنوات والدي ألكسندر بيسك، الشاعر القادم من روسيا هربا من الثورة، بلا موارد، والذي كان يمارس أعمالا صغيرة ويقتحم بصعوبة مجال تجارة الطوابع البريدية. في الماضي حوالي سنة 1907 كان قد ترجم إلى الروسية لمشاهير الشعراء أمثال ستيفان مالارميه، بول فيرلين، آرثور رامبو، إميل فيرهارين... كان يقرأ علينا الشعر أنا وأمي في الغرفة الوحيدة التي نسكنها. أستطيع القول بأني عرفت الشعر قبل النثر، وهذا لم يفارقني أبدا.
2- من البلقان إلى بلجيكا
في سنة 1925 قرر والدي بأنه ليس ممكنا تنشئة ابن في البلقان فرحلنا إلى بلجيكا، بلد أجداده. درست كما يجب اللاتينية والانجليزية والألمانية والرياضيات والتاريخ والفيزياء. كنت تلميذا مجدا وجديا، وكنت أحتفظ للشعر بمحبة سرية ومنذ السنة الرابعة كنت أعرف كل مؤلفات شعرائي المفضلين في تلك الفترة من أواسط الثلاثينات: جيرار دونرفال، شارل بودلير، وبول فاليري. أعتقد بأني لم أغير وجهة نظري رغم أني كنت منجذبا إلى اكتشاف شعراء أكثر معاصرة، ومثل أي طفل في عمري كتبت نصوصا مقفاة وسطحية، وقلدت خصوصا في البداية فرانسيس جيمس الذي كان يبدو لي حيويا وعاطفيا... اليوم لدي أذواق أكثر تعقيدا.
3- الحرب
انخرطت في الجندية في العاشر من ماي سنة 1940، شاركت في الحرب بداية في الجيش البلجيكي، بعدها في الجيش الفرنسي. عرفت الذل والجوع في فرنسا الفاشية التي غادرتها سرا في نهاية سنة 1941. وجدت نفسي في نيويورك سنة 1942 حيث أشرفت على إدارة الصفحات الثقافية للجريدة الديغولية«صوت فرنسا»، هذا العمل سمح لي بلقاء أكثرية الكتاب والعلماء الذين كانوا لاجئين في الولايات المتحدة الأمريكية، من بينهم ثلاثة شعراء شجعوني على الكتابة، إما بتأثيرهم المباشر أو بحضورهم القوي. أذكر من بينهم موريس مايترلينك، جول رومان، وعلى الخصوص أندري بروتون، هذا الأخير كشف لي عن طاقة الحلم والمظاهر اللاواعية للطبيعة الإنسانية. كان كذلك قد نشر لي أولى قصائدي المتميزة تقريبا، وكان عمري حينها ثلاثا وعشرين سنة.
4- الحاجة الماسة إلى الواقع
كنت منجذبا في البداية إلى الصورة والمجاز المعاصر، والاستعارة الغريبة نوعا ما. كان جول سوبرفيل وبول إيلوار بمثابة نموذجين لي. لكن هذه القريحة الغنائية والبعد عن العصر لم يكن لهما أن يستمرا. فالأحداث التراجيدية والمأساوية كانت قد وضعت حدا لكشوفاتي الفكرية. جئت إلى لندن صحبة الجيش الأمريكي منذ خريف 1943، وشاركت مشاركة فعالة في التحضير«للجبهة الثانية»داخل مقر القيادة العامة العليا. واتضح لي أنه من الضروري أن أتخلى عن السوريالية وأن أستخدم قصيدتي في الصراع من أجل الحرية. هكذا فهمت دوري حينما نزلت إلى شاطئ النورماندي من أجل مطاردة العدو حتى برلين، حيث وصلت مع الطلائع الأولى للجيوش الغربية. حتى لما استتب السلم تحددت مرة أخرى هذه الضرورة بعد هوريشيما في غشت 1945. كان علي أن أنشد أو أن أبكي الخطر النووي، وكل ما كان يعلن عن تغيير في وضعية الإنسانية. وجودية جان بول سارتر لم تتركني غير مبال، فأنا بطريقة ما طفل للعبث، ومع ذلك أنا أطالب ببنوة أخرى: فإذا كان الإنسان يعيش حياة منقلبة وقلقة وفي السؤال المستمر، فإن عليه أن يتمكن من التغلب على ذلك.
5-فاعلية الأحجية
هنا تدخلت بالنسبة لي منذ 1955 تقريبا فاعلية الأحجية، تلك التي لم أتوقف عن تمجيدها منذ ثلاثين سنة، ليست بتلك الأحجية التي تنوم الأطفال أو تحول أنظارهم عن الواقع. إنها تفيد في التعويض عن الإحساس بالعبث. أليس لنا ـ نحن الشعراء ـ الحق في ابتكار علاقات جديدة بين الإنسان والكون، بين الإنسان والمادة، بين الإنسان ولغته، بين الإنسان والإنسان ذاته؟أجرؤ على الاعتقاد بأن قصيدتي تسمح بهذه الإعادة لابتكار الإنسان خارج حدوده الجسدية والنفسية. إني أراهن على مصائركم، فلا العلم ولا المنطق بإمكانهما القيام بهذه المهمة، بينما القصيدة قادرة على ذلك، إذا ما كانت في نفس الآن بسيطة، مباشرة وطموحة.