باتريك ابرام سيل صحافي بريطاني وكان كاتباً متخصصا في شؤون الشرق الأوسط. وكانت كتاباته تتابع من طرف جميع أطراف المشهد السياسي في دول الشرق الأوسط. كان مراسلاً سابقاً لصحيفة الأوبزرفر، التقى العديد من زعماء وشخصيات المنطقة. كما كان سيل وكيلا أدبيا وتاجرا فنيا.
ينتمي باتريك سيل إلى جيل الصحافيين البريطانيين الذين عايشوا من قُرب أحداثَ المنطقة العربية وانغمسوا فيها. ساعده تخصصه في تاريخ الشرق الأوسط من جامعة أكسفورد على اكتساب الخلفية الأكاديمية. ومثل ديفيد هيرست وروبرت فيسك وسواهما من الصحافيين، كانت معايشته الدقيقة لأحداث منطقتنا سمة غالبة على مقالاته وحواراته. لم يكن متابعاً فقط من موقع الصحافي الأجنبي أو حتى من موقع المؤرخ، بل كان يعتبر نفسه في معظم الأحيان شريكاً في القرار، من خلال الأحكام والتقويمات التي كان يوفرها في تغطيته للأحداث أو كتابته عنها. وهكذا، تحولت كتبه إلى مراجع، سواء تعلق الأمر بحافظ الأسد أو برياض الصلح أو أبو نضال، إضافة إلى مساهمته في صياغة كتاب «مقاتل من الصحراء» الذي يروي فيه الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز جزءاً من سيرته الذاتية وصولاً إلى دوره في حرب تحرير الكويت، كما كانت لسيل مواقف واضحة في دعم القضية الفلسطينية وانتقاده إجراءات الاحتلال الإسرائيلي وسياسات الاستيطان.
متخصص في الصراع العربي الإسرائيلي
عندما يذكر اسم باتريك سيل يبقى مرتبطاً، بصورة أو بأخرى، بتطورات الوضع السوري، فكتابه «الأسد والصراع على الشرق الأوسط»، أصبح مرجعاً لا غنى عنه لكل باحث في التاريخ السوري في مرحلة حكم حافظ الأسد وما رافقها من صراعات داخلية وإقليمية بين سورية وجيرانها، والأمر نفسه بالنسبة لكتابه «الصراع على سورية».
وربما بسبب ما حققه الكتابان وما حظي به سيل من تقرب من الأسد ومن دائرة القرار السوري في ذلك الحين، شعر أنه مدين بالوفاء لسورية، وظل يدفع تكاليف هذا الدّين حتى النهاية، وهو ما يفسر الخلاف الذي يدور اليوم، بعد غيابه، حول ما يعتبره البعض مواقف باتريك سيل التبريرية للنظام السوري، مع أنه كان واضحاً في انتقاداته طريقةَ مواجهةِ هذا النظام الثورةَ السورية منذ انطلاقها في درعا، كما لم يُعرف أنه كان على صلة أو قرب من نظام الأسد الابن.
نشر باتريك سيل بعد كتابه «الصراع على سوريا» أربعة كتب أخرى، ليكون خامسها «الصراع على الشرق الأوسط» الصادر سنة 1988، والذي يقّدمه سيل بقوله «هذا الكتاب محاولة لتصوير العالم حسبما يُرى من موقع الحكم في دمشق». وينوّه بعدها إلى أنه ليس سيرة رسمية لحافظ الأسد، لكنّ لأحاديثه معه على امتداد عدة سنوات دورًا أساسيًا في إنجازه.
ينقل الكتاب الكثير من المعلومات والمواقف التي رواها لباتريك سيل أشخاص بارزون في نظام الحكم الأسدي فترة الثمانينيات، منهم مصطفى طلاس وفاروق الشرع وبشرى وباسل الأسد، إضافة للمتحدث الأساسي حافظ الأسد. ويقع الكتاب في 800 صفحة مقسمة إلى قسمين أساسيّين: الثوري، والزعيم. وتقع بمجملها في 27 فصلًا.
أصل الصراع في سوريا
يستهل باتريك كتابه بالحديث عن تاريخ عائلة الأسد بدءًا من جده سليمان، وكيف تحوّل لقب العائلة من الوحش إلى الأسد، الحياة في الجبل وصعوبتها ومعاناة العلويين التي ألجأتهم إلى أعالي الجبال، لينتقل الحديث بعدها عن حافظ وعائلته، وإتاحة الظروف له للتعليم ومن ثم انخراطه في مجال السياسة وانتسابه لحزب البعث متأثرًا بشخصية زكي الأرسوزي ليدرس بعدها في الكلية الحربية.
في القسم الثاني من الكتاب يتناول باتريك «زعامة» حافظ الأسد، مع الظروف الدولية المحيطة به وعلاقاته الخارجية، كعلاقاته مع السادات وكيسنجر وكارتر، ومن ثم وقوفه بصف الثورة الإيرانية والخميني.
ويأتي الكتاب في فصل لاحق، تحت عنوان «العدو الداخلي»، على ذكر أحداث الثمانينيات وتمرد الإخوان المسلمين على السلطة، مع تناول «خجول» للمجازر التي وقعت فيها، حتى أُخمد أي صوت متمرد في سوريا.
وإذا أردنا أن نورد اقتباسًا يوضح منهج باتريك سيل في كتابه فسيكون:
«لم تحظ سوريا في تاريخها بمثل هذه الأهمية وبأن تكون مركز ثقل سياسي إلا في العهد الأموي قبل اثني عشر قرنًا، ورغم هذا فإن منجزات الأسد لا تزال بادية الهشاشة، فأعباء التصدي للمصاعب إنما تقع كلها على كاهل رجل واحد وهو الأسد بالذات».
الكتاب مهمّ للغاية لدراسة فترة حكم الأسد وشخصيته، رغم عدم حيادية الطرح وما يحتويه من ميل واضح للأسد وذكره للأحداث حسب الرواية الرسمية لها، فمثلًا يشير سيل نقلًا عن حافظ إلى أن سليمان الأسد قاتل ضد الفرنسيين، في حين نشرت الخارجية الفرنسية سنة 2012 وثيقة محفوظة برقم 3547 وبتاريخ 15 يونيو 1936، أرسلها وجهاء علويون لرئيس الحكومة الفرنسية، ليون بلوم، يطلبون فيها استمرار الانتداب الفرنسي خشية ضياع حقوق الأقلية العلوية.
رَحَل باتريك سيل عن عمر يناهز الثالثة والثمانين، بعد معاناة مع المرض. والحقيقة أنه لا يوجد صحافي غربي مثله استطاع أن يؤثرَ على الرأي العام الدولي، من خلال مقالاته التي كانت تظهر في الكثير من الصحف الغربية والعربية ومن أهمها «الأوبزرفر»، ويقدّمَ عن العالم العربي الإسلامي نظرة مختلفة عن السائد في الصحافة الغربية، خصوصاً ضد الرؤية الرسمية البريطانية. وقد اصطدمت آراؤه ومواقفه السياسية، وهو المؤازر لحركة التحرر العربي، مع الرؤية الكولونيالية البريطانية التي ساهمت إلى حد بعيد في رسم خريطة المنطقة التي لا تزال آثارُها نشيطة.
أفضل غربي فهم جذور القضية الفلسطينية
مَن مِنّا لم يقرأ المقالات المثيرة لباتريك سيل: «لماذا يخشى الغربُ العربَ؟» و«الأسباب العشرة التي من أجلها قَتل شارون الشيخ ياسين» و«مَنْ قَتَل الحريري؟» (وإن كان في المقالة يبرئ ساحة النظام السوري ويقول إن خصومه هم الذين ارتكبوا الجريمة) و«إيران تحدّ للجميع». جميعها مقالات تدل على انخراط هذا المُراسِل الصحافي الجدّي في صُلب الأحداث، وتشير إلى فهمه الكبير للرهانات السياسية في هذه المنطقة المشتعلة.
في وقت مبكر، استطاع الحصول على ثقة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد (الذي لم يكن يَثق في أحد)، الخارج توّاً من انقلابه «التصحيحي»، والممسك بزمام السلطة في سورية، فكرّس له كتاباً عن «الصراع على الشرق الأوسط» كتب فيه سيرة الرئيس حافظ الأسد إلى غاية سنة 1987، مانحاً إياه أهمية لم يكن ينتظرها الطاغية السوري، وجعل منه الأسدُ، في المقابل، متخصصاً لا مثيل له، هو الآخر، إن في الشؤون السورية، أو في القضايا العربية والإسلامية. ولم يكن الأسد يدري، وهو يتلفظ بجملته الأخيرة «ولا يزال الصراع مستمراً» (كما اعترف سيل)، أنها تعني، ضمن ما تعنيه، صراع عائلته من أجل البقاء متحكمة في رِقاب السوريين.
أصدر الصحافي الراحل مؤلفات عديدة في هذا الشأن، من بينها «الصراع من أجل سورية» و«النضال من أجل الاستقلال العربي» و«رياض الصلح»، وفي هذا الكتاب يبيّن دور السياسي اللبناني، ويُظهِر لنا المُؤلِّف اختلاف النظرتين الفرنسية والبريطانية للمنطقة، فينحاز للرؤية البريطانية التي يقول إنها «تحترم روح الانتداب». وكتاب «صناع الشرق الأوسط الحديث».
والحقيقة أن معظم كتابات سيل عن العالم العربي، وعن القضية الفلسطينية، تعبّر عن أصالة وفهم كبيرين، فهو من أنصار إيجاد حل للمأساة الفلسطينية التي ساهمت بلاده في صنعها، وتتحمل جزءاً من مسؤوليتها. ولكنه يرى، بعمق، كيف أن التصرفات الإسرائيلية على الأرض، إضافة إلى المواقف الأمريكية والغربية من إسرائيل، وكذا حالة العرب المتشرذمة، العاجزة عن القيام بأي تأثير على الولايات المتحدة، لا يمكنها أن تؤدي إلى حلّ الدولتين. تجدُرُ الإشارة إلى أن انهماكه في معرفة خبايا الصراع العربي الإسرائيلي، ولقاءاته مع معظم أصحاب القرار السياسي في المنطقة، جعلته يخرُجُ بخلاصات تدين مشروع الهيمنة العسكرية الإسرائيلية، كما أن علاقاته مع الفاعلين المهمين في الساحة الفلسطينية، جعلته يؤلف كتاباً بيوغرافياً عن اللغز الفلسطيني «أبو نضال».
كان باتريك سيل قريباً من الفلسطينيين ويعرف ماذا تعنيه الكرامة والهوية الفلسطينية، وخصوصاً أنه وُلِد في فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، أي قبل أن تنشأ دولة إسرائيل. وهو لم يكن يُجامِل أو يتصنع الانتصار لهذا الشعب. وكَمْ كان يتألم لحالة التمزق العربي، وبشكل خاص للتمزقات الفلسطينية.
لا يمكن أن نجد لباتريك سيل شبيهاً في الدول الغربية الأخرى، من حيث تفهمه لوجهة النظر العربية، وجرأته على كتابة ما قد لا يُعجِب صانع القرار الغربي. ولكن ما يؤاخذ عليه، بحق، هو أن صداقاته في بعض الأحيان أثرت على مواقفه وقراءاته الساذجة للأحداث. فتقريظه للأسد يصيب القارئ بالإحباط، إذ يبالغ في منح صورة استثنائية للرجل. والحقيقة أن كل مستبد عربي يروقه هذا النوع من التوصيف، ويتمنى أن يكون محاطاً بهذا النوع من كُتّاب السيرة والمؤرِّخين. يرى باتريك سيل أن الأسد يشبه القائد الألماني الكبير «بسمارك» (يرى أن الأسد يقلده في سلوكياته!) في مفهوم «القوة تعلو على الحقّ»، ولكنه مفهومٌ مكيافيلّيّ بامتياز، ويعتمده كلُّ زعيم سياسي يريد أن يستمر في السلطة.
وإذا كان «بسمارك العرب» قد رحل مبكراً، في ظروف تاريخية وسياسية ملائمة (هدنة مطلقة مع إسرائيل والمساهمة في الحرب على العراق)، فإن «وريثه» لم يَنَلْ مثل هذه الحظوة. وعاش باتريك سيل ليرى، أخيراً، الشعبَ السوري ينتفض ضد الاستبداد والدكتاتورية وحُكم العائلة. وفي مايو 2011، نشر مقالاً في صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» الشهرية بعنوان لافت: «العمى القاتل لعائلة الأسد»، يرْصُدُ فيه إرهاصات الثورة السورية التي انطلقت من درعا، بعد قليل من اندلاع الثورة في تونس، في وقت كان فيه بشار الأسد يتشدق أمام صحيفة «وول ستريت جورنال» بالاستقرار في سورية ويغمز من قناة مصر وتونس.
وإذا كان الكاتب سيل، في مقالاته الأخيرة، يطالب بحل سلمي تفاوضي بين كل الأطراف السورية، فقد أدرك، أخيراً، أن الاستقرار الذي أرساه الأسد الأب كان خادعاً، وأن تحليلاته وقراءاته، هو أيضاً، عن سورية، كانت مصابة بنوع من العمى.