يعتبر ألان تورين من أهم علماء الاجتماع المعاصرين. وهو فرنسي الأصل، من مواليد سنة 1925. عمل باحثاً في المجلس الوطني للبحوث الفرنسية حتى سنة 1958، أسس مركز دراسات علم اجتماع العمل في جامعة تشيلي في سنة 1960، وأصبح باحثا في إيكول «إيتوديس» في العلوم بباريس، اشتهر بتطويره مفهوم مجتمع ما بعد الصناعي، اهتم بدراسة الحركات الاجتماعية، وكتب الكثير في هذا المجال. ويحظى تورين بشهرة واسعة في أمريكا اللاتينية وفي أوروبا، حصل في سنة 1998 على جائزة «أمالفي Amalfi» الأوربية لعلم الاجتماع والعلوم الاجتماعية، وفي عام 2004 تلقى تورين درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة «فالبرايسو» في تشيلي، وفي سنة 2006 تلقى درجة الدكتوراه الفخرية من الجامعة الوطنية في «سانت مارتن»، وفي دجنبر 2006 من جامعة كولومبيا الوطنية، وفي سنة 2008 تلقى أيضا درجة دكتوراه فخرية من جامعة «مايوردي سان ماركوس» في ليما.
تأثر ألان تورين منذ شبابه بأشكال عديدة من الرفض السياسي، ما جعل تورين سوسيولوجيا مناضلا بكتاباته التي تتميز بجدة منظورها إذا لم نقل منظورها الثوري. له عدّة مؤلفات أغنى بها المطبخ السوسيولوجي، من بينها: نقد الحداثة سنة 1998، براديغم جديد: من أجل فهم عالم اليوم 2005، الحركات الاجتماعية، ما هي الديمقراطية؟ وعدة مؤلفات أخرى.
الجيل الذهبي لعلم الاجتماع
لـم يكن تسجيل ألان تورين لاسمه في الحقل السوسيولوجي اعتباطيا وتعسفيا أو صدفة من غير مبرر موضوعي، وإنما كان ذلك تأثراً منذ شبابه بأشكال عديدة من الرفض السياسي: رفض للحروب الاستعمارية العبثية الأليمة، ورفض لاشتراكية جي موليه الخائنة ورفض لذلك الخيار الذي فرضه مالرو على المثقفين الفرنسيين بين الديجولة والحزب الشيوعي. هذه الظروف المقلقة جعلت تورين مدفوعًا للانتماء بروح النضال، والرغبة في المشاركة، والحلم بتغيير العالم.
ويؤكد تورين أيضا بأن انتماءه للسوسيولوجيا ليس دافعًا شخصيًا بل هو شرط موضوعي لقيام السوسيولوجيا كعلم. يقول تورين: إن يكن المرء عالم اجتماع اليوم هو أن يتأمل شروط وجود مجتمع جديد، والطريقة التي يمكن بها للأزمة والقطيعة من جانب، والصراعات من جانب آخر، أن تتَّحد جميعًا لوضع تنظيم اجتماعي وثقافي جديد، من العبث الحلم بمجتمع مثالي مع نسيان التمزقات والانقلابات التي توشك على الحدوث.
وفي حوار هاتفي لصحيفة «إلباييس» الإسبانية قبل أسابيع، أدلى تورين برأيه في أزمة فيروس كورونا، وعلق على وصف كل من رؤساء فرنسا وإسبانيا وأمريكا للوضع الحالي بأنه حالة حرب، قائلا إن الحرب تدور بين البشر أو دولتين على الأقل فيغزو جيش أراضي دولة أخرى. في المقابل، ما نعيشه حاليا هو مواجهة البشر لعدو لا بشري، مؤكدا أنه لا ينتقد استخدام مفردة الحرب، إلا أن ما يحدث حاليا هو حرب دون مقاتلين.
وعلى المستوى الإنساني، اعتبر تورين أننا نعيش في عالم يفتقر إلى أطراف فاعلة، وقال إنه لم يسبق له أن رأى رئيسا أمريكيا بمثل غرابة دونالد ترامب، ولا شخصية غير ملتزمة بالقواعد ولا بدورها الرئاسي بهذا الشكل، واعتبر أنه ليس من قبيل الصدفة أن تخسر الولايات المتحدة دور زعامة العالم. وفي أوروبا، نسجل غياب أقوى الدول. ولم يعد أحد يتصدر قمة هرم السلطة.
وبخصوص الأطراف الموجودة أسفل هذا الهرم، اعتبر تورين أننا نشهد اليوم سقوط الحركة العمالية، التي كانت تمثل أساس المجتمع الصناعي. ويعني هذا أنه لا وجود في الوقت الحالي لأطراف فاعلة اجتماعية أو سياسية أو عالمية أو وطنية أو طبقية. ولهذا السبب، يتناقض كل ما يحدث مع مفهوم الحرب، خاصة في ظل وجود آلة بيولوجية من جانب وأشخاص ومجموعات أخرى دون أفكار أو توجيه أو برنامج أو استراتيجيات أو لغة.
وعن سؤال وجه له حول ما إذا كان قد عاش تجربة مماثلة في حياته، أجاب تورين أن الشعور ذاته انتابه أثناء أزمة عام 1929، فقد ولد قبل هذا التاريخ بقليل، حينها اختفى كل شيء ولم يتبق أحد لا في اليسار ولا الحكومات. لكن، سرعان ما ملأ الفراغ زعيم الحزب النازي أدولف هتلر الذي تولى منصب مستشار ألمانيا عام 1933. وأضاف تورين أن أكثر ما يذهله في هذه الفترة، باعتباره عالم اجتماع ومؤرخا للحاضر، أنه لم يشعر بهذا الفراغ منذ فترة طويلة جدا، مضيفا «هناك نقص في الأطراف الفاعلة والأفكار. لا وجود حتى لعلاج أو لقاح. لا يملك العالم أسلحة، والجميع محبوسون بمفردهم».
عالم اليوم من منظور سوسيولوجي
عن ذكرياته حول الحرب العالمية الثانية، حين كان عمره 14 عاما عام 1940، قال تورين إنه بالنسبة لفتى فرنسي في عمره ذلك الوقت، لم يكن هناك ما هو أكثر ابتذالا من الحرب الفرنسية الألمانية، لقد تواجه البلدان عدة مرات. وفي الواقع، أثرت الإدارة العسكرية في فرنسا على فترة شبابه. أما اليوم فيحدث أمر مخالف، إذ يعيش العالم حالة فراغ، دون نقاش أو تحرك أو فهم. وأفاد تورين بأن العالم وصل إلى هذه المرحلة، بعد سيطرة الغرب عليه لما يقرب من خمسمائة عام، وأن الدول تؤمن اليوم بأنها كانت تعيش على مدى السنوات الخمسين الأخيرة في عالم تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية.
ويتابع «ربما سنعيش اليوم في عالم صيني، إلا أن ذلك ليس بالأمر المؤكد، فأمريكا تغرق والصين تعيش وضعا متناقضا، لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، ذلك أنها تريد ممارسة الشمولية الماوية لإدارة النظام الرأسمالي العالمي. وهكذا، نجد أنفسنا في انتقال وحشي لم يتم إعداده أو التفكير فيه مسبقا». وأضاف أن الوضع الحالي لا يثير مخاوفه الخاصة، لأن حياته تدور عادة حول البقاء في المنزل للعمل، فضلا عن أنه يشعر بنوع من الحماية في ظل ظروف عيش يتقاسمها مع الآخرين.
وفي تعليقه على إمكانية عودة القومية والشعبوية، أشار تورين إلى قرارين أساسيين أمام أوروبا، وهما التحرر بواسطة النساء، وهذا يعني سقوط العقل باعتباره مركز الشخصية، وإعادة الاعتبار للأحاسيس والتواصل، ثم تحديد الموقف من استقبال المهاجرين، معتبراً أنه في الوقت الحالي، سيحدد موقف البلدان من المهاجرين مصيرها. واعتبر تورين أنه حتى مع تداعياته الاقتصادية والعادات الاجتماعية الجديدة المبنية على التباعد وظهور أولويات جديدة، لن يغير فيروس كورونا كل المعطيات، فستكون هناك كوارث أخرى مستقبلية.
ويعتقد أننا ندخل نوعا جديدا من «مجتمع الخدمات بين البشر» كما أشار الاقتصاديون، متنبئاً بأن تدفع هذه الأزمة فئة مقدمي الرعاية إلى القمة، إذ لا يمكنهم الاستمرار في تلقي رواتب زهيدة. وفي الوقت نفسه، في ظل هذه الأزمة، هناك احتمالات بأن تؤدي صدمة اقتصادية إلى ردود فعل نعتها تورين بالفاشية.
آلان تورين وفيروس كورونا
اعتبر ألان تورين إنّ الإحساس الذي يسود اليوم جرّاء أزمة انتشار وباء كوفيد 19 (كورونا) «ربّما هو الإحساس ذاته الذي ساد إبّان الأزمة الاقتصادية في العام 1929 حينها اختفى كل شيء ولم يكن هناك أي فاعل في الساحة لا في اليسار ولا في الحكومات لكن سرعان ما ملأ هتلر الفراغ».
وأضاف، في حوار صحفي نُشِر الأحد، «ما يدهشني اليوم، باعتباري عالم اجتماع أو مؤرخا معاصرا، هو أنني لم أشعر منذ زمن بعيد بمثل ذلك الفراغ الذي ساد في 1929 مثل الآن. في الحقيقة هناك غياب الفاعلين وغياب المعنى وغياب الأفكار بل حتى الاهتمام. ليس لدينا إلى حدود الساعة علاج ولا لقاح. ليس لدينا أي سلاح. أيادينا فارغة. نحن محبوسون ومنعزلون. مهجورون. يجب علينا ألا نتصل ببعضنا البعض وفوق هذا وذلك يجب أن نلزم البيت.»
وقال، أيضا، إنّ ما يحدث اليوم هو شيء آخر لا مجال لمقارنته بالحرب العالمية الثانية. نحن في فراغ. نحن لا نتكلم ويجب ألا نتحرك بل أكثر من ذلك نحن لا نفهم ما يجري». واعتبر ألان تورين أن جائحة كورونا ستتبعها كوارث إيكولوجية كبيرة خلال السنوات العشر المقبلة كما ستؤدي إلى صدمة اقتصادية يمكنها أن تفرز ردود فعل صنّفها في خانة الفاشية.