كان للمنظر ما بعد الكولونيالي (هومي بابا) دور مهم في هذه الدراسات، إذ عد من المؤثرين في هذا الخطاب لكونه سخر للمجال النقدي ما بعد الكولونيالي عدداً من المفاهيم التي أسهمت في تفكيك الخطاب الاستعماري، وهذه المفاهيم استقاها بعد بحث مستمر في كتابات (سعيد)، وكذلك في مجالات علم النفس من خلال دراسات (فانون وجاك لاكان) النفسية.
لمع اسم هومي بابا في الدراسات الثقافية والخطاب الكولونيالي وما بعده، ودرس بما عرف عنه من دقَّة وصواب ظاهرة المحاكاة وازدواجية التكوُّن الثقافي للشخصية الإنسانية، وساعد هذا على دخوله المرن في متابعة الخطاب الكولونيالي وتكوُّناته، واستفاد كثيراً من المشتغلين في حقل دراسات ''ما بعد الكولونيالية'' من ملاحظاته وتشخيصاته حول الخطاب وحدوده وعناصره وآليات اشتغاله وتطبيقاته، وكشف عن وجود ازدواجية في جوهر الاستعمار، وأحال ذلك إلى الوجود الأول لمبدأ المحاكاة التي تنطوي على ثنائية ازدواجية أشار لها هومي في تمثيلات الخطاب الكولونيالي باعتبارها أقل من المقاييس الغربية.
وحسب المتخصصين، فقد لفتت الجهود العلمية والثقافية التي قدَّمها هومي بابا ليكرِّس مع ''فرانز فانون'' الذي سبقه درساً علمياً من غير الممكن تجاهله وإغفال مساهمته في فهم الآخر، وهذا ما أفضت إليه دراسات هومي في وصفه للآخرية عند المستعمِر الذي اعتبره مختلاً نفسياً، ليس على مستوى الأفراد والجماعات، بل على مستوى الدول، وهو ما يعني أن تمثيلات الآخر التي ألصقها بالشعوب المستعمرة ما هي إلا سرديات كاشفة عن الاختلال في الدولة ومؤسساتها وخطاباتها الثقافية.
الاستعمار وبناء الصورة الثقافية
يؤكد هومي أن المستعمر مبني داخل الخطاب الكولونيالي المُعوَّق، وهو الخطاب الذي يحدِّد تدني مرتبة السُّكان الأهليين بغية تبرير غزوه وما يترتب عليه من توليه حكمهم، كما أكد أن الناس التابعين يمكنهم التحدث، ويمكن استعادة الصوت الوطني اعتماداً على سردياتهم التي هي وسيلة إضفاء المعنى على التاريخ، حيث يوفر السرد ممكنات جديدة كانت خفية في فهم التاريخ. ونفهم من هذا الكلام أن السرديات تخيلات مجتمعية، زاخرة برموز تأسيسية تشير إلى مراحل الابتداء أو التقارب، وهذه السرديات هي أساطير السُّكان الأصليين وسلاحهم ضد إخضاع الآخر أهم ومحاولات اختزالهم واحتجازهم، وعلى الرغم من أنهم غير قادرين في البداية على التصريح والمعارضة، إلا أنهم يوظفون سردياتهم والاستفادة من معانيها وطاقة رموزها في ترسيم هوياتهم التي قشرها الآخر وفككها، لكن التخيلات المجتمعية تلملمها وترممها وينطوي هذا على صراع يمثل الحد الأدنى في مقاومة الخطاب الكولونيالي.
تتميز خطابات المستعمر بتمثيلاتها الساحقة كما قال هومي بابا، وتصير إنشاءً متخيلاً يقدِّم سرداً يقتنع بأنه ممثل للسكان التابعين، وهو في حقيقته مجموعة ضخمة من الصور تظلُّ في تواجه طويل مع السرود الجوهرية، والرموز التأسيسية المنتجة للمعنى اللامتناهي في السرد، وكما قال ''إعجاز أحمد'' يسعى الآخر من أجل حيازة المعنى الكامن في الحاضر. ويبدو لي أن دعوة هومي بابا للتنوعات والاختلافات لم تكن لأسباب لها صلة بتشكُّلات الهوية/ الهويات والتعبير عن ضرورات الحراك والاطلاع على ثقافات الآخرين، وإنما لأنه معنيٌ بالفضاءات والخطابات، وفي ذلك إفضاءات عميقة تدلل على استحالة بقاء الثقافة، أي ثقافة منغلقة أمام التواصل الثقافي، واعتقد بأن لانشغالات بابا بفضاءات الآخرية سبباً آخر، لا من أجل وحدة من نوع ما بين الآخر وخطاباته، وبين السُّكان الأصليين وسردياتهم، وإنما من أجل إيضاحات دالة على استعدادات السُّكان للانفتاح وقراءة ما للآخر/ أياً كان.
وفي مقال له قال هومي إن الخطاب الكولونيالي هو جهاز يعمل على الاعتراف بالاختلافات العرقية والثقافية والتاريخية. إن وظيفته الاستراتيجية الغالبة هي خلق فضاء للشعوب التابعة من خلال إنتاج المعارف بلغة تمارس عليها المراقبة وتتم إثارة شكل معقد من اللذة وغير اللذة. إنه ينشد التفويض من أجل استراتيجياته عن طريق إنتاج معارف المستعمر والمستعمر التي تكون نمطية مقولته لكنها تقدم تقويماً متناقضاً. اهتم هومي بابا بالقراءات المنمَّطة التي اتخذت شكلاً مُقولباً وشبه ثابت، لكنها ''مختلطة ومجزَّأة على نحو يثير الفضول''، وتكشف تلك الثقافات النمطية عن تنوعات في التوصيف الذي ألصقه الآخر بالسُّكان الأصليين بواسطة سردياته، وجعل الأسود متوحشاً ومن آكلة لحوم البشر، لكنه أكثر خنوعاً إن الكائن الأسود هو تجسيد للجنسانية الهائجة، ومع ذلك فهو بريء كالطفل، إنه صوفي وبدائي وساذج، ومع ذلك، إنه الأكثر دنيوية.
مساءلة أسس الفكر الغربي الحديث
إن السمة البارزة في مفاهيم (بابا) ما بعد الكولونيالية، بحسب المتخصصين، هي التوظيف النفسي وعلاقتها بالمنظومة السياسية في مجابهة الخطاب الغربي والتي تناولها قبله (فانون)، فدراسات الأخير النظرية وعنايته بالعلاقة بين السياسة والنفس وقضايا التمثيل تتصادى في فكر بابا، شأنها في كثير من الجدالات الراهنة حول مسألة الهوية. وكذا رؤية فانون إلى الثقافة على أنها حقل أدائي، وتركيزه على الجسد الذي يقع في مركز تفكيره الخاص بالفاعلية السياسية والممارسة الثقافية. لقد عمل (بابا) على تطوير دراسات (فانون) في ما يتعلق بالتحليل النفسي والجسدي على وفق منظور (لاكان) ونظرياته النفسية وخاص في مفاهيم (التنكر، والآخر، والأنا) وغيرها من المفاهيم التي أدخلها (لاكان) في التحليل النفسي من خلال إعادة قراءة نظريات (فرويد) النفسية.
كانت له مواقف جلية من الخطاب الكولونيالي والثقافة الاستعمارية في الهند والتي على أثرها أنشأ مع عدد من الباحثين الهنود ما سمي بدراسات علمية، ووقع على عاتقهم قلب مدونة تاريخ الهند الرسمي المكتوب من قبل المؤرخين المتأثرين بالسياسات الاستعمارية البريطانية، واقترحوا إعادة كتابته في ضوء مفاهيم مغايرة متصلة بالتاريخ الشفوي المنسي الذي استبعدته النخب الاستعمارية. وفي ضوء هذه الدراسات النقدية التي اتصف بها عمل (بابا) برز توجهه نحو مناقشة الفكر الغربي في حقبة محددة، هي الحقبة التنويرية التي رأى فيها بأنها أسهمت في صناعة الثقافة الكولونيالية والتوسع الإمبريالي وناقش فكر النخب المؤثرة في تلك الحقبة التاريخية التي ابتعد مفكروها عن موقفهم الإنساني، بل أسهمت نتاجاتهم في إيجاد فكر طبقي تمييزي بين الغرب والشعوب الأخرى التي أصبحت ضحية لذلك التوجه. وهنا يرى (بابا) أن الفكر الأوربي الإنساني التنويري لم يكن إلا ليكشف عن مفارقة ساخرة إذا ما وضع في السياق الكولونيالي لتلك الحقبة. ولم يكن الأمر يقتصر على التجاهل واللامبالاة في مواقف الطبقة المثقفة الأوربية من قضايا التوسع الاستعماري والنشاط الكولونيالي وما رافقه من أفعال لا إنسانية، بل أسهم في انتشار أنماط من المرويات الكبرى التي تزيف الواقع المحلي للبلدان المستعمرة.
وللوقوف على المفاهيم التي صاغها (هومي بابا) في كتابه (موقع الثقافة)، سيتطرق الباحث إلى أهم المفاهيم التي استقاها من (لاكان)، هي (التنكر والتمويه والعلاقات بين الدال والذات والآخر) وقد أسهمت في بناء محور نقدي يوجه ضد المركز وبنيته المحورية والعلاقة بالآخر (الهامشي).
يعد مفهوم (التنكر) من المفاهيم الرئيسة التي وظفها (هومي بابا) في نظريته، إذ يرى فيه: إعادة كشف عن تمثيل لمجموعة من العلاقات التي تدل على هوية ما أو معنى ما، فهو تمويه يؤدي للوقوع في حقل التشابه دون أن يكون لهذا التشابه الناتج عن التمويه أي جوهر مع الخلفية التي يريد أن يتقارب معها، ولكنه في الوقت نفسه يهدف إلى إظهار شيء أو البوح بشيء يدل على الهوية، أو المعنى الذي يسعى إلى تأكيده. ويسعى من يقوم بـ(التنكر) أو (التمويه) إلى التأثير على الخطاب المركزي المسيطر وزعزعة المفاهيم الرئيسة التي يقوم عليها وبذلك يجعل هدفه الظهور في الساحة التي يرتكز عليها الخطاب المسيطر في صورة من التمثيل المموه الحضوري في ساحة الفاعل، وفي صورته من أجل تأكيد مفاهيم ذات طابع تمييزي وعنصري ضد الآخر وهنا يرى (بابا) أن التنكر بوصفه كناية حضور، لا يكتفي بهدم بنية السلطة النرجسية عبر دائرة الاختلاف وتكرر الرغبة في الحضور، بل يساهم في تثبيت أشكال المعرفة التمييزية والتصنيفية في الصورة الكولونيالية الحاضرة، فهو يطرح بالضرورة مسألة إقرار، أو شرعنة التمثيلات الكولونيالية، بوصفها ذات تمثيل عرقي، وثقافي، وقومي، تصنع إرباكاً وأزمة في مفهوم التاريخ الثقافي للمجتمعات الخاضعة لسيطرة التمثيل الكولونيالي.
لقد سعى (بابا) لتأكيد مفهوم (الآخرية في الآخر) ووضع توصيفاً لمفهوم (الثبات) في الذات المؤسسة للخطاب الكولونيالي، ويمثل هذا المفهوم في بناء الذات الكولونيالية وهو بناء إيديولوجي للآخرية وسمة مهمة من سماته الثبات بوصفه دالول الاختلاف الثقافي، التاريخي، العرقي في خطاب الكولونيالية هو نمط متناقض من أنماط التمثيل: فهو يتضمن معنى الصلابة والنظام الذي لا يتغير كما يتضمن أيضاً معنى اختلاف النظام، والتفسخ والتكرار الشيطاني. ومثل الثبات فإن الصورة النمطية، التي تمثل الاستراتيجية الخطابية الكبرى، هي شكل من المعرفة وتعيين الهوية يترجح بين ما هو (في مكانه) على الدوام، معروف مسبقاً، وبين ما ينبغي تكراره على نحو قلق.