لم يحدث أن شكل دخول مفكر أو أديب الأكاديمية الفرنسية التي تخلد كتابها الكبار ضجة إعلامية تجاوزت حدود فرنسا كما فعل المفكر ألان فينكلكروت اليميني أو «نبي الرجعيين الجدد» كما تنعته الصحف والمجلات اليسارية، وعلى راسها «ليبراسيون» و«لوموند» و«لو نوفيل أوبسرفاتور» التي أسسها الصحفي الشهير جان دنيال اليهودي الفرنسي، ورفيق درب ألبير كامو.
دخل الأكاديمية التاريخية بحضور رئيس الوزراء السابق مانويال فالز، وتسبب في انقسام أعضائها القدامى بين مؤيد لانضمامه لهم، ورافض. لم يتحول إلى ظاهرة إعلامية وسياسية ـ وليس فلسفية كما كان حال فوكو ودولوز وسارتر مثلا ـ إلا بعد أن أصبح الحديث عن خطر الهجرة بوجه عام والإسلام بوجه خاص على الهوية الفرنسية تجارة إيديولوجية رائجة لدى عدد كبير من الكتاب والصحافيين اليمينيين واليمينيين المتطرفين، الذين وجدوا في الإرهاب المرتكب باسم الإسلام فرصة تاريخية لا تعوض للانقضاض على يسار فشل داخليا في حل مشكلات الفرنسيين لعدة عقود وفتح أبواب ونوافذ فرنسا لمهاجرين أضحوا باسم شعار العيش المشترك سببا قاتلا يهدد الكيان الاجتماعي والصفاء العرقي والحضاري والحرية والعلمانية والمدنية.
مفكر مثير للجدل
ألان فينكلكروت حاصل على درجة الماجستير في الفلسفة، وهو مؤلف العديد من المقالات حول الأدب والحب والحداثة. أستاذ في المدرسة الثانوية الفنية في بوفيه (1974-1976)، ثم أستاذ مساعد زائر في جامعة كاليفورنيا في بيركلي (1976-1978)، قام بالتدريس في معهد جامعة إيلي ويزل وعمل أستاذًا لتاريخ الأفكار في قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية في كلية الفنون التطبيقية بين عامي 1989 و2014، وهو العام الذي انتُخب فيه عضوًا في الأكاديمية الفرنسية.
منذ عام 1985، استضافه برنامج "فرنسا ثقافة"، ويتدخل بانتظام في وسائل الإعلام الفرنسية، حيث كان مصدرًا للخلافات والجدل بانتظام. التحق بحركة 68 مايو 1968 قبل أن ينضم إلى الفلسفة الجديدة في السبعينيات. بعد أن أصبح مفكرًا مألوفًا للجمهور خلال الثمانينيات، طور انعكاسه الخاص على الهوية والذاكرة والاندماج من خلال المدرسة. في هذا السياق، تحدث عن مسائل سياسية مثل اليهودية، القومية، الاستعمار، الصهيونية، مفهوم الهوية، معاداة السامية والعنصرية، حول التعددية الثقافية، على عيوب النظام التعليمي الفرنسي، وفي حروب يوغسلافيا. كان ضابطًا في وسام جوقة الشرف منذ عام 2009 وحصل على العديد من الجوائز لمقالاته.
هذا المفكر، حسب ملاحظين وكتاب عرب يعيشون على التراب الفرنسي، دخل أكاديمية الخلود يشتكي ويتباكى إلى حد يبعث على الشفقة في كل المناسبات الإعلامية من معارضيه اليساريين واليمينيين المعتدلين الاجتماعيين الذين يعدون في تقديره جلادين وإقصائيين وستالينيين ترهيبيين بسبب حملات إعلامية منطقية وواردة وشرعية في مجتمع يدعي حرية التعبير والسخرية والضحك من كل شيء، وعوض أن يتقبل هذا المفكر الهجوم الذي يشنه ضده معارضوه بشكل سلمي تسمح به دولة القانون والحريات الفردية والجماعية تراه يفقد أعصابه ويصاب بالجنون والهذيان إلى درجة دفعت به إلى دعوة معارضيه إلى السكوت كما فعل قبل أعوام مع المناضل والناشط السياسي الكبير دنيال كوهين بنديت بطل انتفاضة سنة 68 الذي يختلف معه فكريا رغم يهوديتهما الموظفة في حالة فينكلكروت لصالح إسرائيل في كل الحالات كما هو الشأن عند الفيلسوف الإعلامي الآخر برنار هنري ليفي الذي انطفأ وتقهقر إعلاميا منذ أن أصبح فينكي (اسم الدلع الحميمي عند أصدقاء فينكلكروت) ضيف كل البرامج التلفزيونية والإذاعية .
الشيء الذي يحزن، حسب هؤلاء المتتبعين للشأن الفرنسي، في مواقف هذا المفكر المثقف والعنيد والمثابر والمؤمن بتوجهه بشكل ديني لاهوتي والمحق في الدفاع عن بلده وقناعاته، وقوعه في تناقض غريب وقاتل لا يشرف الإنسان المثقف، ونقصد بذلك نفاقه الواضح والجلي وترهيبه للملايين من الفرنسيين والأجانب بتعمده الخلط المنهجي والمبرمج بين المسلمين والإسلاميين من منطلق تخويف مبطن من الإسلام دون غيره من الأديان.
الإسلاموفوبيا في صيغة فلسفية
يتميز ألان فينكلكروت مع مجموعة من كتاب وفلاسفة فرنسيين آخرين، ممن أطلقوا على أنفسهم اسم «الفلاسفة الجدد»، بمواقف جد متطرفة من القضايا العربية والإسلام، ومن بين هؤلاء برنار هنري ليفي وألكسندر أدلير وغيرهما.. وليس من الغريب أن نجد واحدا منهم في منبر سياسي أو ثقافي يلعب دور الضحية حينا، ودور من يعطي الدروس حول حقوق الإنسان وتصدير الديمقراطية وإدانة الأنظمة التوتاليتارية، خصوصا العربية والإسلامية، حيناً آخر، من دون إشارة واحدة تذكّر بما تقوم به إسرائيل في فلسطين المحتلة.
وكم كان المنظر مثيرا للأسى، حين تصدى فينكلكروت، ذات مساء في برنامج تلفزيوني للفنانة الفرنسية الكبيرة «بينوش» (الفائزة بجائزة "الأوسكار" في فيلم "المريض الإنجليزي") وأبكاها لأنها تجرأت على توقيع بيان عريض ـ تم توزيعه في تظاهرة كبرى للتضامن مع الشعب الفلسطيني- يُطالب شارون بتطبيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، الحقوق التي اعترفت بها الأمم المتحدة. ومضى فينكلكروت في تهجمه إلى حد اتهام بينوش بأنها أضافت اسمها إلى أسماء شخصيات كريهة.
ليست هذه أول مرة يتصدى فيها فينكلكروت أو غيره، لكُتّاب عَرَب أو مُسلمين، إذْ إنه في كل حضور له مع شخصيات فكرية وثقافية عربيّة، لا يتوانى عن توجيه الانتقادات إلى ما يسميه «الإرهاب العربي»، في ظل صمت حادّ من قبل الحضور العربي الخائف على مكانته في الإعلام الفرنسي الذي تسيطر عليه الاتجاهات اليهودية والصهيونية. وليس من مثال أكبر دلالة على ذلك، من مظهر المخرجة السينمائية يامنة بنغيغي، وهي تهز رأسها موافقة على تهجمات فينكلكروت على العرب والمسلمين من دون أي رد فعل.
صحيح أن مُعدّي البَرَامج الفرنسيين، وهم في غالبيتهم منحازون للموقف الإسرائيلي، يصرون على عدم دعوة شخصيات عربية ومسلمة ذات وزن وموقف واضح، من طينة محمد أركون أو طارق رمضان وغيرهما، ويكتفون باستضافة شخصيات لا قيمة لها أو ديكورات سمّاهُم ـ ذات يوم الروائي المغربي الطاهر بن جلون-في مقال شهير له في جريدة "لوموند" ـ بـ"عرب الخدمة"، ليظلوا صامتين في الوقت الذي يقوم الصهاينة بتوزيع مواقفهم التي يحفظونها عن ظهر قلب.
يُعيد ألان فينكلكروت مواقفه في كل مرة يُتاح له القيام بذلك. وذهب به الأمرُ حد التصريح بأن المثقف العربي لا يمكن أن يكون ديموقراطيا إلا إذا تخلى نهائيا عن المطالبة بحق العودة للشعب الفلسطيني. هذا التوجه الجذري في رؤية الصراع، أو هذه النظرة الأنانية جعلته يُوقِّعُ على بيان، صاغته مجموعة من كتاب يمينيين فرنسيين وصهاينة، يُدينُ ما أسماه «العنصرية التي تَطَالُ البِيض»، وهو إشارة، في القسم الأكبر، إلى السّود وأبناء الجالية العربية في فرنسا.
ففي حوار معه للصحيفة الإسرائيلية "هآرتس" في ما يخص الأحداث التي هزت الضواحي الفرنسية، لا يتورع فينكلكروت، من دون مداورة، عن تحميل السود والعرب والإسلام المسؤولية. ويضيف بسخرية حادة قد تثير حنق الكثيرين بأن المنتخب الوطني الفرنسي لكرة القدم، الحائز على كأس العالم، والذي يُطلِق عليه هزءا «أسود- أسود- أسود» (إشارة إلى العديد من الفرنسيين من ذوي السحنات السوداء) ما هو إلا «أضحوكة أوروبا». وأثار هذا الحوار وما ورد فيه غضب مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» (التي يديرها صحافي يهودي هو دون دانييل) وكتبت بأن «ما تفوّه به فينكلكروت جديرٌ بزعيم من اليمين المتطرف، لا أن يخرج من فم زعيم سابق لليسار الفرنسي». وتقول صحيفة "هآرتس" بأن الكاتب الفرنسي أكد لها أنه «من المستحيل بل من الخطر التصريح بمثل هذه المواقف في فرنسا». وهو ما ينسجم مع ما كان شارون قد صرح به من عدم شعور اليهود بالأمان في فرنسا، واعتُبِرَ حينها تشجيعا صريحا وغير لَبق لحث اليهود على الهجرة من فرنسا.
قال فينكلكروت للصحيفة الإسرائيلية، مفسراً ماهية أحداث الشغب الأخيرة، التي حدثت في فرنسا، على طريقته: «المشكل هو أن معظم هؤلاء الشبان همْ سود وعربٌ هويتهم إسلامية. ويوجد في فرنسا مُهاجرون آخرون في وضعية صعبة، صينيون وفيتناميون وبرتغاليون، لكنهم لا يشاركون في أعمال الشغب. إذنْ فمن الواضح بأن هذا التمرد ذو طابع إثني ـ ديني». ويضيف فينكلكروت مقارنا، بطريقته الماكرة، بين الشبيبة المهاجرة وشباب الانتفاضة الفلسطينية، بالقول بأنه اكتشف «أن هؤلاء، السود والعرب، يرسلون هم أيضا إلى الواجهة صغار السنّ. وأنتم في إسرائيل تعرفون الأمر. إنهم يُرسلون الصغار لأنه لا يمكن وضعهم في السجون حين يتم اعتقالهم».