تاريخ.. مجهولو مصير دفنوا جنب الطرق الوطنية وكتبوا وصاياهم قبل إعدامهم
مع تيلي ماروك
«صدرت الأحكام بالإعدام في حق عبد اللطيف بن قدور واثنين آخرين، فيما كان السجن المؤبد من نصيب الهاشمي فاتح. في حين تم إطلاق سراح اثنين هما عبد السلام بن محمد والعربي بن الحسن. إحدى الليالي جاء الحراس ليأخذوا عبد اللطيف بن قدور والحسن بن يدار لينفذ فيهما الإعدام، فصار الأخ عبد اللطيف يصيح قائلا: إخواني إني سأموت شهيدا، أطلب منكم أن تبلغوا إخواننا في الخارج أنني سأموت»..
هذه التفاصيل نقلت عن عبد السلام بناني، أحد أشهر الذين سجنوا وحكم عليهم بالإعدام في أحداث بداية الخمسينيات، ورواها بعد نجاته. أما السياق العام الذي جاء فيه كل هذا، فيكفي القول إن المطالب في الصحافة الفرنسية المنشورة في المغرب، كانت دموية نوعا ما، علما أن الكثيرين كانوا قد حوكموا بتهم ثقيلة ولم تمنح لهم الفرصة لكي يدافعوا عن أنفسهم أو يوكلوا محامين لهم، بينما اعترف آخرون بالتهم التي نسبت إليهم، بل واعتبروها مدعاة للافتخار مثلما وقع في محاكمة الحنصالي الشهيرة سنة 1953، والتي جيشت فرنسا إعلامها في المغرب لكي تصور الحنصالي كوحش بشري.
المثير أن مصير أصدقائه بعد تلك المحاكمة بقي مجهولا، إذ إن عائلاتهم لم تتمكن من توديعهم، ونفذ فيهم حكم الإعدام بشكل سري، وتم إخبار العائلات بالتنفيذ بعد انتهائه، ولم يخبروا حتى بمكان دفن أحبائهم.
محاكمة الحنصالي سنة 1953.. الصورة المحذوفة من الأرشيف
اسم الحنصالي يبقى واحدا من أسماء تاريخ المقاومة، الذين نفذت فيهم أشهر أحكام الإعدام. لكن اسما آخر، عاش مع الحنصالي المحنة نفسها، بالكاد يعرفه المتخصصون، بينما يجهله الرأي العام رغم أن المحاكمة جرت أطوارها في سياق دموي ساخن وعنيف، وانتهت يوم 26 نونبر 1953. يتعلق الأمر بالملقب ولد سميحة، الذي يستحق فعلا أن يكون أيقونة للمجهولين الذين عاشوا نجومية في الصحف الفرنسية، قبل أن يسقطوا سهوا من التاريخ وينساهم الجميع، بمن فيهم المهتمون المغاربة بتاريخ المقاومة وأبطالها الأوائل.
ربما كان هؤلاء الناس، ومن معهم، غير محظوظين من ناحية التوقيت الذي اختاروا خلاله أن يزاولوا أنشطتهم ضد فرنسا. إذ رغم أنها كلفتهم حياتهم، إلا أن السياسة الفرنسية بكل تجرد، لم تتأثر بالأعمال التي كان يقودها هؤلاء، وقادتهم إلى المشانق وساحات الرماية، وتخلصت منهم دون حتى أن تمنح أسرهم حق وداعهم، بعد المحاكمات التي كانت استعراضية تارة وسرية تارة أخرى. بعكس الذين قادوا خطوط المقاومة قبيل الاستقلال، والذين نجحوا في إرباك المخطط الأمني الفرنسي.
يبقى إذن الجيل الأول للذين قاوموا وعارضوا الوجود الفرنسي في المغرب، قد تعرضوا للإقصاء من التاريخ. وربما يكون السبب الأكبر وراء هذا الإقصاء، هو ندرة الوثائق والمعطيات التي توثق لمصيرهم، في بعض الحالات على الأقل، أو عدم انجذاب الباحثين، وحتى الفضوليين، إلى تلك الفترة التي كانت فيها مبادرات المقاومة فردية قبل أن يتحول العمل السري ضد فرنسا إلى توجه ممنهج ترعاه الحركة الوطنية ويؤطره المتحزبون.
انتماء الحنصالي إلى منطقة أزيلال ورمزية الزاوية الحنصالية، ساهمت في إضفاء هالة على قصته، خصوصا بعد تنفيذ الإعدام بطريقة مؤثرة تناقلت تفاصيلها الأوساط الشعبية وساهم الشباب المتحمس الذي شكل نواة العمل السري المسلح، في نشرها على أوسع نطاق.
بعد كل هذا، جاءت قصص أخرى فاقت قصة الحنصالي الرمز، بشاعة ومأساوية. وكُتب لهؤلاء جميعا أن يتحولوا إلى مجرد أرقام في أرشيف فرنسا، وقلة منهم فقط من حفظ التاريخ ذكراهم.
تقول بعض المعطيات من أرشيف محاضر الأمن الفرنسي إن فرنسا بقيت في حالة من التصعيد ضد المقاومة، إلى أن حانت الساعات الأخيرة التي سبقت عودة الملك محمد الخامس من المنفى. بل إن الانفراج لم يتحقق إلا بعد الاستقلال بفترة قصيرة. وهذا المعطى يضرب بعمق في النظرية التي روجت لها فرنسا بعد الاعتراف باستقلال المغرب، والتي كانت تقول إن الإقامة العامة الفرنسية كانت متعاونة للغاية أثناء الإعداد للإعلان عن استقلال المغرب.
لقد أدى مغاربة كثر ضريبة هذا التحول في الأحداث. وليس المقاومون وحدهم من ساهم في استقلال المغرب، بل هناك فئة من مجهولي المصير، طُحنوا بقوة في اللحظات الأخيرة التي سبقت الانفراج في الأوضاع.
أحداث أليمة مات مهندسوها دون أن يعرفهم أحد
عرفت سنة 1952 أحداثا أليمة، قتل فيها مواطنون مغاربة بالمئات، في مدينتي الدار البيضاء والرباط وسلا وحدهما، ليتحول الرقم إلى الآلاف، باستحضار الذين سقطوا في كل مناطق المغرب، بسبب تداعيات الأحداث ذاتها.
أرشيف الإقامة العامة الفرنسية، الذي استقى معلوماته من مكاتب الأمن والشرطة الفرنسية في الدار البيضاء، يحفظ الذكرى ويوثق لهذه الأحداث بالأرقام والتفاصيل الدقيقة. وقد جاء فيه أن تلك المظاهرات كانت: «سلمية ورفعت فيها شعارات تندد بالسياسة الاستعمارية لفرنسا. والمظاهرات التي خرجت احتجاجا على نفي الملك محمد الخامس، قوبلت بدورها بعنف مبالغ فيه من طرف البوليس الفرنسي. وكانت تلك المرة الأولى التي لجأت فيها الإقامة العامة الفرنسية إلى خدمات التدخل السريع للأمن، وهو الأمر الذي خلف ضحايا كثر».
جرت موجة من الاعتقالات، وسُحب عدد من الشبان من داخل المظاهرات، وتم اختطافهم، بتعاون مع مخبرين مغاربة، يتولون مهمة توجيه الأمنيين إلى الأشخاص المشكوك في انتمائهم إلى المجموعات المسلحة، أو تزعمهم للمظاهرات.
الذريعة التي قدمت في الإعلام الناطق بالفرنسية، كانت تقول إن بعض «الفوضويين» تم اعتقالهم حتى لا تتجه الأمور إلى الأسوأ. وبرر الأمن الفرنسي فعلته بالقول إنه كان يحمي المتظاهرات من بعض العناصر «التخريبية»، بناء على معلومات أمنية توصل بها البوليس من طرف «الاستعلامات العامة» تؤكد أن بعض الأطراف السياسية والتنظيمات السرية المسلحة، كانت تخطط للركوب على المظاهرات السلمية، وتنفيذ بعض عمليات التخريب في الشوارع الكبرى التي كانت تمر منها المظاهرات.
كان المغاربة، في العموم، يعلمون أن البوليس الفرنسي لا يتردد في استعمال الرصاص الحي. وهذه النقطة وحدها كانت موضوع خلاف كبير بين مكونات المقاومة في المغرب. إذ إن بعض عمليات المقاومة تسببت في مقتل أبرياء مغاربة، أكثر مما استهدفت متعاونين مع الحماية الفرنسية.
في السابع من شتنبر 1954، مع تمام الساعة الحادية عشرة صباحا، تم اعتقال 12 شابا مغربيا ووجهت إليهم على الفور تهمة التحريض على العنف، وضبطت بحوزتهم منشورات تدعو إلى التظاهر.
الواضح أن التظاهر فعل مستقل تماما عن العنف، لكن فرنسا كانت تجمع كل شيء في سلة واحدة، وتشير بأصابع الاتهام إلى خلايا التنظيمات السرية للمقاومة، وتتهمها بالركوب على جميع الأحداث واستغلال جميع التجمعات لارتكاب أفعال «إجرامية» ضد المواطنين الفرنسيين، أو المغاربة المندمجين في السياسة الفرنسية.
تهمة أخرى وجهت إلى هؤلاء الشباب تتمثل في تبييت نية إضرام النار في منشآت فرنسية وممتلكات لمعمرين فرنسيين مستقرين في المغرب.
من خلال المحاضر المتوفرة في الموضوع، لم يعترف أحد من أولئك الشبان بأي عملية إضرام نار، لكن التهمة بقيت تلاحقهم، بل وحوكموا بها وتمت إدانتهم بأشهر نافذة في السجن المركزي بسبب المنشورات التي ضبطت معهم، والتي كانت تدعو إلى التظاهر.
مدفونون في جرائد «السعادة» و«لو بوتي ماروكان»
منذ سنة 1939 تقريبا، حيث يمكن معاينة واحدة من أقدم التغطيات الإعلامية لمحاكمات المغاربة المتورطين في أحداث ضد الوجود الفرنسي في المغرب تم على إثرها إتلاف ممتلكات الفرنسيين أو استهدافهم ومشاريعهم، خصوصا بالدار البيضاء، تحولت الصحافة المناصرة للوجود الفرنسي في المغرب إلى «مقبرة» حقيقية لأسماء المُدانين المغاربة.
كانت هناك سياسة إعلامية ترعاها الإقامة العامة الفرنسية، تتمثل في ممارسة إرهاب نفسي على المغاربة، خصوصا المثقفين، ونشر أخبار عن صرامة العقاب الموجه إلى صفوف الرافضين لواقع وتداعيات معاهدة الحماية، التي لم تنجح فرنسا في جعل المغاربة عموما يتطبعون معها.
كانت معالم هذه السياسة إذن واضحة من خلال ما تنشره الجرائد الموالية لفرنسا. وهنا نورد مقطعا من مقال نشر في صحيفة «لو كازابلونكي»، التي كانت معروفة خلال أربعينيات القرن الماضي بتحيزها للإقامة العامة. جاء في المقال الذي نشر بتاريخ 11 يونيو 1941: «إلى متى سوف تبقى الإقامة العامة تؤجل تنفيذ حكم الإعدام في حق المجرمين، الذين قتلوا مالك شركة الخشب بالدار البيضاء؟ إن هناك تخوفا كبيرا من أن يسعى آخرون إلى تنفيذ جرائم مشابهة، خصوصا وأن هناك من ينظر إليهم كأبطال قوميين.
لا للتسامح
إن أفضل ما يمكن القيام به، بتقدير القضاة طبعا، هو أن يكون مصير المتورطين نفس مصير الذين أدينوا، وكانت الأدلة كلها ضدهم في قضية مقتل الطبيب الفرنسي د. كلارو في عيادته. لقد حكم عليهم بالإعدام رميا بالرصاص، لكن عائلاتهم لم تتسلم جثامينهم حتى لا تنظم لهم جنازة يعتبرهم فيها أنصارهم أبطالا قوميين. لقد انتهى عهد التسامح، ويجب على الإقامة العامة أن تكون ضامنة لاستقرار رعاياها بالضرب بيد من حديد على كل من يهدد الأمن العام في المدن».
مطالب دموية
يكفي القول إن المطالب في الصحافة الفرنسية المنشورة في المغرب، كانت دموية نوعا ما، علما أن الكثيرين كانوا قد حوكموا بتهم ثقيلة ولم تُمنح لهم الفرصة لكي يدافعوا عن أنفسهم أو يوكلوا محامين لهم، بينما اعترف آخرون بالتهم التي نُسبت إليهم، بل واعتبروها مدعاة للافتخار مثلما وقع في محاكمة الحنصالي الشهيرة سنة 1953، والتي جيشت فرنسا إعلامها في المغرب لكي تصور الحنصالي كوحش بشري.
المثير أن مصير أصدقائه بعد تلك المحاكمة بقي مجهولا، إذ إن عائلاتهم لم تتمكن من توديعهم، ونفذ فيهم حكم الإعدام بشكل سري، وتم إخبار العائلات بالتنفيذ بعد انتهائه، ولم يخبروا حتى بمكان دفن أحبائهم. هناك أصوات، بعد الاستقلال، قالت إن بعض هؤلاء الذين نفذت فيهم الأحكام خلال تلك السنوات السوداء كتبوا وصاياهم أو استأمنوا عليها بعض المسجونين معهم ممن طالهم العفو أو تمكنوا من الفرار، ونقلوها عنهم.
المثير أن بعض الحالات سُجلت فيها اعترافات متناقضة لبعض المتورطين، وهناك نسخ لبعض المحاضر، بدا واضحا خلالها أن القاضي وممثلي الإقامة العامة لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء التأكد من صحة تلك الاعترافات وما إن كانت انتزعت تحت التعذيب أو تسترا على الفاعلين الحقيقيين. لكن الذين نُسبت إليهم يبقون من أبطال المقاومة مجهولي المصير.
هؤلاء هم «المجهولون» الذين تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب والاختطاف والتصفية السرية
يبقى اسم عبد السلام بناني أحد أشهر الأسماء التي تعرضت للاعتقال والمحاكمة، وأبرز المعروفين الذين قضوا عقوبات حبسية في سجن القنيطرة، خلال بداية الخمسينيات.
هذا الرجل الذي يعد واحدا من أشهر سجناء المقاومة المغربية ورموزها، أصبح بعد حصول المغرب على الاستقلال يلقب بـ«الأب الهادئ»، وهو العنوان الذي اختارته عائلته كعنوان لكتاب تطرق إلى محطات من حياته. كان الملك الراحل محمد الخامس يكن لعبد السلام بناني ورفاقه تقديرا خاصا، لأنه كان على اطلاع بتفاصيل المعاناة التي تعرضوا لها قبل الاستقلال. وقد سبق في «الأخبار» أن أفردنا ملفا خاصا عنه سنة 2015، لتكون تلك المرة الأولى التي يتم فيها تسليط الضوء على الفريق الذي قض مضجع الفرنسيين بالدار البيضاء، وأحد أبرز الشخصيات التي عايشت عن قرب تفاصيل التعذيب، حيث صُفي جل أصدقائه ودُفن بعضهم في قبور سرية غير معروفة إلى اليوم. وكنا قد نشرنا بعض اقتباسات من شهادته الشخصية. نُعيد هنا استحضار أقوى تفاصيلها.
محاولة للتوثيق
خلال بداية السبعينيات، قام عبد السلام بناني، وهو واحد من الذين اشتغلوا في صفوف المقاومة بالدار البيضاء والرباط، وكان على علاقة وطيدة بحزب الاستقلال وبالمهدي بن بركة ومحيطه، بمحاولة لتوثيق تجربته في السجون الفرنسية، التي اعتقل فيها أكثر من مرة بتهمة تهديد الأمن العام واستهداف الفرنسيين. هي عبارة عن مسودة مذكرات لم يكتب لها أن تنشر كاملة. لكن أقاربه، خصوصا بعد وفاته إثر كتابتها بسنوات قليلة، قرروا أن يعيدوا تنقيح ما تركه عبد السلام بناني، ويعيدوا نشره وفاء لطلبه الأخير.
هناك فقرة يتحدث فيها عبد السلام بناني في مذكراته التي نُشر نزر يسير منها في كتاب صغير يحمل اسم «الأب الهادئ» ما يلي:
«صدرت الأحكام بالإعدام في حق عبد اللطيف بن قدور واثنين آخرين، فيما كان السجن المؤبد من نصيب الهاشمي فاتح. في حين تم إطلاق سراح اثنين، هما عبد السلام بن محمد والعربي بن الحسن. التهمة هي قتل ثلاثة أوربيين وهم: ريبيس- راماجوا- سبورا. وفي إحدى الليالي جاء الحراس ليأخذوا عبد اللطيف بن قدور والحسن بن يدار لينفذ فيهما الإعدام، فصار الأخ عبد اللطيف يصيح قائلا: إخواني إني سأموت شهيدا، أطلب منكم أن تبلغوا إخواننا في الخارج أنني سأموت..
وفي نونبر حكمت المحكمة العسكرية على آخرين بعشرين سنة سجنا، وعلى محمد بن قاسم بخمس سنوات. وكانت التهمة هي قتل اثنين من المخازنية في كاريار سنطرال.
اليد السوداء
في ماي 1954 وقعت محاكمة 22 متهما من أجدير، وألقي عليهم القبض قبل ذلك بسنة. وكانت المحاكمة كلها ضد أعضاء في حزب الاستقلال، لمحاولة إلصاق تهمة أحداث 1952 للحزب. وحكم على بعضهم بالسجن، فيما طلب تسريح الآخرين نظرا لحداثة سنهم وقلة الحجج.
في ماي 1954 بدأت محاكمة 55 فردا من جماعة اليد السوداء، من بينهم محمد الراشدي وأحمد اليوبي ومولاي الطاهر العلوي، ثم عبد السلام بناني».
بعد صدور هذه الأحكام سيتحدث عبد السلام بناني عن التعذيب الذي مورس على المساجين، على يد بعض «الخونة» المتعاونين مع فرنسا داخل السجون، بالإضافة إلى فرنسيين عسكريين يشرفون على التحقيق مع المعتقلين واستنطاقهم، حتى بعد انتهاء محاكماتهم. وهناك كانت تتم فظاعات كثيرة، أولها سلخ جلد المساجين بشفرات الحلاقة أثناء استنطاقهم، وغرس سكين في فخذ آخرين لإجبارهم على الاعتراف بتهم ثقيلة أو تقديم معلومات عن أماكن اختفاء أصدقائهم الفارين. كما كان يتم اقتلاع الأضراس السليمة دون تخدير، وقلع الأظافر أيضا كان رائجا، بل وعلق عليه الكثيرون بأنه أرحم العقوبات مقارنة مع ما كان يتم اقترافه في حق السجناء والمعتقلين. كما كان آخرون يُجبرون على المشي فوق الزجاج المتكسر في ممشى طويل، يتم إجبارهم على قطعه ذهابا وإيابا. كل هذا من أجل إجبارهم على الاعتراف أو الإدلاء بمعلومات عن أصدقائهم الفارين، أو الإرشاد إلى الأماكن التي كانت تُخبأ فيها الأسلحة.
«مخربون» صدرت بحقهم مذكرات اعتقال على طريقة «الأفلام»
كانت مدينة الدار البيضاء سنة 1952، تغلي بكل ما يحمله هذا التوصيف من معنى. وكانت بعض المنشورات التي طُبعت وضمنت صورا تقريبية للمشتبه فيهم، تجوب شوارع الدار البيضاء وترصد مكافآت تحفيزية لمن يقدم معلومات عن أولئك الشبان. وبالنسبة للذين سقطوا في قبضة الأمن الفرنسي، فإن مصيرهم كان مؤسفا، لأن فرنسا نفذت فيهم أحكام إعدام ولم يعرف مكان القبور الجماعية التي دفنوا فيها.
لكن بعد حصول المغرب على الاستقلال بادر الملك الراحل محمد الخامس إلى إيواء أبنائهم اليتامى وأراملهم وحتى أمهاتهم، بوساطة من بعض قدماء المقاومة، الذين عرضوا على الملك الراحل وولي العهد الحالة الإنسانية العصيبة لتلك الأسر.
أما ما وقع فقد رصدته محاضر الشرطة الفرنسية ووثائق SDEC، التي كانت تعمل بشكل سري في إطار الاستخبارات، بعيدا عن اشتغال العناصر الأمنية للبوليس.
صور المطلوبين كانت تجوب إذن الدار البيضاء على طريقة الأفلام، وقد سجلت الجرائد المنشورة وقتها انتعاشا في الإعلانات. وأرشيفها يضم الآن نسخا وأعدادا تضم منشورات بصور وأسماء وأوصاف بعض المطلوبين، الذين صاروا من رموز المقاومة، وهناك منهم اليوم من تحمل بعض الشوارع أسماءهم، لكنهم في خضم تلك الأحداث كانوا مطلوبين أمنيا لدى الفرنسيين.
«المخربون» كان هو التوصيف الذي أطلق عليهم. وقد كان أعوان السلطة المغاربة، موضوع سخط شعبي كبير، وهدفا لانتقادات أعضاء الحركة الوطنية لأنهم لعبوا دورا كبيرا في التبليغ عن المطلوبين الذين أصبح مصيرهم لاحقا مجهولا، بحكم عدم توفر معطيات حقيقية ومحاضر مضبوطة عن مصيرهم، والطريقة التي صفوا بها وما إن كانوا قد قتلوا رميا بالرصاص أو ماتوا تحت التعذيب، وما إن كانوا قد دفنوا في قبور جماعية.
وثائق من أرشيف 1955 لمحاكمتين قسمتا فرنسيي المغرب إلى مؤيدين ومعارضين
ما سنعرضه في هذه الفقرة مُدون بكل تفاصيله في أرشيف الإدارة العامة للأمن الوطني، تماما كما ورثه السيد حصار الذي كان مديرا لديوان محمد الغزاوي، أول مدير عام للأمن الوطني لمغرب ما بعد الاستقلال. بعض هذا الأرشيف، أو جله، تعرض للإتلاف بسبب أحداث الاغتيالات السياسية وعدم توفر المغرب المستقل على أطر مغربية مكونة في تصنيف الأرشيف وحفظه. لكن ما تبقى منه، تم تدوينه وترجمته إلى اللغة العربية، وتم الاحتفاظ به في أرشيف المقاومة المغربية، بعد أن تسلمه مؤسسوها من أرشيف الإدارة، في إطار حفظ الذاكرة.
كانت المحاكمة التي تعرض لها أزيد من 11 شخصا يوم 4 ماي 1955، إهانة لكل جسم المقاومة المغربية. لقد كانت الكماشة تضيق كل يوم على أفراد المقاومة، ليس في المركز والعاصمة وحدهما، وإنما أيضا في محيطهما وحتى في الهوامش المنسية. بالنسبة إلى الأمنيين الفرنسيين، فقد كانت القرى والمناطق النائية تخضع لمراقبة عسكرية صارمة أراقت دماء الأبرياء لكي تُطبق سيطرتها الأمنية على المغرب.
تزامنت محاكمة الرجال الـ11، مع حادث افتعله مقاومون ملثمون احتجاجا على اعتقال المقاومين في منطقة فضالة، وتقديمهم إلى المحاكمة في الدار البيضاء.
شهود عيان
حسب المحضر الذي حرر لتوثيق الواقعة، فإن بعض العناصر الأمنية بالإضافة إلى رجال المطافئ، وصلوا إلى مكان الحادث في طريق مديونة، خارج الدار البيضاء، لمعاينة حادث إضرام نار في عمودي خطوط الهاتف، وهو الحادث الذي شل الاتصالات في الدار البيضاء لساعات.
وحسب تحريات البوليس، فإن الحادث تم عن طريق وضع قطع قماش مبلل بالبنزين أسفل عمودي الهاتف، وأضرمت النيران فيهما ليلوذ الفاعلون بالفرار. وحسب شهود انتبهوا لاندلاع النيران، فإن الفاعلين لاذوا بالفرار قبل أن يصل مستوى النيران إلى أعلى الخطوط النحاسية.
حرر محضر ضد مجهولين، واستمر الاهتمام بالمحاكمة.
على تمام الساعة السابعة صباحا، توقفت السيارة البيضاء الطويلة أمام الباب الخلفي للمحكمة، والذي كان مخصصا أساسا لإدخال المتهمين، لينزل منها المتهمون الأحد عشر. وحسب محاضر الأمن، فإن المتهمين كانت أسماؤهم كما يلي:
أبريك بن عبد الله، محمد بن لحسن، بن البشير أحمد، الجيلالي بن عيسى، عبد القادر بن بوشعيب، بن العايدي، مصطفى بن الجيلالي، بن عمر الجديدي، حسن بن عمر، حمان بن حمان، عبد السلام بن محمد.
فيما كان متهم آخر في حالة فرار. وتعرض أصدقاؤه للتعذيب، لكنهم لم ينبسوا ببنت شفة، ولم يقدموا أثناء التحقيق معهم أي معلومات عن هوية الفار الآخر، رغم أن الأمنيين عرضوا عليهم بعض الأسماء التي كان أصحابها مبحوثا عنهم لتورطهم في أعمال مشابهة ضد فرنسا. كان هذا الموقف الذي يراه المقاومون بطوليا، نقطة أساسية ركز عليها القاضي في صياغة العقوبات القاسية التي تصل دائما في أسوأ الحالات إلى الإعدام.
اغتيالات «فيجو»
لكن المفاجأة أن محاكمة أخرى شهدت أشواطها النهائية يوما واحدا بعد بداية المحاكمة، التي توبع خلالها الفدائيون الأحد عشر.
كان الأمر يتعلق بمحاكمة 3 أشخاص أدينوا بالإعدام، يوم 5 ماي، في قضية مقتل شرطي فرنسي.
تعود تفاصيل الواقعة إلى أشهر خلت، عندما تم اغتيال شرطي فرنسي بمدينة مراكش اسمه «فيجو».
وتم إلقاء القبض على المتورطين في العملية بسهولة، بعد أن لمحهم شهود كثر في المنطقة التي قُتل فيها الشرطي رميا برصاص الفدائيين.
خلف الحادث سخطا كبيرا في أوساط فرنسيي مراكش. حتى أن جنرالا عسكريا حضر محاكمة المتهمين، الذين كانت أسماؤهم كالآتي: مولاي علي بن العربي ورحال بن احمد، بينما بقي اسم المتهم الثالث مجهولا في المحضر، لأن الحكم بالإعدام الصادر في حقه قد ألغي في آخر لحظة.
كانت أعمار المتهمين تتراوح بين 25 و27 سنة. كانوا في عنفوان الشباب، لكن الأمر لم يمنع القاضي من إصدار حكم الإعدام في حقهم. بينما كان الثالث، أكبرهم، أبا لستة أطفال، ولم يفلح المحامي في التماس حكم مخفف له، وصدر في حقه هو الآخر حكم بالإعدام.
تبقى الإشارة إلى أن تنفيذ هذه الأحكام، تزامنا مع اقتراب الانفراج السياسي وإعلان حصول المغرب على الاستقلال، خلف أسى كبيرا في أوساط عائلات الشهداء المقاومين. وفي حالات أخرى سجل عفو رئاسي من رئاسة الجمهورية الفرنسية، استفاد منه مواطنون مغاربة أدينوا في المحاكم الفرنسية في المغرب، بتهمة المساس بسلامة الفرنسيين وإتلاف ممتلكاتهم واغتيالهم أيضا. ولا داعي للتذكير بأن جثامين الذين نفذت فيهم فرنسا أحكام الإعدام دفنوا في أماكن مجهولة أو عشوائية، وغالبا بدون أسماء واضحة.