تعرف على قصص مخازنية دخلوا التاريخ من باب المصاهرة ونافسوا الكبار على السلطة
مع تيلي ماروك
عبد الرحمان بن زيدان، الذي كان ينتمي إلى الأسرة الملكية وحرص على جمع تاريخ الدولة العلوية وكتب عن حياة الملوك المغاربة ويومياتهم، كتب في «العز والصولة» أن الحراس المخزنيين كانوا يتوارثون ذلك المنصب لمئات السنين، وكانت تتم تربيتهم على عدم تتبع أخبار سكان دار المخزن، وألا يتحدثوا لأحد عن الأسرار التي كانوا يسمعونها أو يرونها. ولذلك كان توارث ذلك المنصب مهما، لأنه يتطلب توفر شروط صارمة منها الأمانة، العفة وعدم إفشاء الأسرار.
لم يكن «الطموح» من تلك الشروط. وبنيعيش كان طموحا للغاية، لكن طموحه لم يظهر لأحد. ظل واقفا لسنوات أمام باب من البوابات، التي كان يعبرها السلطان المولى سليمان.
أمر أحد مستشاري المولى سليمان الحارس بنيعيش بحمل رسالة سرية إلى أحد وزراء المولى سليمان، وكان هذا الوزير على فراش المرض. وبعد تردد قبل بنيعيش بالمهمة، وتكرر طلب الوزير في أن ينقل رسائل بين الوزير المريض بشكل سري وبين السلطان.
هذه بداية وصول المخزني البسيط بنيعيش إلى السلطة. وهناك آخرون غيره وصلوا بالطريقة نفسها، أو بحظ أقل، ودخلوا التاريخ من بابه «الضيق».
قصص وصلت إلى العالمية لـ«رعايا» نافسوا الكبار على السلطة
لن يكون الوزير المهدي المنبهي ولا الحاجب الملكي باحماد، أشهر من صعد السلطة من القاع إلى القمة وتجاوز العائلات المسيطرة على الوزارات والإدارات والمناصب الكبيرة، بل هما رمزان فقط لهذه الظاهرة. الأول كان تلميذ الثاني وسار على نهجه.
الوزير المهدي المنبهي الذي كان وزيرا للحرب، ثم رئيسا لكل الوزارات والرجل الأول في قصر المولى عبد العزيز سنة 1900، كان مجرد مخزني بسيط مهمته لا تتعدى الوقوف أمام البوابة طيلة النهار، إلى أن اختاره الوزير الأول باحماد لكي يكون حامل الرسائل بينه وبين المولى عبد العزيز، ليدخل هذا المخزني الفقير والبسيط، الهارب من منطقة المنابهة نواحي مدينة مراكش، إلى التاريخ ويتحول مباشرة بعد وفاة باحماد إلى الرجل الثاني في المملكة مستشارا فوق العادة للمولى عبد العزيز، ثم وزيرا للحرب وسفيرا إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا. ويصبح صديقا للدبلوماسيين الأجانب ومتحكما في تعيينات الوزراء المغاربة، قبل أن يصبح خارج السلطة بسبب تحالف وزاري ضده، ثم نتيجة فشله في تدبير مشكلة «بوحمارة»، ليتم إعفاؤه من منصبه في وزارة الحرب ويختار طنجة التي قضى بها آخر أيام حياته. وحسب بعض المصادر، فإنه من منفاه الاختياري بطنجة كان يراسل الملك الراحل محمد الخامس إلى حدود ثلاثينيات القرن الماضي، حيث كان يرسل إلى القصر رسائل ودية، كان يتلقى عنها ردودا رسمية تشكره على إخلاصه للعرش.
أما معلمه باحماد فقد كان ينحدر من أسرة مخزنية، حيث كان والده حاجبا لا يمارس السياسة ولا يفقه فيها أي شيء. لكن ابنه باحماد كان يرى كيف أن عائلات مخزنية مثل الجامعي والكباص، بنسليمان، بناني، بنجلون، بركاش وآخرين، كانوا يحتكرون المناصب الرفيعة بين الوزارات والدواوين والمحاكم ودور الضرائب، وأحس أن عليه أن يقوم بشيء ما من أجل عائلته، التي لم تكن تتوارث سوى منصب الحجابة.
وهكذا حاول باحماد بعد وفاة والده، أيام المولى الحسن الأول، أن يسعى إلى ترقية بإعلان الحرب ضد هؤلاء الوزراء، وانتقم من أسرة الجامعي التي رفضت استوزاره وذهبت تشتكي منه إلى المولى الحسن الأول. لكن هذا السلطان العلوي أدرك أن باحماد مخلص له بشكل كبير، ودعم طموحاته لكي يصبح وزيرا في الدولة. المصاهرة لعبت دورا كبيرا في استوزار باحماد ودخوله التاريخ. وهكذا صار ابن الحاجب في القصر رئيسا للوزراء وسير وزارات المغرب بقبضة من حديد، حيث قام بأعنف حملة تطهيرية في تاريخ الدولة العلوية وشنق بعض الموظفين في الساحات العمومية، ليكونوا عبرة لغيرهم ممن اغتنوا باختلاس أموال الدولة أو سرقوا من خزينة الضرائب في الموانئ، خصوصا ميناء الصويرة. وعندما أوشكت أيامه على الانتهاء مع مطلع سنة 1900 بالضبط، التزم داره بعد أن أدى وظيفة تاريخية تتمثل في ضمان انتقال العرش إلى أصغر أبناء الحسن الأول. ليصبح «باحماد» أشهر خادم دولة في تاريخ المغرب.
الزواج للوصول إلى السلطة..
عدد من الباحثين المغاربة، على رأسهم الدكتور المغربي علي بنحدو، ثم عبد الرحيم العطري، أكدوا أن العلم والسلطة الدينية ليسا وحدهما مفتاح الوصول إلى المناصب المخزنية، وأكدوا أن المصاهرات لعبت أيضا دورا كبيرا في وصول بعض الأسماء المخزنية إلى الاستوزار.
كانت القبائل المغربية في تاريخها تسعى دائما إلى مصاهرة الدولة العلوية، لكي تضمن لأبنائها الوصول إلى أكبر عدد من المناصب. بينما كان مخزنيون صغارا، لا ينتمون إلى عائلات معروفة، على موعد مع التاريخ لكي يصبحوا وزراء ومستشارين كبارا في الدولة.
الذين كانوا ينتمون إلى القبائل المتحالفة مع المخزن، في أيام السيبة على وجه الخصوص، أي قبل قرن ونصف القرن من اليوم، حرصوا على أن يزوجوا بناتهم من القصر الملكي، واستغلوا زيارات المولى الحسن الأول، ثم المولى عبد الحفيظ فالمولى يوسف من بعده، إلى حدود 1912، لكي يقدموا بعض بناتهم جاريات في القصر الملكي، معززين حظوظهم في مصاهرة القصر الملكي.
كانت أخت المدني الكلاوي مرشحة لكي تكون زوجة المولى عبد الحفيظ. هذا الأخير، حسب «زمن المحلات السلطانية» لـ«لويس أرنو»، فطن إلى أن عائلات الباشوات الكبار كانت تطمح إلى مصاهرته، وعلم من مقربيه أن العادة المخزنية تقتضي أن تقامر تلك العائلات باحتمال أن يكون ولي العهد من رحم بناتهن، لكي تصل إلى هرم السلطة.
سبق للمولى عبد الحفيظ سنة 1909 أن طلق إحدى الجاريات اللواتي أهدين إليه من قبائل منطقة مراكش، بسبب طموح والدها غير المحدود في أن يصير من كبار رجال المخزن. هذه المصاهرة التي أنهاها المولى عبد الحفيظ عندما علم من مقربيه بنوايا صهره، تسببت في خلاف في قلب دار المخزن، حيث إن أخ السلطان وكان اسمه عرفة فطن إلى أن ابنه محمد كان يرغب في الزواج من تلك الفتاة التي كانت تعيش في دار المخزن، وعارض ذلك الزواج قبل أن يشرع الابن في الفرار من القصر، واتضح لاحقا أن الابن لم يكن سوى محمد بن عرفة، الذي كان سلطانا غير شرعي للمغرب بعد نفي الملك محمد الخامس.
لقد كان في شبابه يرغب في تلك المصاهرة، نظرا للدعم الكبير الذي سيقدمه له أصهاره، في حال زواجه من ابنتهم، لكي تكون وراءه قاعدة عريضة من القبائل، تناصره لكي يصل إلى السلطة. لكن ذلك الزواج لم يتم.
أما المخازنية البسطاء الذين دخلوا التاريخ، فقصصهم تستحق فعلا أن تروى، لاسيما وأن المراجع الأجنبية أفردت لبعضهم صفحات كاملة، لتنقل إلى أوربا ومنها إلى العالم واحدة من أغرب قواعد الوصول إلى السلطة في المغرب.
كانت الولاءات تُشترى بالمصاهرات، ولم يكن الوصول إليها سهلا أو متاحا للجميع كما يعتقد البعض، بل كان تحقيقها يتطلب ذكاء غير عادي، توفر في هؤلاء الذين سوف نتناول قصصهم في هذا الملف، لكي ينتقلوا من القاع، حيث يتكاثر المتنافسون على مناصب بسيطة وعادية في سلك المخزن، ويضربون بأقدامهم لكي يصعدوا إلى القمة ويتربعوا على عرش الوزارة.
ولولا المصاهرات لما كانت كلمتهم مسموعة في أوساط المخزن. لقد كانت القاعدة تقتضي أن يتم معاملة المتزوجين من العائلات المخزنية معاملة خاصة. كان الحظ يلعب أيضا دورا كبيرا في تلك الزيجات. أن يكون المخزني واقفا في المكان الصحيح خلال التوقيت الأصح، كان الشرط الوحيد لولوج عالم خدام الدولة المرموقين الذين دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه، وكتبت أسماؤهم في السجلات المخزنية وقصص «دار المخزن».
حكاية قايد صاهر خدام الدولة وأصبح وزيرا «بلا خبار» المخزن
قبل أن يتوفى محمد الرابع سنة 1873، كان التاريخ المغربي على موعد مع أحد خدام الأعتاب الشريفة الذين دخلوا التاريخ بطريقة غرائبية وغادروا دار المخزن بطريقة مذلة.
اسمه ولد الغزواني، رغم أنه عُرف في مراكش باسم «القايد ماينو». حاول منذ سنة 1859 الوصول إلى منصب في السلطة رغم أنه لم يكن من عائلة مخزنية، وبدأ مساره مرافقا لأحد قياد منطقة الأطلس المعروفين ببطشهم، وجاء الباحث الأسكتلندي «غافين ماكسويل» على ذكره في كتاباته رغم أنه لم يعاصره، وإنما وجد حكايات عنه لدى قبائل نواحي مراكش التي زارها خلال القرن الماضي، وأصدر كتابه عنها سنة 1969.
ورغم أنه لم يعاصر هذا القايد، إلا أنه وجد حكايات عنه تلوكها الألسن بعد مائتي سنة تقريبا على وفاته. أي إنه دخل التاريخ فعلا، رغم أنه كان مجرد نكرة ولا ينحدر من أصول مخزنية.
لم يكن سهلا الوصول إلى السلطة في منطقة مراكش، بحكم أن عائلات كانت ترث ثقة المخزن ودار الحكم أبا عن جد، ولم تكن لتسمح لعائلة جديدة أن تُزاحمها على السلطة.
يُرجح أيضا أن يكون اسم القايد «ماينو» مجرد لقب للسخرية من أصوله المتواضعة. تقول الحكاية، كما نقلها السيد «ماكسويل» إن هذا الرجل كان مجرد مرافق لأحد القياد، وكانت قوته أنه يتقن الكتابة والقراءة. فحاول مرة أن يكتب رسالة بتوقيع القايد ويرسلها إلى أحد النافذين المخزنيين الكبار فيها توصية باستقباله وإكرامه. وفعلا نجحت خطته بعد أن استطاع كتابة الرسالة وتوقيعها بخاتم القايد في غفلة منه، وحمل الرسالة متوجها بها إلى مراكش، التي كانت وقتها عاصمة عسكرية للمغرب.
بعد تلك الخطوة أصبح بإمكانه مخالطة أبناء دار المخزن والشبان الذين يعملون في دواوين وزراء دولة محمد الرابع، وكانوا كلهم أبناء العائلات المخزنية. وكان في كل مرة يريد فيها اقتحام الأوساط النافذة، يشهر الرسالة التي تحمل اسمه بتوقيع صحيح، لكنه بدون علم دار المخزن.
وهكذا رشح اسمه من مراكش إلى فاس، ليصبح أحد القياد الشبان الذين عينهم المولى محمد الرابع في الإصلاح السياسي الشهير الذي قام به في السنوات الأخيرة لحكمه، ما بين سنتي 1863 و1864.
وعندما أصبح يتمتع بسلطات قائد من قياد منطقة فاس الذين لازموا القصر الملكي، أصبح موضوع زواجه ميسرا، حيث إن عائلات كبيرة في فاس كانت تريد مصاهرته، خصوصا وأن أصوله في الأطلس لم تكن معروفة، وظن الجميع أنه عين بتوصية كبيرة وبدعم من وزراء الدولة، لاسيما أسرة الجامعي والكباص والفيلاليين.
تزوج القايد من أسرة أحد كبار ولاة دار المخزن، واستمر الزواج لخمس سنوات فقط. ورشح فعلا للوزارة مباشرة بعد زواجه. ولا يوجد إثبات رسمي على تقلده المنصب الوزاري، إلا أنه كان من الموظفين المخزنيين المرموقين في فترة حكم المولى محمد الرابع، ومن موظفي المجالس الوزارية الذين كانت صلاحياتهم في دار المخزن تتجاوز بكثير صلاحيات الوزراء أنفسهم.
وبعد أن اطمأن إلى أن حلمه قد تحقق، سرت أخبار في فاس سنة 1870 مفادها أن المخزني النافذ المقرب من السلطان وحاشيته، وصهر دار المخزن لم يكن إلا مزورا، فبعد أن وصلت شهرته إلى بقية خدام الدولة في مختلف مناطق المغرب، اشتكى منه بعض قياد منطقة الأطلس، ومنهم والد القايد المدني الذي كان وقتها في آخر حياته، ورفعوا مكتوبا إلى القصر الملكي يحذر من طموحات ابن منطقتهم اللامتناهية، ذاكرين أنه كان مجرد خادم بسيط وانقطعت أخباره، قبل أن يدركوا أنه أصبح موظفا مخزنيا راقيا.
وهكذا اضطر القايد «ماينو» في البداية إلى الهروب من فاس، قبل أن يلقى عليه القبض على يد بعض المخزنيين، ويتمتع بعفو من السلطان محمد الرابع شخصيا، وانقطعت أخباره بعد إجباره على طلاق ابنة دار المخزن التي أوصلته إلى الوزارة. وصارت قصته رمزا للتشفي وأيضا للعبرة من مخاطر الطموح غير المحدود.
المخزني الذي كافأه المولى إسماعيل بالزواج من بنات القصر
كان المولى إسماعيل (1672 إلى 1727)، حسب مراجع تاريخية محلية وأجنبية أيضا، حريصا على تماسك اللحمة العائلية للمحيطين به.
كان هذا السلطان العلوي الذي وصلت شهرته إلى فرنسا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال، يحرص على أن يحيط نفسه بمن يثق فيهم فقط، وقاد حملات لتطهير المخزن من الانتهازيين والموظفين الفاسدين، ونسجت عنه في الحكايات الشعبية أساطير، تعززت بوجود سجون في عهده مثل سجن «قارا» بمكناس، عاصمة حكمه، والذي يعتبر اليوم من أحد أكبر سجون العالم التاريخية. هذه الأساطير تتعلق بمعاقبة خدام المخزن وإرسال الوزراء والموظفين إلى السجن، بسبب قضايا الفساد التي لاحقتهم والشطط أيضا في استعمال سلطتهم.
المصاهرة كانت وسيلة ناجعة للوصول إلى محيط المولى إسماعيل، بالإضافة إلى السلطة الدينية. وهذا المعطى أكده باحثون اجتماعيون مغاربة مثل عبد الرحيم العطري، بالإضافة إلى الدكتور علي بنحدو، صاحب «نخب المملكة».
وقد تحدث بعض السفراء الأجانب الذين زاروا المولى إسماعيل عن قصص مثيرة من قلب دار المخزن كما شاهدوها. قد تكون تلك القصص تتضمن بعض المبالغات، لكن الأكيد أنها توثق لتلك المرحلة، وتصف بعض أجوائها التي أغرت الكثيرين بدخول دار المخزن.
أولاد المولى إسماعيل كانوا سبب عدم ثقته في عدد من خدام المخزن، خصوصا أن بعضهم ثاروا ضده وهو ما توثقه إلى اليوم رسائل اليوسي إلى المولى إسماعيل، وهو العالم الكبير المعارض للسلطان، الذي حذره في رسائل من موظفيه وأبنائه أيضا.
وسط كل هذا لم يكن المولى إسماعيل يتردد في إعلان الحرب ضد أبنائه الذين انقلبوا عليه، وهو ما توثقه رسائل المولى إسماعيل نفسه والتي جمعها الناصري في كتابه «الاستقصا».
كل هذا جعل المولى إسماعيل يكافئ المخلصين له لخلق درع قوي للدولة. أحد هؤلاء جندي بسيط في جيش المولى إسماعيل، كان له دور كبير في إنقاذ حياة أحد أبناء المولى إسماعيل الذي ذهب بأمر من والده لكي يقاتل أخاه الأكبر، ويجبره على العودة إلى القصر بعد أن أعلن التمرد. هم بعض المرتزقة بقتل ابن المولى إسماعيل، وكان اسمه عبد الله، فحماه ذاك الجندي البسيط وتلقى الطعنة مكانه. وحمله عبد الله بن المولى إسماعيل معه لعلاجه ومكافأته على حمايته. وعندما وصل الخبر إلى المولى إسماعيل بعد انتهاء المواجهات، وكان وقتها قد تحرك بجيشه من مكناس إلى مراكش، أمر بإحضار الجندي إليه، وكافأه أمام وزراء الدولة وأمره بالتوجه مباشرة إلى القصر بمكناس، حيث عمل المولى إسماعيل على تزويجه من إحدى بنات عائلة من العائلات المستقرة في قلب قصر المولى إسماعيل، ليصبح موظفا مخزنيا دخل التاريخ وروى قصته الأسرى الأجانب الذين اعتقلوا في المغرب خلال تلك الفترة، وأبرزهم الأسيرة «جانيت» التي كتبت بالبرتغالية يوميات أسرها الذي استمر لسبع سنوات، وكانت من جواري القصر الملكي، قبل أن يسمح لها بالعودة إلى بلادها بعد اتفاقية صلح بين البلدين.
بنيعيش.. مخزني أصبح كاتب ديوان بالقصر بعد زواج من ابنة وزير
في عهد المولى سليمان (1792-1822)، حسب ما ذكره السيد «ريدموند هاي»، عاش أحد المخزنيين البسطاء قصة مثيرة رويت لهذا السفير البريطاني، الذي كان يتردد على القصر الملكي في فاس كثيرا لإبرام اتفاقيات تجارية وسياسية أيضا مع المغرب.
حكى الموظف المخزني للسيد «هاي»، أن الواقعة حدثت قبل سنوات على وصوله إلى المغرب، وأن هذا المخزني بنيعيش كان مجرد حارس بوابة في أحد منازل القصر الملكي، حيث كان يقيم بعض الموظفين المخزنيين.
لكنه وقع عليه الاختيار لكي يرافق أحد أبناء السلطان محمد الرابع، إلى الحج. وعند العودة، رقي المخزني لكي يصبح حارسا على بوابة المولى سليمان عندما أصبح سلطانا للمغرب.
كان بنيعيش شخصا بسيطا للغاية، من أبناء «المخازنية» الذين عملوا في القصور الملكية وورثوا تلك المهنة عن آبائهم. وكانوا خلال سنوات الأزمات لا يحصلون على أجورهم، ويبقون في خدمة القصر الملكي حتى عندما يتم تخييرهم بين الرحيل والبقاء، وكانوا يختارون البقاء لأنهم كانوا مقتنعين أن المهنة التي توارثوها تبقى إرثا عائليا تاريخيا، ولو أنه لم يجر عليهم الجاه والمال الذي يتمرغ فيه الوزراء والأعيان.
حياة الحراس المخزنيين كانت متشابهة وفي التاريخ المغربي قصص كثيرة من قلب دار المخزن، مثل التي جمعها المؤرخ عبد الرحمان بن زيدان الذي كان ينتمي إلى الأسرة الملكية، وحرص على جمع تاريخ الدولة العلوية وكتب عن حياة الملوك المغاربة ويومياتهم.
هذا الأخير كتب في «العز والصولة»، أن الحراس المخزنيين كانوا يتوارثون ذلك المنصب لمئات السنين وكانت تتم تربيتهم على عدم تتبع أخبار سكان دار المخزن، وألا يتحدثوا لأحد عن الأسرار التي كانوا يسمعونها أو يرونها. ولذلك كان توارث ذلك المنصب مهما، لأنه يتطلب توفر شروط صارمة منها الأمانة، العفة وعدم إفشاء الأسرار.
لم يكن «الطموح» من تلك الشروط. وبنيعيش كان طموحا للغاية، لكن طموحه لم يظهر لأحد. ظل واقفا لسنوات أمام بوابة من البوابات التي كان يعبرها السلطان المولى سليمان.
أمر أحد مستشاري المولى سليمان، الحارس بنيعيش بحمل رسالة سرية إلى أحد وزراء المولى سليمان وكان هذا الوزير على فراش المرض. وبعد تردد قبل بنيعيش بالمهمة، وتكرر طلب الوزير في أن ينقل رسائل بين الوزير المريض بشكل سري وبين السلطان.
وكانت تلك الفرصة الوحيدة للوزير حتى لا يتم الانقلاب عليه، فبعض خدام المخزن استغلوا مرض الوزير وحاولوا تسميم علاقته بالسلطان وقطعها نهائيا. لكن الحارس بنيعيش كان صلة الوصل الوحيدة بين الوزير والسلطان.
وفجأة وجد هؤلاء الوزراء السلطان المولى سليمان ينادي البواب بنيعيش لكي يحمل رسالة سرية منه إلى وجهة لا يعلمونها، وفهموا لاحقا أن الأمر يتعلق بالوزير الذي عاد من مرضه بقوة، وكانت النتيجة أنه كافأ الحارس بنيعيش بأن زوجه بعد موافقة السلطان المولى سليمان من ابنته، ليصبح الحارس المخزني صهرا لوزير المولى سليمان، وتمت ترقيته ليصبح كاتب ديوان الوزير، وبعده تقلد مناصب مخزنية أخرى قبل أن يتوفى في قلب دار المخزن.
الحسن الثاني أحيا التقاليد المخزنية وحرص على تزويج مقربيه
عندما كان الملك الراحل الحسن الثاني وليا للعهد، وبالضبط سنة 1952، كان الفرنسيون كما حكت الصحافية الأمريكية «مارفين هاو» يعرفون أن ولي العهد يتردد بكثرة على مصحة خاصة كان يرقد فيها فتى من دار المخزن، لم يكن من أبناء الملك الراحل محمد الخامس، لكنه حظي برعاية خاصة من ولي العهد شخصيا. وسرت الإشاعات والفضول في أوساط الفرنسيين في الرباط لكي يعرفوا صلة القرابة التي تجمع بين ولي العهد في المملكة، وشاب يافع صغير السن.
ولاحقا تبين أن الطفل لم يكن إلا ابن واحدة من خادمات دار المخزن، اللواتي كان ولي العهد يقدرهن بحكم أنه ترعرع وسطهن في القصر الملكي.
كان الطفل المريض نتيجة زيجة مخزنية بين أحد المخازنية في عهد المولى يوسف، وواحدة من الجواري التي قدمت للمولى يوسف، ليزوجها بالمخزني مكافأة له على إخلاصه للمولى يوسف. وفضل الزوجان البقاء في دار المخزن بعد الزواج ليستمر الزوج في خدمة السلطان محمد بن يوسف، بينما الزوجة كانت تعمل في جناح الحريم مرافقة للأميرات. وهكذا قضى ولي العهد طفولته بين تلك الوجوه، حتى مع وجود مربيات فرنسيات عصريات، إلا أن الأجواء التقليدية والمخزنية ظلت طاغية على أجواء القصر، بالإضافة إلى أن الملك الراحل محمد الخامس كان يوصي دائما بأن يترعرع أبناؤه وسط التقاليد المرعية والمزاوجة بينها وبين التعليم العصري.
تحدثت الصحافة الفرنسية في الدار البيضاء عن الوجه الإنساني لولي العهد، الذي حرص على زيارة طفل مريض في المصحة بشكل شبه يومي، وازداد الفضول في أوساط الفرنسيين خصوصا بعد سريان إشاعات، كما تقول الصحافية «مارفين هاو»، نقلها الممرضون عن كون ولي العهد يحرص في كل زيارة على أن يأتي معه بمرافقين يحملون الهدايا للصبي المريض.
الأكثر من هذا أن الحسن الثاني وهو شاب، ثم بعد أن أصبح ملكا سنة 1961، كان يحرص دائما على رعاية زواج فتيات دار المخزن، وحرص على تزويجهن بنفسه واختيار أزواجهن. وحكت مليكة أوفقير، ابنة الجنرال أوفقير، التي تربت في القصر الملكي بأمر من الملك الراحل محمد الخامس، أن الملك الحسن الثاني كان حريصا على الحياة الخاصة للعائلات المخزنية، وكان بعض سكان القصر يطلبون منه اختيار أزواج لبناتهم، وكان الملك يرشح أزواجا من العاملين في القصر الملكي، ويهدي إلى الزوجين هدايا قيمة، ويحضر شخصيا حفل الزفاف بل ويشرف على تفاصيله.
بعض تلك الزيجات المخزنية، تحدث عنها عبد الكريم الفيلالي، مؤرخ المملكة السابق، والتي كان هو شخصيا إحدى نتائجها، وقال إنها كانت أساسية لاستمرار وهج دار المخزن، حيث كان يتم تزويج المخزنيين من فتيات في قلب دار المخزن، وهناك وزراء مغاربة طلبوا يد فتيات في القصر الملكي لأبنائهم من الملك الحسن الثاني شخصيا، ومن خلال تلك المصاهرات ضمنوا لأبنائهم الوصول إلى مناصب مخزنية وأخرى إدارية، واستحق فعلا هؤلاء «المخازنية» صفة «دخول التاريخ المغربي من بابه الواسع».