تاريخ.. هكذا استغلت فرنسا مغربيات جنسيا خلال الحرب العالمية الثانية
مع الأخبار
«لماذا لم يعترف لهن أحد بالبطولة؟ رغم أنهن جئن من الموت وهطل عليهن الرصاص وحلقت فوق رؤوسهن الطائرات. بعضهن ذهبن بصفة «زوجة» ورافقن أزواجهن، وهذا ما تؤكده وثائق رسمية سننشر مضامينها هنا. وأخريات ذهبن قسرا، قادهن حظهن العاثر لركوب البواخر المتجهة نحو جبهات القتال من ميناء الدار البيضاء، في مناسبتين: الأولى في الحرب العالمية الثانية سنة 1944 والثانية بعدها بسنة واستمرت لتسع سنوات.
السيدة التي وافق ابنها على أن نجلس معها لكي نحصل على إجابات، بحكم أن زوجها اصطحبها خلال حرب الهند الصينية منتصف الأربعينيات قبل عودته منتصرا من الحرب العالمية الثانية وهو يتأبط بندقيته مرتديا نفس جلباب «الكوم»، تبلغ اليوم من العمر حوالي 90 سنة. بدأت تتأثر بعلامات الزهايمر. لكنها لا تزال تحتفظ بصور وأصوات من الماضي.. احترمنا هنا رغبة العائلة بعدم نشر صورتها احتراما لخصوصيتها ولذكرى العائلة، خصوصا وأنها تزوجت مرة أخرى بعد الاستقلال وعاشت حياة أخرى..
ننقل أيضا قصة أستاذ من أسرة التعليم، التقى صدفة بواحدة من الناجيات وكتب عنها، وبدا أن حظها كان أسوأ من الأولى، إذ أنها كانت تعاني شظف العيش إلى آخر أيام حياتها، وتوفيت أسابيع بعد لقائه بها.
أستاذ يحكي عن قصة سيدة تؤكد استغلال فرنسا لفتيات مغربيات في الحرب
«في زيارتي الأخيرة لبعض المعارف الأجانب الذين يقطنون قرب شلالات أوزود، استرعت انتباهي امرأة عجوز تتحدث لغة فرنسية مختلطة بالأمازيغية، لكنها سليمة. تضغط على حرف الراء مكان الغين بقوة حتى تبدو لثتها. أما أسنانها فقد تساقطت واحدة تلو الأخرى، بعد سقوط كرامتها من زمان..
في البداية، لم أفهم كيف أن سيدة أمازيغية عجوز، تبدو عليها علامات البؤس والشقاء تتحدث اللغة الفرنسية. دفعني الفضول إلى مبادرتها بالسؤال: كيف وأين تعلمت اللغة الفرنسية؟ أرسلت السيدة شهقة عالية خالية من روح الفرح، فأجابت فورا: في الصين.
يا إلهي! ماذا تقولين؟ ظننتها للوهلة الأولى أنها تمزح. أو أنها ليست في كامل وعيها. يبدو أنك لا تعرف قصتي. قالت لي، وهي ترى الدهشة على ملامحي. ثم استرسلت تحكي قصتها الأليمة: لقد قضيتُ سنتين رفقة فتيات مغربيات أخريات. كنا 13 فتاة. تم اختيارنا سنة 1950 لمرافقة الجنود المغاربة».
الكلام هنا لأستاذ في وزارة التربية الوطنية، اسمه جمال أسكى. عندما نشر هذه التدوينة في حسابه، قبل ثلاثة أشهر، كنتُ قد وجدت معلومات عن الموضوع في أرشيف مكتبة كاليفورنيا، عبارة عن مقال باللغة الإنجليزية، يحمل العنوان التالي: «المحاربون الكوم المغاربة.. الجنود الوحيدون الذي سُمح لهم بإحضار نسائهم إلى الحرب».
لم يسبق نهائيا أن أثير موضوع النساء المغربيات في الحرب العالمية الثانية، وأحيط به تكتم كبير حتى بالنسبة للأكاديميين.
اتصلتُ فورا بالأستاذ الذي نشر التدوينة في شتنبر الماضي، خصوصا وأني كنت أبحث في الموضوع وأخبرني أستاذ باحث أنه سبق له خلال سنة 2008 أن حاول التنقيب في الموضوع تحضيرا لرسالة الدكتوراه، لكن المشرفين أخبروه أن يتجنب الموضوع «لعدم توفر معطيات كافية من الناحية الأكاديمية» يقول.
اتفقنا بعد حديث قصير أن نتحدث هاتفيا. كنت أرغب في أي معلومات عن السيدة التي يقول في تدوينته إنه التقاها بالصدفة في منطقة جبلية على مرمى حجر من الأطلس الكبير. لكن جوابه كان مؤسفا: «لقد التقيتها فعلا، وما أثار انتباهي هو لغتها الفرنسية رغم منظرها الذي يكشف الظروف العصيبة التي كانت تعيشها في منطقة جبلية ونائية. لكن للأسف بلغني خبر وفاتها أسابيع قليلة بعد لقائي بها. لا أخفيك أنني كنت أخطط للقائها في المنطقة في زيارتي المقبلة لكي أسجل قصتها التي بدت لي مثيرة للغاية».
انقطع الخيط. بقي أمامي خيط وحيد هو المبحث الأكاديمي الذي تخلى عنه صاحبه «لشح المعلومات». كان كل ما أتوفر عليه هو أرشيف تلك المقالات التي تتضارب بين حالتين: مغربيات اصطحبهن أزواجهن الشرعيين إلى الحرب، سواء خلال الحرب العالمية الثانية أو خلال حرب الهند الصينية التي بدأت في منتصف الأربعينيات واستمرت لعشر سنوات تقريبا. ثم حالة أخرى، وهي أكثر إحراجا، تتمثل في فتيات مغربيات تم حشرهن في السفن التي أقلت «الكوم» المغاربة خلال الفترتين معا.
في الحالة الأولى، حسب المعلومات التي توفرت لدى أرشيف جامعة كاليفورنيا، والاقتباس هنا من وثيقة موقعة باسم باحث في تاريخ شمال إفريقيا اسمه «ماثيوس شانين»: «ربما كان المغاربة الاستثناء الوحيد، حيث سمح لهم باصطحاب زوجاتهم خلال الحرب العالمية الثانية. والسبب هو مشكل اغتصاب مواطنات إيطاليات على الحدود مع فرنسا، غير بعيد عن معسكر «الكوم» المغاربة الذين كانوا يعسكرون هناك لحماية الحدود من المد الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. كان هذا في سنة 1944. عندما انفجر الموضوع في الصحافة، فكّر قادة الجيش الفرنسي في حل للخروج من المأزق، ومخافة ألا يتكرر الأمر وتكون الضحايا فرنسيات، فقد سُمح لبعض أفراد الفوج باصطحاب زوجاتهم معهم. وفعلا بعد عودتهم إلى المغرب وتجديد عقودهم مع الجيش الفرنسي، أحضر بعضهم زوجات معهم».
هل انتهى المشكل بهذا الحل الغريب؟ ثم ما الضمانات أو التعويضات التي قدمت لهؤلاء الجنود لكي يصطحبوا زوجاتهم معهم إلى ساحات الحرب؟ تبقى القضية لغزا فعلا.
أما الفتيات اللواتي لم يكن متزوجات، مثل الحالة التي أثارها الأستاذ جمال في تدوينته، فإن موضوع استغلالهن جنسيا، سواء على يد الجنود المغاربة أو «الكوم» كما يُعرفهم التاريخ، أو على يد جنود من جنسيات أخرى شاركوا في الحرب العالمية الثانية أو الحرب الهند الصينية، يبقى واردا، وبقوة.
قصة سيدة تمسكت بوصية زوجها.. وبدأ الزهايمر يخلصها من الذكرى
بضعة اتصالات أحيت صفحات المفكرة، كانت كفيلة بإيجاد عائلة السيدة فاطمة، أو «لالة فطوم» حتى نكون أكثر دقة. لحسن الحظ أن ابنها الذي يعيش معها رفقة أبنائه في مدينة المحمدية التي انتقلوا إليها بعد سنوات طويلة من الإقامة في الدار البيضاء، لم يغير رقمه الهاتفي، وإلا لضاعت السيدة وذابت كفص ملح.
عندما كتب الأستاذ الباحث التهامي النجار رقم الابن المختار، نبهني إلى أنه لا يجب أن أثير الموضوع إلا بعد الجلوس معه بشكل مباشر وليس على الهاتف، لأنه سوف يمانع على الفور.
التقينا على فنجان قهوة في مكان هادئ. رفض في البداية، وشدد على ضرورة احترام الحالة الصحية لوالدته التي ذهبت مع زوجها الأول إلى حرب الهند الصينية ورأت أهوال الفيتنام والقصف والمدافع لتعود معه إلى الدار البيضاء وتلازمه إلى أن توفي. وفي الأخير وافق شريطة ألا يثار اسمه العائلي، عملا بوصية والده الذي توفي قبل 20 سنة، وقضى حياته رافضا أن يسمع ذكريات زوجته التي اقترن بها بعد وفاة زوجته الأولى، مع زوجها السابق الذي كان معروفا في المدينة القديمة في الدار البيضاء خلال بداية الخمسينيات بـ «قدور العسكري».
كيف قرر هذا العسكري الذي انتمى إلى «الكوم» خلال نهاية الأربعينيات أن يتزوج فتاة صغيرة السن بالكاد لم يتجاوز سنها 15 ربيعا، ويأخذها معه لترافقه خلال الحرب ويعيدها لكي تتقاعد معه قبل أن يتركها أرملة قبيل استقلال المغرب لتبدأ استقلالها الشخصي عن تلك الحرب التي جعلت منها أسيرة تلك الذكريات. ماذا تحمل في ذاكرتها عن تلك الحرب؟ لِنتابع.
عائدة من «لاندوشين» تتحدث: أخذني زوجي إلى الحرب وهكذا نجوت من القصف والرصاص
«لم يكن لقاؤها أمرا متوقعا. حدث هكذا بدون مقدمات. آخر ما كنتُ أتوقعه هو أن ألتقي واحدة من «الناجيات». صلة الوصل كانت طالبا باحثا في مسلك الدكتوراه، ينحدر من منطقة «إداوتنان» التابعة لمدينة أكادير. وبحكم أن السيدة تنحدر من المنطقة أيضا وسبق له أن سمع قصتها في القرية دون أن يكون هناك أي تدقيق في الموضوع، فقد اختار محاولة لقائها ونجح فعلا في الجلوس معها، لكن التفاصيل التي جمعها، حسب أستاذه المشرف على البحث، لم يكن كافيا لبناء أطروحة أكاديمية. وأُقبر الموضوع.
بالنسبة لي، كانت تدوينة قصيرة لأستاذ تعليم اسمه ذ. جمال أسكي قال فيها إنه التقى سيدة أمازيغية مُسنة تتحدث الفرنسية في منطقة جبلية بالجنوب، كافية لكي يعود الأمر إلى الواجهة.. ماذا سنخسر إذا سمعنا ما تقول هذه السيدة، حتى لو كانت غير مُلمة بكل جوانب الموضوع؟ وهكذا كان..»
هي الآن مُقعدة. هذا ما قيل لي. قضيتُ الطريق إليها وأنا أحاول جاهدا ألا أعقد آمالا كثيرة على لقائها، خصوصا وأن ابنها الأصغر المختار، البالغ من العمر 64 سنة، أثار انتباهي إلى بداية تأثر السيدة بعلامات مرض «الزهايمر» الذي يفتك بالذاكرة.
وصلنا مدينة المُحمدية في العاشرة صباحا، وهو الوقت الذي يتزامن مع طقسها اليومي في ترديد بعض أهازيج الجبل التي رددتها الأمازيغيات لقرون خلت في مناطق الأطلس المتوسط والصغير أثناء القيام بالأشغال الفلاحية.
حاول ابنها، ف.المختار ، الذي يقطن معها، أو تقطن هي معه على الأصح، أن يُعرفها بالغرض الذي جئتُ من أجله. دنا برأسه المشتعل شيبا قرب أذنها: «هذا الشاب صحافي جاء خصيصا لكي يسمع حكايتك».
ثم جاء صوتها عميقا بشكل مفاجئ: «أية قصة؟».
يبدو أن خيبة أمل تلوح في الأفق. سيكون مؤسفا ألا تكون السيدة في كامل وعيها هذا الصباح.
يقول ابنها المختار مُعرفا بقصتها: «أنا وُلدت سنة 1955، وأنا أصغر أبناء والدتي «فاطيم» من زوجها الثاني الذي توفي سنة 2000. كانت تحكي لنا، خصوصا في سنوات طفولتي حكايات عن الحرب والسلاح وعبور الوديان وترتيب السلاح وبناء الخيام. وكانت تفهم ما كنا نقوله أنا وأخواتي البنات اللواتي يعشن الآن بين هولندا والمغرب، عندما كنا نُراجع دروس اللغة الفرنسية.
عندما بدأ وعيي يتشكل، فهمت أنها رافقت زوجها الأول، الذي أنجبت معه أختي البكر في نهاية الأربعينيات مباشرة بعد عودتها من الحرب، وتوفي بالضبط في السنة التي عاد فيها الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، أي سنة 1955.. (رافقت زوجها) خلال الحرب الهند الصينية (1945-1954) لتتزوج والدي من بعده وتُنجب أختي الثانية، بعد أن استقرت الأسرة بشكل نهائي في المُحمدية.
ذكريات الحرب..
كومة من الأدوية موضوعة بترتيب مبالغ فيه فوق طاولة خشبية صغيرة. روزنامة، تقليدية تحمل صورة الملك الراحل محمد الخامس، وتتوسطها عبارة اليومية العصرية لبوعياد»، حديثة العهد، ثم ساعة حائطية تدور بدون توقف. حاول الابن المختار أن يجعلها تتحدث لتجيب عن السؤال: «ماذا تتذكرين من أيام الحرب؟».
تقول: «لقد كنت صغيرة. زوّجني والدي في القرية بزوجي الأول الذي كان يعمل جنديا. جاء إلى منزلنا بجلباب خشن يتأبط بندقيته. أخبر والدي أنه سوف يأخذني إلى الدار البيضاء حيث منزله الصغير في المدينة القديمة، وأنه سوف يتركني مع والدته إلى أن يعود من الحرب. وافق والدي بحكم أنه كانت بينهما معرفة مسبقة، وبعد أسابيع من إقامته معنا في الدوار، قرب إداوتانان (نواحي مدينة أكادير)، اصطحبني معه إلى الدار البيضاء بعد أن مررنا بمدينة أكادير. لكني وجدتُ في الدار البيضاء منزلا صغيرا جدا ولا يقطنه أحد. ويومها أخبرني الرجل الذي تزوجني واسمه «امحمد» أنه يتيم ولا أسرة له وأن المنزل اكتراه للأيام التي سيقضيها في الدار البيضاء قبل أن يعود إلى العسكر».
ربما لم تكن السيدة فاطمة، أو «فاطيم» اسمها الذي يعكس ثقافة الأطلسيات واحتشامهن في الحديث، مدركة للسياق التاريخي الذي جاءت فيه تلك الأحداث. لكن في منتصف الأربعينيات كان بعض الجنود المغاربة «الكوم»، قد شاركوا فعلا في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وأعجب الجنرالات الفرنسيون ببسالة وقوة المغاربة في القتال خلال الحرب العالمية الثانية، واختاروا منهم بعض الأفواج لكي يشاركوا في الحرب الهندالصينية التي اشتعلت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة ولم تنته إلا في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.
تواصل «فاطيم» قائلة: «في أحد المساءات أخبرني زوجي الأول، ويجب أن تعلم أنني لم أر ابتسامته يوما، إنه يتعين عليّ الاستعداد للرحيل معه بحرا. بدأت في البكاء، لكنه نهرني بقوة وأخبرني أنه لم يتزوجني إلا لكي أرافقه بعد أن سمح له رئيسه في الجيش لكي يصطحبني معه وأذكر أنه قال لي: «توقفي عن البكاء. في «الطاليان» سمح الفرنسيون بوجود بعض النساء معنا، واليوم وعدوني أنهم سوف يسمحون لي باصطحاب زوجتي معي. لن يكون عليك سوى طهي الطعام ومرافقتي في الأماكن التي نذهب إليها». ذهبت معه بعد أن منحني جلبابا من الصوف. فقد كان الجو باردا جدا. انطلقنا من الدار البيضاء، ولم يكن مسموحا لي نهائيا بالحديث مع أحد. ركبت الشاحنة، ثم الباخرة، وقضيتُ بها أزيد من شهر، بالكاد كان زوجي يسمح لي فيه بالخروج لرؤية سطح السفينة، ثم أعود إلى غرفته».
«لاندوشين».. العودة من الموت
عندما وصلنا إلى «لاندوشين» اكتشفت أن اثنين من الجنود المغاربة جلبوا معهم زوجاتهم، وكانت هناك فتيات أخريات..»..
(مقاطعا): «كم كان عددكن بالضبط؟». تصمت لبرهة وتواصل: «لا أتذكر. لكن أذكر أنهن كنّ متزوجات برجال مثل زوجي ولم يكن لهن الحق في الحديث مع أحد. أما ثلاث فتيات أخريات، فقد كنّ يعشن مع الجنود بمفردهن وكانت لديهن خيمة خاصة بهن عندما وصلنا إلى منطقة الحرب. لأن الفرنسيين كانوا يأمرنهن بإعداد الطعام، بعكسنا نحن اللواتي بقينا حبيسات مخيم صغير.
كنا نسمع أصوات القصف والطائرات، وأحيانا يستمر صوت الرصاص طوال الليل، وكنت أبكي وأتوقع ألا يعود زوجي لأن أعداد الموتى كانت كبيرة جدا. كنتُ أرى هذه الأمور عندما يحولوننا من مكان إلى آخر. أما زوجي فقد كان يعود أحيانا ملطخا بالدماء. وفي إحدى المرات عاد مصابا في كتفه، وأمروني أن أرعاه إلى أن تعافى. بعد أشهر، لا أذكر بالضبط كم كانت المدة، عدنا إلى المغرب ورفضت أن أعود معه إلى الحرب لأنها كانت أياما عصيبة جدا، فأعادني إلى الدوار، عند والدي وهددني بالعقاب. وفعلا كنت مرتعبة لأني كنت فتاة صغيرة السن. ثم عاد بعد سنة تقريبا واصطحبني خلالها إلى الدار البيضاء، وعشنا بها فترة قصيرة إلى أن توفي، وزوّجني والدي بعد ذلك من رجل آخر من منطقتنا، لكنه يمارس التجارة في الدار البيضاء بعد أن توفيت زوجته الأولى، وعشت معه إلى أن مات. رحمه الله».
ذكريات سرية
يقول الابن، المختار: «والدتي لم تكن واعية بما عاشته. لكن أذكر أن سكان المدينة القديمة في الدار البيضاء حيث قضيت طفولتي كانوا يتحدثون عن المغربيات اللواتي رافقن «الكوم» المغاربة في الحرب بانتقاص كبير وكانوا يطعنون في شرفهن. ووالدتي كانت دائما تتحفظ عن تلك المرحلة من حياتها. لكن أختي الكبرى التي تقيم حاليا في الديار الهولندية رفقة زوجها وأولادها كانت تحكي لي، بحكم أنها وُلدت من الزواج الأول لوالدتي، أنها تتذكر والدها قليلا فقط وأكدت لي أن والدتنا كانت تحكي لها في طفولتها عن الحرب وكيف أنها كانت تضمد جرح زوجها وتحمل له الرصاص لكي يحشو بندقيته كلما أحس بحركات غريبة قرب المخيم. وكانت تحكي لها عن شخص اسمه «جان»، ولا بد أنه كان عسكريا من الذين ترأسوا وحدات الجيش الفرنسي خلال الحرب».
بالنسبة إلى عائلة السيدة «فاطمة»، فإن الحديث عن مرحلة ذهابها إلى الحرب لم تكن أبدا موضوعا مرحبا به في العائلة. خصوصا أن زوجها الثاني، أي والد المختار، كان يغضب عندما يثار الموضوع ويهدد كل من يثيره أمامه بتطليق زوجته. خصوصا مع أحداث نهاية الخمسينيات، بعد الاستقلال، التي كان فيها بعض قدماء المقاومة متابعين بتهم حمل السلاح واختطاف مقاومين سابقين. يتابع المختار: «لم يكن والدي يستوعب أن زوجته سافرت إلى الصين أو الفيتنام، وهذا الأمر عرفناه طبعا عندما تعلمنا في المدارس وصار لدينا إلمام بالأحداث التاريخية. لكن في سنة 1969 سيحدث لي أمر غاية في الأهمية، إذ أن أستاذي في المدرسة طلب مني بإلحاح أن أخبره عن تجربة والدتي بعد أن أثرتها في حصة من حصص الإنشاء باللغة الفرنسية. وأخبرني أن هناك تجمعا لبعض الفيتناميات اللواتي تزوجن مغاربة خلال تلك الحرب (أي حرب الهند الصينية) وعدن إلى المغرب بشكل نهائي مع أزواجهن. أخبرني أن الدولة منحت تلك العائلات أراضي فلاحية قرب مدينة الرباط واقترح عليّ أن آتي بوالدتي لكي نصطحبها بسيارته لكي تلتقيهن. لكن والدي رحمه الله رفض رفضا قاطعا بل وهدد بالطلاق (يضحك) في حالة ما إن فكّرت في الذهاب إلى هناك.
لا تُخبري والدك!
يقول المختار إن أخته الكبرى، التي يتحفظ عن ذكر اسمها هي الأخرى احتراما لحياتها الخاصة كما يقول، حكت له أن والدتها كانت تخبرها عندما وُلد المختار إنها كانت تنذر في صلاتها أن تشكر الله قدر ما تستطيع لأنه كتب لها العودة من الموت. وكانت طبعا، يقول المختار، تقصد بذلك مرحلة حرب الهند الصينية التي عاشتها. سألناه: «هل يمكن أن تكون سيدة أخرى من محيطكم في الدار البيضاء قد قضت فترة الحرب سواء مع الجنود في الهند الصينية أو حتى في الحرب العالمية الثانية؟». يجيب: «في الحقيقة لا علم لي بهذه التفاصيل. لكن في طفولتي خلال نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات في الدار البيضاء، كنا نسمع عن مغاور وبطولات «الكوم»، أي الجنود المغاربة الذين حاربوا مع فرنسا في مرحلة الحرب العالمية الثانية وما بعدها أيضا في الفيتنام والصين. وكان هناك حديث عن اصطحاب فرنسا لفتيات مغربيات في ذلك الوقت لكي «يؤنسن» الجنود. هذا الموضوع كان تداوله محرما في أوساط الأسر المغربية. وأعتقد أن مثل هذه الأحاديث هي التي جعلت والدي صارما في عدم إثارة الموضوع أمامه. فهو يعلم أن والدتي ذهبت رفقة زوجها، شأنها شأن أخريات بطبيعة الحال رافقن أزواجهن بترخيص من ضباط الجيش الفرنسي، رغم أن حياة الزوجات كانت مهددة. لكن مسألة «المؤنسات» اللواتي لم يكنّ متزوجات، جعلت الموضوع أكثر حساسية».
يقول المختار: «كانت أختي تحكي لي عن الوالدة التي كان سنها لا يتجاوز السابعة عشرة عندما أنجبتها، وأنهما كانتا تتسليان معا عندما أنجبتني، خصوصا عندما تحكي لها عما تتذكره من الحرب. عن خوفها من أن تتعرض للقتل في أية لحظة، وعن إحدى المرات التي اصطحبها فيها زوجها، لكي تتجول في مدينة وصل إليها الجيش الفرنسي. ورأت السيارات والسكان الذين كانوا يشبهون الصينيين على حد تعبيرها. تحكي أيضا أنها كانت ترى الطائرات وحلمت بأن تركب طائرة يوما ما. لكن أمنيتها لم تتحقق، فقد كانت رحلتا الذهاب والإياب بالنسبة لها بحرا فقط».
ظهر السبب.. بطل العجب
لماذا كانت الأسرة تتكتم على الموضوع؟ يقول المختار إن الأمر احتاج منه بضع سنوات أخرى لكي يقف على حقيقته. ففي منتصف السبعينيات، عندما بدأ العمل في المنطقة الصناعية بالدار البيضاء حاول مرة إثارة الموضوع مع والده وسأله عن سر امتناعه عن لقاء زوجته بالنساء الفيتناميات فكان جوابه قاطعا. يقول المختار: «قال لي والدي يومها إن الأمر يتعلق بشرف العائلة. فهناك من يتحدث عن العلاقات المشبوهة بين بعض المغربيات والجنود الفرنسيين الذين استغلوهن جنسيا. والناس تتحدث والإشاعات لن تتوقف، ورغم أن والدتك رافقت زوجها إلا أن أغلب اللواتي ذهبن مع الجنود المغاربة في فترة الحرب لم يكنّ متزوجات. هل تريد أن تُمرغ كرامة العائلة وشرفها في التراب؟». يؤكد المختار، الذي رفض بالمناسبة أن نشير إلى اسمه العائلي، احتراما لذكرى والده وأيضا لكي يعفي نفسه كما يقول، من كم الأسئلة التي قد تصله من أفراد العائلة الذين لم يكونوا يعلمون بقصة الوالدة، بعد كل هذه السنوات الطويلة.
لماذا تُخفى حقائق عن المشاركات المغربيات في الجيش الفرنسي؟
حسب أرقام الأرشيف الفرنسي الرسمية. فإن أزيد من 172 ألف مواطن جزائري حاربوا باسم فرنسا في الحرب العالمية الأولى سنة 1914. بينما كان عدد المغاربة لا يتعدى بضعة آلاف، وُزعوا على وحدات عسكرية قليلة.
وفي الحرب العالمية الثانية ارتأى الفرنسيون أن يضاعفوا أرقام المشاركين المغاربة في تلك الحرب، بعد أن لمسوا نجاعة توزيعهم في الميدان.
وزارة الدفاع الفرنسية، في بياناتها خلال الاحتفال بذكرى الحرب العالمية الأولى، والثانية أيضا، تحدثت بشكل رسمي عن عرفان بالدور الذي لعبه «الكوم» المغاربة في حسم نتيجة الحرب لصالحها ودحر الألمان خارج التراب الفرنسي، كما أقاموا نصبا تذكاريا بالمناسبة. لكن لا أحد للأسف تحدث عن دور النساء المغربيات، في الحربين.
في الحرب العالمية الأولى، حسب مقال بصحيفة «لو ميروار» الفرنسية، الصادر في 13 يونيو 1915، والذي عُنون بـ «المرأة التي حاربت كجني حقيقي»، فإن هذه السيدة المغربية التي شاركت في الجيش الفرنسي، كُشف أمرها رغم أنها كانت تتنكر في زي رجالي، ونشرت الصحيفة صورها لتلهم النساء الفرنسيات. كيف وصلت إلى صفوف الجيش، بل وكيف قطعت الرحلة من المغرب إلى فرنسا لكي تحمل السلاح في حرب لا تنتمي إلى أيّ طرف من طرفيها؟
وحسب مؤسسة «نساء في تاريخ العالم»، التي نقلت معلومات عن مؤسسة «Imperialism in north Africa» فإن عدد الصحيفة يبقى المرجع الوحيد لقصة هذه المقاتلة المغربية التي كُتب عنها المقال وتناقله الفرنسيون بكثير من الحماس والفضول. جاء في المقال الذي نشرته المؤسسة باللغة الإنجليزية، وننقل هنا بعض مضامينه مترجمة: «لا تتوفر لدينا معلومات أخرى عن هذه السيدة المغربية أو كيف وصلت إلى الجبهة خلال الحرب. هل تنكرت كرجل خلال رحلتها من المغرب إلى فرنسا؟ هل كانت تعيش في فرنسا قبل الحرب، واضطرت إلى ارتداء لباس الرجال لكي تشارك فيها؟ لا أحد يعلم».
عندما تتأملون الصورة التي نشرتها صحيفة «لو ميروار» الفرنسية، ستجدون أن ملامح السيدة لم تكن لتخطئها العين رغم أنها كانت ترتدي لباسا رجاليا.
إذا كان هذا حال هذه السيدة التي كرمها الفرنسيون لأنها قاتلت من أجل بلادهم خلال واحدة من أعنف حروب التاريخ وأشدها فتكا، فلماذا لم تُكرم ذكرى اللواتي تم ترحيلهن مع الجنود المغاربة «الكوم» لكي يشتغلن خادمات في ظروف لا يستطيع أحد إلى اليوم تقديم توضيحات بشأنها، أو ضمانات بأنهن لم يتعرضن للاغتصاب؟ كم واحدة منهن باقية الآن على قيد الحياة؟ ما مصير اللواتي اصطحبهن أزواجهن بترخيص من رؤسائهم الفرنسيين في الجيش الفرنسي إلى الفيتنام؟ ألم يكن الأمر منافيا للقواعد العسكرية؟ لا أحد، للأسف، يقدم توضيحات في هذا الباب. لكن التفاتة واحدة إلى اللواتي سقطن سهوا، أو عمدا، من كل محافل الاحتفاء التاريخي بذكرى بطولات الحرب العالمية الثانية، ستكون مُبهجة. على الأقل بالنسبة لسيدة قضت نصف قرن تحاول خلاله إخفاء ذكرى، لم يكن محيطها مستعدا بعدُ لإخراجها إلى العلن.