أقدم وثيقة حقوقية في المغرب
مع Télé Maroc
«كان العبيد المغاربة، بالإضافة إلى أنهم عملوا في قلب البلاط وحملوا مسؤولية مناصب حساسة تتعلق بخدمة السلاطين، قادرين على الإدلاء بالشهادة في المحاكم. وهو أمر لم يكن متوفرا في أوروبا وأمريكا، حيث لم يكن العبيد يُعتبرون مواطنين. بل كانت أوروبا وقتها تضعهم في أقفاص وتعرضهم على طريقة «حديقة الحيوان» لكي يتفرج عليهم الأطفال والمواطنون، ورفضوا أن يعترفوا بهم في القوانين الأوروبية باعتبارهم بشرا لديهم حقوق وواجبات.
ورث المولى محمد الثالث الحكم في مغرب «متلاطم» تتقاذفه الأمواج من كل جانب. لكنه كان وراء وضع خطة لإطلاق ثورة ثقافية حقيقية في المغرب، ودعا العالم إلى تحريم العبودية وسن قوانين وتشريعات تُنهي حالة الحرب التي كانت تغرق فيها أوروبا سنة 1777.. من إذن يكون هذا السلطان العلوي الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه، رغم ألا أحد يذكر له هذا السبق التاريخي؟»
محمد الثالث.. أول ملك دعا أوروبا إلى تحرير الأسرى
رغم أنه حكم المغرب في فترة من عدم الاستقرار والحروب، إلا أن المولى محمد الثالث، الذي عُرف عنه منذ حياة والده المولى عبد الله، ولعه الكبير بالأدب والكتب ومجالسة العلماء، كان أول من دعا أوروبا إلى إلغاء العبودية بموجب اتفاق يوقع عليه المغرب وكل الدول الأوروبية يلتزمون فيه جميعا بتحرير الأسرى ووقف الحرب وعدم محاصرة الدول الأخرى ومنع المؤونة عنها. وهو ما كان ثوريا بمعايير سنة 1777، تاريخ الرسالة التي وقعها السلطان محمد الثالث ووجهها إلى كل حكام أوروبا.
من يكون محمد الثالث؟ إذ بالإضافة إلى أنه حفيد المولى إسماعيل، الذي كُتبت عنه الأساطير والروايات، فإنه أيضا كان قد فتح عينيه على مغرب يمر بمخاض عسير. فقد وُلد سنة 1710 في كنف والده المولى عبد الله، في سياق من تسابق أبناء المولى إسماعيل بعد وفاته، على الحكم. وهو ما أدخل المغرب في مشاكل لا حصر لها. ورغم أن والده كان يُحضره لخلافته وعينه خليفة له في مراكش وهو في سن الأربعين، إلا أن الميول الأساسي للمولى محمد، كان يتجه نحو الكتب والعلماء ونظم الشعر وحفظ المتون.
وقد جاء في سيرة محمد عبد السلام ابن محمد الثالث، في كتابه «اقتطاف الأزهار من حدائق الأفكار»، بالإضافة إلى المخطوطات التي اشتغل عليها مؤرخون مغاربة أبرزهم عبد الهادي التازي وعبد الكريم الفيلالي، ما يؤكد هذا التوجه.
أما بخصوص السياق العام لمغرب سنة 1750، ولإدراك أهمية وصعوبة ما دعا إليه المولى محمد الثالث في ذلك الوقت فقد كان المغرب يمر بفترة حرجة جدا، حسب ما جاء في مراجع لعلماء عاصروا المولى محمد الثالث أو جمعوا ما كتب عنه مثل «الاستقصا» أو «سلوة الأنفاس» للقشتالي، وغيرها من مؤلفات المؤرخين والفقهاء المغاربة، فإن المولى محمد الثالث الذي كان يحكم المغرب من مدينة مكناس، ورث عن والده المولى عبد الله ملفا ثقيلا يتعلق بالأسرى الأجانب في المغرب، والذين استعملهم المولى إسماعيل في بناء مدينة مكناس قبل وفاته سنة 1727. إذ كان المغرب محط انتقادات كبرى من طرف الدول الأوربية بخصوص وضعية الأسرى الفرنسيين والإسبان في المغرب، حيث أسرهم الجيش المغربي بعد حروب ضد جيوش أوروبا التي وصلت إلى المغرب بحرا. وخاض المولى إسماعيل حروبا طاحنة وأخرى باردة في الرسائل بشأن تحرير أولئك الأسرى وإعادتهم إلى دولهم. وكان السفراء الأجانب يأتون إلى المغرب في عهد المولى إسماعيل، ويطلبون منه إطلاق سراح الأسرى الأجانب، لكن مطالبهم غالبا ما كانت ترفض، بل ويرفض استقبال بعضهم في أغلب الحالات. وهو ما جعل أولئك السفراء يكتبون إلى ملوك أوروبا مؤكدين أن الأسرى الأجانب كانوا يعيشون ظروفا عصيبة في المغرب.
ولعل الأسير الفرنسي «موييط» الذي كتب مذكراته بعد نهاية أسره في مكناس وعودته إلى باريس لم يكن مبالغا عندما تحدث عن ظروف أسره في المغرب. بل وصل مؤرخون مغاربة إلى دليل على صدق رواية هذا الفرنسي عندما وجدوا توقيعه على جدار قبو في قصر مكناس، كان مخصصا لإيواء الأسرى الذين استعملوا في بناء مدينة مكناس، وهو دليل على أنه كان فعلا أسيرا في المغرب وقتها.
وفي الجهة الأخرى، كان أيضا هناك أسرى مغاربة في أوروبا أسيئت معاملتهم، وقتلوا في مدن أوروبية بعد تعذيبهم، في وقت كان فيه الأسرى الأجانب في المغرب يُعاملون فوق تعاليم الإسلام ويُعرض عليهم اعتناق الدين الإسلامي مقابل تحريرهم.
في هذا السياق الشائك والحساس، وصل المولى محمد الثالث إلى الحكم، سنة 1557، وكان بصدد إطلاق ثورة حقيقية وصل صيتها إلى أوروبا، ودخل التاريخ رغم أن قصة «ثورته» نُسيت تماما..
أول ثورة ثقافية في المغرب جمعتها وثائق وشهادات مؤرخين قبل 250 سنة..
لو لم يكن المولى محمد الثالث حاكما، لكان صاحب مكتبة كبرى يجمع فيها ما تفرق وغاب في غيرها من المكتبات. فقد عرف عنه، وهو دون الأربعين، مجالسته لكبار العلماء ونهله من العلوم الشرعية وتذوقه للأدب. حتى أنه صار صديقا لعلماء كانوا يكنون لجده كثيرا من التقدير، وتأسفوا على صراع أبنائه، أي أبناء المولى إسماعيل، على الحكم بعد وفاته.
هؤلاء العلماء كتبوا وأجادوا في مدح المولى محمد الثالث، وقد جمع أرشيف الأحباس المخزنية، في مجموعة من المحاضرات، أرشيفا مهما لما تناولته الوثائق وكبار المؤرخين المغاربة والعلماء بخصوص سيرة المولى محمد الثالث، الذي يمكن أن نعتبره اليوم أحد أوائل من باشروا ثورات حقيقية في المغرب.
وحسب ما جاء في محاضرة تناولت ما قام به المولى محمد الثالث، ونُشر نصها في «دعوة» الحق، العدد 184، ما يلي:
« من ذلك أنه عهد الى خزانة جده العظيم المولى إسماعيل بمكناس وكانت تضم اثني عشر ألف مجلد ووزعها على جميع مساجد المملكة وحبسها عليها بيعهم نفعها وينتشر خيرها حتى أصبحت الكتب مشاعة بين الخاص والعام .
وامتدت عنايته إلى خزانة القرويين فأصلحهما ورممها وجدد بنيانها وصان نفائسها وجعل لها نظاما خاصا حيث لا تفتح إلا بحضور عدلين رتبهما لهذا الغرض بحضور القاضي والإمام .
وفي ما يتعلق بمناهج الدراسة والتعليم أصدر منشورا بين فيه العلماء إن أول ما ينبغي دراسته هو كتاب الله وأن المقصود من ذلك هو تعلم أحكام الدين ثم تعلم سنة الرسول الله ودعا العلماء إلى أن يتجنبوا المختصرات ويبتعدوا عن التفريعات والتعقيدات .
كما نبه إلى عدم الغلو في شروح مختصر خليل وعدم قصر الهمة والوقت عليه وحده ولذلك وجههم إلى دراسته بشرح معين وهو الخرشي وبهرام بل ذهب أبعد من ذلك فسمى الكتب التي ينبغي أن تدرس في كل علم وأنقد التعليم من الفوضى التي كانت سائدة فيه .
أما في ميدان العدل والقضاء فقد صرف همته إلى تبسيط القضاء وتعميم العدل بين رعيته لأنه أساس الملك وبه صلاح السلطان والمتقاضين واستعمل نفس الوسيلة في إصلاحه فأخذ يوجه القضاة والمتقاضين إلى ما ينبغي لهم عمله واتباعه فكان يصدر الظهائر والمنشورات في كل المناسبات يضمنها توجيهاته وتجديداته منها :
ـ إصدار الأمر إلى القضاة وإلزامهم بكتابة جميع الأحكام والإشهاد عليها وتسليم نسخ منها إلى الأطراف والالتزام في الأحكام بالمشهور وتهديد المخالفين بالعزل .
ـ ومنع توكيل المرأة لزوجها لا استخراج حقوقها حماية لها إلا أن يكون ابن عمها وبرضاها .
ـ ومنع البيع على الغائب والمحجوز إلى أن يكون المشتري هو بيت المال أو الأحباس، حتى يمكن للبيع استرداده .
ـ وجعل الصداق كله ناجزا وحصره في أربعين مثقالا وبذلك كفكف غلواء الناس وبعدهم عن السنة
ـ وأمر ألا يسجن الزوج إذا خاصم زوجته إلا إذا ضربها بالضرب والجرح لما في ذلك من المصلحة للزوجة نفسها وللأولاد .
ـ ومنع الناس من التعامل مع المفلسين والمشبوهين .
ـ كما منع القضاة والعلماء من الحكم والإفتاء بشرح مختصر خليل المتأخرين والاعتماد على كتب المتقدمين تسهيلا واختصارا .
وهكذا كان شأنه ودأبه في كل مرافق الدولة وميادين العمل حيث امتدت إصلاحاته وكثرت تجديداته حتى شملت سائر الميادين وخاصة المالية والجيش والبحرية وغيرها .
وينبغي التنويه في هذا الباب بما كان له من يد وعمل واهتمام بسائر قضايا المسلمين وأخص بالذكر قضية الأسرى التي كانت قضية الساعة آنذاك فقد بذل فيها الجهد الكبير والمال الكثير وأرسل السفراء وبذل الهدايا للملوك وربط الصلات فقد أرسل سفيره أحمد الغزال إلى مدريد ليحصي الأسرى ويتفقد أحوالهم ويوزع عليهم الهدايا ويفك أيسارهم حتى رجع ومعه نحو ثلاثمائة منهم كما بعثه بعد ذلك لنفس الغاية إلى الجزائر وغيرها .
وبعث سفراءه الطاهر فنيش إلى باريس وابن عثمان إلى مدريد ومالطا ونابولي وكل هذه السفارات والرسل لتحرير أسرى المسلمين من الجزائر والتونسيين والليبيين حتى بلغ ما حرره من أسرى المسلمين ما يزيد على العشرين ألفا».
تصريح مكناس المنسي الذي دعا لإلغاء العبودية سنة 1777
رسالة منسية تعود إلى فترة حكم المولى محمد ابن عبد الله ابن المولى إسماعيل.
محمد الثالث الذي عرف عنه علمه الغزير واتصاله بالعلماء وتفقهه في الدين ورعايته للحج وعفوه عن الأسرى ورفضه محاصرة سفن المؤونة، حتى لو كانت تنقل الطعام للأعداء، كان هو مهندس هذه الوثيقة التاريخية التي يمكن اليوم اعتبارها أقدم دليل على أول دعوة لتحرير العبيد في العالم.
أرسلها المولى محمد الثالث من قصره في مدينة مكناس، إلى كل الدول الأوروبية مخاطبا فيها ملوك أوروبا وقساوستها، داعيا إياهم إلى ضرورة المساواة بين بني الإنسان، حسب نص الوثيقة، وإلغاء الرق وتحريمه.
الرسالة الموقعة يوم 10 شتنبر 1777 جاءت في سياق دولي مكهرب. إذ أن المولى محمد الثالث وقتها، كان يبلغ من العمر 67 سنة، وكان قد قضى فترة في الحكم جعلته يطالب بضرورة وضع قوانين تحترم حقوق البشر في العيش بدون تهديد. خصوصا وأن فرنسا وإسبانيا والبرتغال كانت كلها تتربص بالمغرب، وبذل محمد الثالث في بداية حكمه، قبل عشرين سنة بالضبط من تاريخ الوثيقة، مجهودا كبيرا للإبقاء على الشواطئ المغربية، خصوصا الجديدة وآسفي، بمنأى عن الاستعمار البرتغالي.
كان السياق الدولي مشحونا أيضا. إذ أن المولى محمد الثالث كان يكابد لكي يُبقي على بلاده بعيدة عن الاطماع الأجنبية، خصوصا وأن حالات اختطاف ركاب السفن المغربية المتوجهة إلى الحج كانت منتشرة. بينما كانت حالات التعرض لسفن أوروبية تعبر الأطلسي أو البحر المتوسط أمرا مألوفا أيضا.
وجاء تصريح مكناس الذي أصدره المولى محمد الثالث لكي يدعو إلى «هدنة» دولية خصوصا وأن طبول الحرب كانت تدق في أوروبا، ووصل دويها إلى المغرب.
لكن أهم ما جاءت به الوثيقة، دعوة صريحة إلى إلغاء الرق، وهو ما يمكن اعتباره أول وأقدم دعوة صريحة يقودها ملك لإلغاء العبودية والرق.
فقد كانت أوروبا تتوفر على أسرى مغاربة، في نفس الوقت الذي كان فيه المغرب أيضا يتوفر على أسرى أجانب بسبب الحروب التي مرت على المغرب قبل 1757، تاريخ تولي المولى محمد الثالث الحكم.
هذا الإرث الثقيل الذي يعود إلى فترة حكم المولى إسماعيل، كان عصيا على أن يُفك باتفاقيات ثنائية، لذلك ارتأى المولى محمد الثالث، أن يدعو الدول الأوروبية كلها إلى توقيع اتفاق ينهي وجود الرق. وبموجبه تنتهي محنة آلاف الأسرى والعبيد في أوروبا، وبينهم مغاربة ومسلمون سقطوا في الأسر بسبب الحروب، واستمر استعبادهم في أوروبا لسنوات طويلة.
كان المولى محمد الثالث، سابقا لزمانه. إذ كان، إلى جانب أنه أول من اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية مضحيا بالعلاقات التاريخية مع بريطانيا، سباقا إلى الدعوة إلى عدم التعرض للسفن التي تنقل المؤونة إلى مناطق النزاع. ودعا في تصريح مكناس المنسي، إلى سن اتفاقية توقع عليها كل الدول الأوربية، بموجبه يتم تحريم وتجريم التعرض للسفن غير العسكرية ومصادرة محتوياتها. حتى أن هذا السلطان العلوي قاطع روسيا ورفض استقبال مبعوثها فقط لأنها تشن حربها ضد العثمانيين الأتراك.
الأكثر من هذا أن السلطان محمد الثالث كان قد بعث إلى ليبيا يأمرهم بعدم التعرض للسفن الأمريكية، وعرض صداقته على الأمريكيين ومنحهم قبل وفاته سنة 1790 ترخيصا بموجبه أصبحت السفن الأمريكية قادرة على عبور البحر المتوسط دون أن يتعرض لها «القراصنة» الذين كانوا يُسمون في المغرب مجاهدي البحر. إذ كان موضوع الجهاد البحري مقلقا لأوروبا، وكان المولى محمد الثالث أول من فرض هدنة في قلب البحر المتوسط وأنهى حالات الاستيلاء على السفن التي ينجم عنها دائما أسرى يتحولون لاحقا إلى عبيد.
سلطان تربى وسط «الزوبعة» وحرر «مازاغان» ورفض الحروب
في العام 1750، كان محمد بن عبد الله خليفة لوالده على مراكش. وبحسب مصادر المؤرخين المغاربة، وعلى رأسهم عبد الرحمن بن زيدان، فإن محمد بن عبد الله كلفه والده بضبط الأمن في مراكش، في عز انتشار موجة من التمرد قادتها الزوايا. كان امتحانا عسيرا أمام الابن الذي لم يكن وقتها قد تجاوز الأربعين سنة.
جده المولى إسماعيل، مؤسس مكناس (التي أحبها محمد الثالث أكثر من غيرها من المدن، بحكم أنه ولد بها وحكم منها وتوفي فيها)، اشتهر وقتها بأنه كان قاسيا جدا مع أولاده، وبعث أحدهم لكي يصفي أكبرهم لأنه أعلن العصيان على والده من منطقة سوس، لم يكن متساهلا مع ابنه عبد الله، وامتحنه مرات كثيرة. وبعد وفاة المولى إسماعيل، تنازع أبناؤه على الحكم، لكن المولى عبد الله، تحقق عليه الإجماع. وفي ظل تلك الزوبعة من عدم الاستقرار السياسي، ولد مولاي محمد الذي كان حسب علماء القرويين، أكثر أبناء المولى عبد الله استحقاقا للخلافة، بحكم سعة علمه واتصاله بالعلماء واستشارته معهم في كل صغيرة وكبيرة.
بعد ذلك بسبع سنوات، أي سنة 1757، سوف يصبح محمد بن عبد الله سلطانا للمغرب خلفا لوالده. ورث مغربا منقسما، ومحط أطماع البرتغاليين. فكان أن حرر «مازاغان» من المد البرتغالي وبعث إلى ليبيا وتونس عارضا صداقة كانت الأولى من نوعها بعد فترة المولى إسماعيل. فارتفعت شعبيته ولُقب في شمال افرقيا بالسلطان المجاهد لأنه حرر ثغور المحيط الأطلسي من الاستعمار البرتغالي، ودعم الجهاد البحري الذي لعب وقتها دورا كبيرا في حماية الحدود البحرية للمغرب والجزائر وتونس وصولا إلى ليبيا.
والمثير أن وثائق الأرشيف في فرنسا، تحفظ للمولى محمد بن عبد الله، أو محمد الثالث كما كان يلقبه الفرنسيون، أنه راسل الملك الفرنسي وطلب منه التعقل ومصالحة الإسبان، حيث كانت تدور حرب طاحنة وقتها بين البلدين. في حين أنه في نفس الفترة رفض صداقة الروس، ولم يستقبل المبعوث الروسي إلى قصره في مكناس، لأن روسيا كانت تخوض حربها ضد العثمانيين.
وعلى خلفية هذه الأحداث حُسب للسلطان محمد الثالث، أنه كان أحد أبرز الحكام إلى حدود سنة 1790، تاريخ وفاته، سعيا لتحقيق السلم. حتى أنه كان سباقا إلى الدعوة إلى اتفاقيات مع فرنسا وإسبانيا وبريطانيا، تقوم على أساس عدم مصادرة شحنات السفن التي تنقل التموين للبلدان التي كانت في حالة حرب. وبفضل مجهوداته، تمكن الأتراك من تجاوز مجاعة كبيرة بسبب الحصار البحري الروسي في البحر المتوسط. لكن أهم ما توج فترة حكم المولى محمد الثالث، أنه كان أول زعيم دولة في العالم يعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه بعد أن كان أيضا أول من أثار موضوع «العبودية» الذي كان يشكل إحراجا كبيرا للدول الكبرى وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا.
العبيد في المغرب كانوا يعيشون حياة أفضل من عبيد أوروبا..
حُكيت عن المولى إسماعيل، جد المولى محمد الثالث، حكايات كثيرة لا تخلو من غلو. جل تلك الحكايات تتعلق بجحافل العبيد التي كان يتوفر عليها السلطان في قصره بمدينة مكناس. فخلال بناء المدينة، كانت الأشغال لا تتوقف، ويتولى أمرها جيش كامل من العبيد.
لكن ما لم يُسلط عليه الضوء، تجربة جيش عبيد البخاري الذين كان المولى إسماعيل وراء تكوينهم. إذ أن العبيد في أوربا وقتها كانوا بدون أية حقوق. في نفس الوقت الذي كان فيه المولى إسماعيل يعرض على عبيد البخاري تكوين جيش ضخم مقابل الحصول على أجرة شهرية ومنحهم أماكن خاصة بهم لكي يكونوا أسرا وعائلات، قبل أن يتقاعد الجيش بعد نهاية حكم المولى إسماعيل.
لم يكن حال العبيد في المغرب مشابها لوضع العبيد في أوروبا. إذ كانت الأخيرة تعرف تجاوزات كبيرة في حقوق الإنسان، خصوصا في تعاملها مع سكان المستعمرات في القارة الافريقية.
وعندما وصل المولى محمد الثالث إلى الحكم، وجد نفسه في سياق لم يكن يسمح أبدا بتحرير العبيد، لكنه أثار الموضوع رغم كل التحديات. خصوصا وأن أوروبا كانت تتسع في المستعمرات وترتكب سنويا مجازر فظيعة في حق سكان قرى تخوم إفريقيا.
كان وضع العبيد في المغرب مختلفا. إذ أن انتشار العبيد في القصر الملكي بمكناس، الذي ورثه المولى محمد الثالث عن جده المولى إسماعيل، كان يحتكم إلى تقاليد مرعية، تنظم عمل العبيد. بل كانت هناك مناصب مخزنية خاصة بهم يتوارثونها أبا عن جد، ويعيشون في ظل السلطان ولا يغادرون القصور الملكية إلا عندما يغادرها السلطان للخروج إلى الصلاة أو إلى زيارات الأقاليم. وهؤلاء العبيد كانت لديهم «أعراف» تنظم حياتهم ووضعهم الاجتماعي. ولم يكونوا مثل العبيد في أنظمة أخرى.
في المقابل، كان العبيد في منازل الأعيان يعيشون وفق نظام خاص. وقد رصد كتاب أجانب بينهم صحافيون ومغامرون حياة العبيد المغاربة في القرن الثامن عشر، وتحدثوا عن أن وضعهم أحسن بكثير من العبيد الذين يتم استغلالهم في أمريكا أو في الدول الأوروبية. بل تناولوا أيضا حياة العبيد الأجانب، الذين كانوا أسرى حرب في المغرب. وقد نشرت صحيفة «التايمز» سنة 1909 مقتطفا من مذكرات الصحافي لاورنس هاريس، تحدث فيه عن هذا الأمر. وجاء فيه: « قيل لي أيضا إن السلاطين كان لهم عبيد من النصارى الأوروبيين. حصلوا عليهم كأسرى في حروب سابقة. لقد تم استعمالهم، لسوء حظهم، في بناء قصور في مكناس ومراكش وفاس. كان المشرفون على بناء القصور يعمدون إلى أخذ كل عبد أظهر تقاعسا أو عياء في مواصلة أشغال البناء ورميه في التراب والكلس، وتغطيته بهما ودكه إلى أن يختفي وسط الجدار الذي كان في طور البناء. في سنة 1721، أرسل «ستيوارت» كسفير من إنجلترا ليقوم بشراء العبيد الأوروبيين ويعيدهم إلى أرضهم، لكنه وجد أغلبهم تحول إلى دين الإسلام حتى تنتهي معاناته الفظيعة في الأشغال الشاقة. لقد تم إنقاذهم وتعامل المغاربة معهم معاملة جيدة على عكس أولئك الذين فضلوا البقاء على ديانتهم النصرانية. أما النساء فقد تم إلحاقهن بـ«الحريم».
في 1817، ومع تعاظم قوة إنجلترا وسيطرتها على مضيق جبل طارق، خاف السلطان سليمان من ذلك الامتداد، وحد من عمليات القرصنة البحرية، ولم تعد سفنه تمارسها بالأشكال السابقة وإنما بسرية، ولم تنته إلا في 1856، عندما نجح «السير جون دريموند» في تحرير جميع العبيد والمسجونين. كان هذا في أيام مولاي الحسن، السلطان والد مولاي عبد الحفيظ وعبد العزيز».
التاريخ المنسي للعبودية..
كان العبيد المغاربة، بالإضافة إلى أنهم عملوا في قلب البلاط وحملوا مسؤولية مناصب حساسة تتعلق بخدمة السلاطين، قادرين على الإدلاء بالشهادة في المحاكم. وهو أمر لم يكن متوفرا في أوروبا وأمريكا، حيث لم يكن العبيد يُعتبرون مواطنين. بل كانت أوروبا وقتها تضعهم في أقفاص وتعرضهم على طريقة «حديقة الحيوان» لكي يتفرج عليهم الأطفال والمواطنون، ورفضوا أن يعترفوا بهم في القوانين الأوروبية باعتبارهم بشرا لديهم حقوق وواجبات.
هنا، نورد شهادة لأحد أوائل القناصلة الأمريكين في المغرب، والذي حضر سنة 1909 بنفسه أطوار محاكمة مواطن مغربي متهم بالسب والسكر العلني، واعتمدت المحكمة، على شهادة عبد مغربي واعتبرتها كافية لإدانة المتهم رغم أنه التهرب من التهمة.
هذا الرجل، واسمه محمد علي، حسب إفادة القنصل الأمريكي السيد إدمون هولت، كان يعمل، مرشدا للسياح الأجانب في المغرب، وكان يفرط في الشرب بالإضافة إلى أنه كان شديد الذكاء ويتحدث لغات أخرى بالإضافة إلى العربية. يقول هولت في بداية تقديمه لشخصية علي محمد، الذي اعتقل على خلفية السب والشتم في مكان عمومي: «لم أستطع فهم انطباعات الموظفين المغاربة، ولا تقديرهم للأمور، لذلك فضلت أن أحضر المحاكمة بنفسي. وبالتالي، فقد سمعت أطوارها في قاعة المحكمة. وزير الحرب، والمسؤول عن الشؤون الخارجية يزكيان التهمة ضد الأمريكي، عن طريق أحد عبيدهم، واسمه علي.
كانت الجلسة مفتوحة. وسمعت التهم، وتم استدعاء 20 شاهدا من بين شهود القضية. عشرة من هؤلاء الشهود أقسموا أن علي محمد كان سكرانا ولم يكن واعيا بتصرفاته. والعشرة الآخرون أقسموا أنه فقط كان غاضبا.
المثير في القضية أن المحكمة هي التي أحضرت العشرة الذين أقسموا أن علي لم يكن سكرانا. بينما أحضر علي نفسه أصدقاءه لكي يشهدوا أنه كان في وضعية غير طبيعية قبل اعتقاله».
كانت شهادة العبد كافية لإدانة المتهم. وهو ما لم يكن ممكنا في أوروبا. إذ أن العبيد لم يكونوا يُعتبرون مواطنين كاملي الأهلية لكي يتم استدعاؤهم إلى المحاكم، بل كانوا يعتبرون أقل من البشر ولم تكن لديهم أي حقوق نهائيا.
حتى أن هذا القنصل، تحدث في مذكراته عن وضعية العبيد المغاربة وأشار إلى أنهم كانوا يعيشون حياة لا تختلف أبدا في أي شيء عن حياة باقي المغاربة، باستثناء أن بعضهم كانوا يخضعون لسلطة أسيادهم، لكنهم لم يكونوا يتعرضون للاضطهاد الذي مورس على عبيد أوروبا وأمريكا، والأفارقة الآخرين الذين وقعت بلدانهم تحت رحمة الاستعمار الفرنسي على الخصوص.
من الأمور المثيرة عن العبودية في المغرب، ما أورده أيضا الصحافي الفرنسي «غوستاف بابين»، والذي كان يعمل ملحقا عسكريا في المغرب سنة 1914، وكان ضمن فريق الجنرالات الفرنسيين الذين كلفوا بغزو المغرب والوصول إلى منطقة ورززات وتشييد ثكنات عسكرية بها.
إذ أن هذا الصحافي انتبه إلى وجود أعداد كبيرة من العبيد في خدمة المدني الگلاوي، الذي كان حليفا لفرنسا، واستغرب «بابين» من أن أولئك العبيد كانت لديهم قرى خاصة بهم وقصور يسكنونها مع أبنائهم في إطار قبلي. ولا تزال إلى اليوم تلك القصور والقصبات شاهدة على تلك المرحلة من التاريخ.
المثير أيضا أن أولئك العبيد التابعون للمدني الگلاوي لعبوا دورا كبيرا في نقل معدات الجيش الفرنسي عبر الجبال، في نفس الوقت الذي كان فيه عبيد آخرون، تابعون لبشاوات مناطق معادية لفرنسا، خصوصا في قبائل الأطلس، يقفون في الصفوف الأمامية في الحرب ضد فرنسا.
تحدث «بابين» في مذكراته عن الأدوار التي كان يلعبها العبيد المغاربة في منازل الأعيان، حيث كانوا مكلفين بالحراسة وكانوا موضع ثقة بعكس عبيد أوروبا الذين دعا المولى محمد الثالث منذ 1777 إلى تحريرهم.