اليد الخفية
مع
الذين يحاولون الْيَوْمَ استغلال فترة الستين يوما التي تفصلنا عن موعد لعب مباراة الوداد والترجي من أجل تسميم العلاقات المغربية- التونسية يجهلون تاريخ العلاقة بين البلدين والشعبين.
هؤلاء لا يعرفون أن سكان الدار البيضاء انتفضوا لاغتيال المناضل الوطني والزعيم التونسي فرحات حشاد يوم 8 دجنبر 1952 من طرف منظمة فرنسية إرهابية سرية تسمى اليد الحمراء، وخرجوا إلى الشوارع منتفضين ضد المحتل الفرنسي.
ولعل التوانسة يتذكرون جيدا جواب الحسن الثاني للصحافي الفرنسي الذي سأله هل سيكون المغرب آخر بلد في المغرب العربي داخل حلف بلدان الغرب الأوربي بسبب أحداث قفصة ومرض الرئيس التونسي الهادي نويرة، والذي كان جوابه أنه «لا يمكن زعزعة استقرار تونس لأنها ليست فقط دولة بل هي شعب، وستظل تونس مستقرة ولو بقي فيها تونسي واحد، ونحن إن حدث ما قد يهدد استقرار تونس، سنقف مع الشعب التونسي ليس فقط عبر الصحافة والإعلام، بل عسكريا، لأننا لا نسمح بأن يمس استقرار تونس».
أربع وثلاثون سنة بعد الملك الراحل الحسن الثاني سيزور الملك محمد السادس تونس وسيتجول في أزقتها وأحيائها بدون بروتوكول وسيتناول الطعام في مطاعمها، في وقت كانت فيه السياحة في تونس بحاجة إلى هذه الدفعة القوية بسبب الركود الحاد الذي تسبب فيه الربيع العربي، فأصبحت تونس تعيش تعددية «ستين حزبا» ومعدل بطالة حطم كل الأرقام القياسية بعدما نجحت النقابات في طرد المستثمرين بسبب تخمة الإضرابات.
والزيارة نفسها سبق للملك محمد السادس أن قام بها للجزائر وتجول في حاراتها وخصوصا باب الواد التي تعتبر أخطر منطقة في العاصمة وكل هذا بدون بروتوكول أو حراسة.
كيف بدأ هذا الهجوم ولماذا يجب أن يتوقف؟
كل شيء بدأ عندما قال أحمد أحمد، رئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، بأن رئيس فريق الترجي قال له إنه لا يستطيع أن يضمن له ردة فعل الجمهور التونسي إذا لم يتم تسليم الكأس لفريقه، مما ألقى بظلال من الشك حول الضمانات الأمنية داخل الملعب.
بعد انتشار هذا الخبر انزعج العقل الأمني التونسي وعبرت نقابة الشرطة عن هذا الانزعاج، ورغم أن الانتقادات كانت موجهة للوضع الأمني داخل الملعب وليس داخل تونس، إلا أن الشاهد، رئيس الوزراء، الذي نزل الملعب محاطا بأفراد القوات الخاصة لتأمين حمايته، قرر أن يصعد لهجته وكتب على مواقع التواصل الاجتماعي مهاجما كل من يشكك في أمن تونس طالبا منه أن يتحمل مسؤوليته.
ثم تبعه حافظ السبسي، نجل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، وهو منصب جديد لم نسمع بِه من قبل، وقال إن قرار الكاف بإعادة مباراة الترجي والوداد ليس سوى قرار سياسي وهو إهانة لتونس.
مباشرة بعد ذلك تابعنا في وسائل التواصل الاجتماعي حملة منظمة ضد المغرب ومصالحه العليا، وطبعا سيكون من الغباء الاعتقاد بأن مصدر هذه الهجومات الرخيصة هو الشعب التونسي، لأن التجربة علمتنا أن من يتكفل بالتدبير المفوض للهجومات على الدول العربية ومصالحها هم جيش من المرتزقة يمكن أن يكونوا في تونس كما يمكن أن يكونوا في القاهرة أو باريس، وما يجمعهم هو الجهات المانحة التي تحدد الأهداف وتحدد توقيت الهجوم.
وعندما نقول باريس فليس من باب المزايدة ولكن لأن امتداد اليد الخفية وصل فرنسا وأصبح ضمن أهدافه انتزاع الهيمنة على المساجد من يد المغاربة، وليس في فرنسا فقط بل في بلجيكا وإسبانيا.
ولذلك عندما تم تحريك الشكاية ضد أحمد أحمد بتهمة الفساد، من طرف مصري، قامت الشرطة الفرنسية بدورها واستدعت المعني بالأمر للاستماع إليه قبل إخلاء سبيله دون متابعة. ففي نهاية الأمر فالشركة الفائزة بالصفقة موضوع الشكاية هي شركة فرنسية على حساب شركة ألمانية، كما أن بطولة كأس إفريقيا للأمم اسمها بطولة كأس إفريقيا طوطال، والجميع يعرف أن طوطال شركة فرنسية.
مما يعني أن فرنسا لديها مصالح في هذه البطولة، مثلما لديها مصالح سياسية واقتصادية في تونس، وبما أن البلد مقبل على انتخابات فقد اختلطت الكرة بالسياسة.
وإذا عرفنا أن رئيس الترجي التونسي يدعم حملة الشاهد، رئيس وزراء تونس، وأن الفرق الكروية التونسية استغلت ما حدث لكي تنبش في ملفات الترجي وسوابقه، فقد دخلت نقابة الشرطة على الخط بتنسيق مع نقابة الصحافة وبدأ القصف ضد المغرب ووحدته الترابية.
لكن يبدو أن العقلاء من الجانبين تدخلوا لكي لا يأخذ هذا الحادث الكروي أكبر من حجمه مفوتين الفرصة على أدوات اليد الخفية التي تحركت في المياه العميقة لتسميم الأجواء.
لكن ما حدث يدعو فعلا للتفكير حول أسباب هذا السحر الذي تمارسه الكرة على الجماهير المغاربية.
وغالبا ما يثار السؤال حول سبب ولع الجماهير العربية الشديد بكرة القدم، وضمنها بالطبع الجماهير المغربية والتونسية، رغم أنه لم يسبق لأي بلد عربي أن أحرز كأس العالم، ورغم أننا لا نملك نوادي شهيرة كنوادي أوروبا وليس لدينا لاعبون من طينة ميسي ورونالدو وبيليه ومارادونا.
وقد انتهى أغلب المحللين وعلماء النفس في فهم هذه الظاهرة على المستوى العربي، إلى أن كرة القدم، فضلا عن كونها توفر أجواء من الفرجة والمتعة والإثارة للجماهير، فإنها توفر لجماهيرنا زيادة على ذلك تعويضا نفسيا عن ما ينقصنا في المجال السياسي، خصوصا الديمقراطية والعدالة.
تعشق الجماهير العربية الكرة وتحج إلى الملاعب لأن الملعب يشكل بالنسبة إليها فضاء تتجسد فيه معاني الديمقراطية الحقة والتنافس الحر المتكافئ، وهو ما تفتقده في الحياة السياسية أو الاقتصادية لبلدانها.
فداخل الملعب يكون هناك حكم عادل يطبق قواعد عادلة وواضحة على الجميع وأمام الجميع، وإذا أخطأ أو غش يتعرض لاحتجاج الجمهور ويتم الاقتصاص منه على مستوى الهيئات التقريرية العليا.
داخل الملعب يكون عدد الفريقين متساويا وبالتالي تكون هناك قواعد للمنافسة، وعندما يرتكب اللاعبون الأخطاء يكون الجزاء فوريا ومتناسبا مع حجم الخطأ، مما يمثل للجماهير التجسيد الأسمى لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، المحاسبة التي تطبق على الجميع بشكل آني دون محاباة أو تملص أو حاجة لمطاردة الساحرات، كما يحدث عادة في الحياة السياسية.
وتمنح مباريات كرة القدم للجماهير أن ترى التجسيد الأوضح للجزاء نظير العمل الدؤوب والتفكير الذكي، فإذا أجاد الفريق اللعب وسجل الأهداف فإنه يرى نتيجة مجهوده مباشرة، وهو ما لا توفره الحياة العامة للجماهير، فقد يدرس الشخص ويحصل أعلى الدرجات ثم لا يتمكن من الحصول على عمل يعكس مستواه بسبب الزبونية والمحسوبية.
كما تتيح الكرة أيضا للجماهير فرصة المحاسبة لفريقها المفضل حين تبدي له الإعجاب بأدائه أو تظهر استياءها من انحدار مستواه، وهو ما لا تستطيع الجماهير فعله مع الحكومات إلا مرة كل خمس أو ست سنوات بسبب الغش والتزوير الذي ما زال يشوب الانتخابات في أغلب الدول العربية.
مباريات كرة القدم تمنح للجماهير حصانة عند ترديد الشعارات التي تحلو لها، بما فيها تلك التي تحمل فحوى سياسيا حادا، مستغلة وضعها كحشود في فضاء رياضي، وهو ما لا يمكن أن يمارسه المواطن منفردا أو حتى مع جماعة في الفضاء العام دون أن يتعرض للمساءلة وأحيانا كثيرة للقمع والاعتقال.
لهذا كله، فملاعب الكرة هي الرقعة المحصنة المتبقية للديمقراطية في الكثير من الدول العربية، إنها متنفس للجماهير المستاءة من السياسات العامة المحتاجة لتفريغ شحنات الغضب والرفض والفرح والزهو.