محامون مغاربة مثيرون للجدل
مع Télé Maroc
"أصحاب البذلة السوداء والرسالة المقدسة. كيف أصبحوا محامين مثيرين للجدل، وهل صحيح أن الوزارة والمسؤولية تسرق المحامي من مكتبه؟ منهم من جمع بين صداقة الملك الحسن الثاني ومهنة المحاماة وجمع معها الوزارة، وترك كل شيء وعاد إلى البذلة، التي بقيت رأسمال رمزي لأغلب المحامين المغاربة الذين مروا بمسار مشابه. بينما آخرون كرسوا حياتهم للمحاماة وعاشوا بين دروبها مغامرات تستحق فعلا أن تُروى. أحد أبرز هؤلاء، المحامي عبد الرحيم برادة الذي غادرنا قبل أيام. يكفي فقط أن تعرفوا أن برادة رافع لصالح عائلات ضحايا سنوات الرصاص، وكان مكتبه قبلة لهم. ولعل شخصيته كلها يلخصها موقف من سنة 1966. حيث كان برادة في فرنسا، وكان المناخ العام في المغرب صعبا للغاية، إذ أن البلاد كانت تعيش على إيقاع اختفاء المهدي بن بركة، بالإضافة إلى وجود رموز من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي انخرط فيه، في الخارج هربا من أحكام ثقيلة. ورغم كل هذا قرر عبد الرحيم برادة الدخول إلى المغرب، بل وفتح مكتبه لاستقبال الملفات.
عبد الرحيم برادة.. محامي عائلات ضحايا سنوات الرصاص
وفاة المحامي عبد الرحيم برادة، تعني غروبا لجزء من ذاكرة مهنة المحاماة في مغرب الاستقلال. إذ أن برادة كان من الشباب المغاربة الأوائل الذين تدربوا على يد كفاءات فرنسية في القانون، قبل أن يحتك مع أسماء من أوائل الوطنيين المغاربة الذين ولجوا مهنة المحاماة.
لكن ما عُرف عن برادة، أنه كان متمردا عن القاعدة. لذلك، مارس المحاماة عملا سياسيا، على عكس أغلب المحامين الذين ولجوا السياسة من باب المحاماة.
إذ كان عبد الرحيم برادة من الأسماء التي تتناقل أسر الضحايا رقم مكتبه ويحلون عنده أفواجا قادمين إلى الدار البيضاء لجعله يترافع عن المعتقلين في ملفات سنوات الرصاص الثقيلة.
كان عبد الرحيم برادة أيضا، صديقا للعائلات التي اشتهرت بقضايا اختفاء أبنائها، مثل قضية الحسين المانوزي. إذ أن المحامي عبد الرحيم برادة كان صديقا لعائلة المانوزي في الدار البيضاء، ودائم الحضور خلال إحياء ذكرى الاختفاء الشهيرة. كما أنه مارس نوعا من الضغط بتحريك ملفات المطالبة بكشف مصير المعارضين الاتحاديين والنقابيين خلال سنوات الرصاص.
اشتهر عبد الرحيم برادة بالترافع لصالح أبرهام السرفاتي خلال محاكمة أعضاء منظمة "إلى الأمام".
لكن كيف جاء هذا المحامي إلى السياسة؟ عندما حصل برادة على الباكالوريا، اتجه صوب فرنسا لدراسة القانون، وهناك تعرف على المهدي بن بركة. وأصبح لاحقا صديقا للنقابي عمر بن جلون، بعد انخراطه في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وأصبح من أوائل المحامين المغاربة الشباب الذين انخرطوا في مهمة الدفاع عن المتهمين في محاكمة مراكش الكبرى سنة 1970، والتي استمر تداول ملفاتها لأشهر طويلة عاشها المحامون على أعصابهم.
هذا الانخراط المبكر في العمل النضالي من باب المحاماة، جعل عبد الرحيم برادة يحظى بكثير من الاحترام، خصوصا وأنه كان يصنف نفسه دائما خارج دائرة الذين كان يُشار إليهم باللاهثين وراء المناصب والامتيازات، خصوصا بعد وصول الاتحاديين إلى تجربة التناوب مع عبد الرحمن اليوسفي سنة 1998.
شخصية عبد الرحيم برادة، يلخصها قراره سنة 1966 الدخول إلى المغرب لممارسة المحاماة. إذ أن أبرز الاتحاديين من أصدقائه وقتها كانوا قد غادروا المغرب هربا من أحكام الإعدام الغيابية. وكان الحزب يعيش على إيقاع اختفاء المهدي بن بركة، وكان هو وقتها قد أنهى تكوينه الجامعي والتدريب في المحاماة، وقرر الدخول إلى البلاد لبداية ممارسة المهنة، رغم أن كل الإشارات لم تكن تشجع يساريا مثله على الانخراط في الحياة السياسية. برحيل عبد الرحيم برادة، تكون مهنة المحاماة قد فقدت حيزا مهما من ذاكرة "صندوقها الأسود"، الذي كان عنوانه الأبرز ملفات سنوات الرصاص.
محامون جمعتهم العداوة للباشا الكلاوي وأصبحوا وزراء بعد الاستقلال
الوزير بلعباس التعارجي كان محاميا في هيئة مراكش قبل أن يعرف اسمه وزيرا مغربيا للتعليم سنة 1965، حيث ارتبط اسمه لاحقا بتدبير ملف المظاهرات التلاميذية، حيث خرج التلاميذ احتجاجا على قرار الوزير ليجدوا الرصاص الحي في انتظارهم.
هذا الوزير، كان محاميا في السابق، وسبق له العمل في هيأة مراكش. بل إنه عندما كان لا يزال في بداية شبابه، عانى من جبروت وسلطة الباشا الكلاوي الذي كان يترأس قضاة مراكش.
إذ أن بلعباس، تعرض لمضايقات من الباشا الكلاوي في بداية خمسينيات القرن الماضي، إذ أن الباشا سن قانونا يمنع على الشباب من الجنسين الخروج إلى الحدائق العمومية في مراكش، وهو ما قد يُعتبر الآن صادما بحكم أن الباشا كان صديقا للأوروبيين وكان يستقبل في إقامته الفخمة بمراكش أيقونات السينما العالمية.
كان بلعباس التعارجي أحد أوائل الذين تمردوا على تعليمات الباشا، وأمسك يد خطيبته وتجول معها في شوارع مراكش، وهو ما جعل الكلاوي يقرر أن يحرض ضده ويأمر بالتشطيب على اسمه من لائحة المحامين، ويجبره على مغادرة مراكش لممارسة المحاماة في مدينة أخرى غير تابعة لنفوذ الباشا.
بعد الاستقلال كان بلعباس التعارجي من أبرز الأسماء التي رُشحت للملك الحسن الثاني لكي تشغل مناصب وزارية، إذ كان صديقا لرضا اكديرة وحدو الشيكر الذي شغل مناصب وزارية أبرزها وزارة الدفاع ثم وزارة الداخلية. أما بلعباس فقد كان دائما من الأسماء المقربة من الدوائر العليا، وكان محط هجوم شرس من طرف المعارضة، سواء في الصحافة أو البرلمان.
وزير آخر عرف دروب المحاماة وعانى من سطوة الباشا الكلاوي، يتعلق الأمر بالوزير امحمد بوستة، الزعيم الاستقلالي السابق الذي خلف علال الفاسي على رأس الحزب. كان مقربا جدا من الملك الحسن الثاني وشغل مناصب مهمة من بينها وزير الخارجية في فترة الأزمات العربية.
امحمد بوستة، عاش شبابه المبكر في مراكش، حيث كان يعاني من سطوة الباشا الكلاوي بسبب أنشطته الوطنية، وسبق له أن تعرض لتهديد عنيف بتعذيبه حد الموت بسبب مواقفه عندما كان ينشط في الحركة التلاميذية بمراكش خلال بداية أربعينيات القرن الماضي.
بعد إنهاء دراسة الحقوق في فرنسا، عاد امحمد بوستة إلى المغرب، لكنه هذه المرة أكثر نضجا. وقليلون فقط يعرفون أن بوستة سبق له أن فتح مكتبا للمحاماة في الدار البيضاء، وكان يزوره فيه عبد الرحمن اليوسفي، بحكم أنهما درسا معا وبحكم انتمائهما إلى حزب الاستقلال قبل أن تفرق بينهما سبل السياسة سنة 1959. لكن قبل الانفصال، كان بوستة من بين أنشط أطر حزب الاستقلال، وشارك في محادثات "إكس ليبان"، وكان ينسق مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، رفقة عبد الرحيم بوعبيد، خلال مرحلة "الأمتار الأخيرة" لعودة الأسرة الملكية من المنفى والتمهيد لاستقلال المغرب سنة 1955.
رافع بوستة في عدد من الملفات، لكن الوزارة سرقته بدوره، وكانت أنشطة القصر الملكي والاستقبالات الخاصة بكبريات الشخصية الأجنبية والعربية، قد التهمت وقته بالكامل، حيث عاش حياته كاملة إلى جوار الملك الراحل الحسن الثاني إلى نهاية عهده سنة 1999.
كان المحامي "المتقاعد" الذي يسكن بوستة متيقظا دائما، ففي عز أزمة حكومة التناوب، كان بوستة واضحا عندما طالب بإزالة إدريس البصري من لائحة الاستوزار، ليصدر البلاغ الملكي الشهير الذي حافظ على ادريس البصري في اللائحة، وهو ما أجّل ولادة حكومة التناوب لخمس سنوات إضافية تقريبا، قبل أن تتحقق سنة 1998، وكان وقتها بوستة وحزبه، حزب الاستقلال، يتابعون من بعيد تجربة "الرفاق".
+++++++++++++++++++++++++++++++++++
اگديرة.. صديق الملك الذي فجّر حبه للمسرح في المحاماة وأثار الجدل حيا وميتا
خبير في القانون؟ المستشار الملكي أحمد رضا اگديرة كان بالنسبة لخصومه السياسيين رجلا يحب دائما أن يخرق القانون. في انتخابات سنة 1963، أولى الانتخابات في عهد الملك الحسن الثاني، كانت المعارضة تسجل ضد رضا اكديرة، الذي كان وقتها متزعما لجبهة الدفاع عن القوى الديموقراطية، مخالفات قانونية بالجملة. إذ أنه كان يشغل في نفس الوقت منصب وزير الداخلية، ونددت المعارضة بتدخله لصالح المرشحين معه في العملية الانتخابية، حيث كانت توصيات من طرف أعوان السلطة لدعم مرشحي الوزير، الذي كان الجميع يعرف أنه جاء إلى الوزارة من منصب مدير الديوان الملكي، حيث سبق له أن كان أيضا مديرا لديوان ولي العهد خلال نهاية الخمسينيات.
أما مكتبه الذي مارس فيه المحاماة، فقد أبقى عليه، بحكم أنه أمسك قضايا وصفت وقتها بالشائكة. إذ أن رضا اگديرة دخل بقوة في فضيحة زيوت مكناس المسمومة سنة 1959، ثم بعدها حضر في ملف محاكمة بهائيي الناظور في بداية ستينيات القرن الماضي. حيث كان الملفان معا من أخطر الملفات القضائية التي هزت الرأي العام الوطني. كما أنه كان حاضرا بقوة في قضية انقلاب البوينغ الذي استهدف الطائرة الملكية حيث أعلن موقفا أبان من خلاله أنه لا يمانع أن يرافع لصالح بعض المتهمين سنة 1972، وهو ما اعتُبر وقتها خطوة مثيرة للجدل، بحكم صداقته مع الملك الراحل الحسن الثاني، والتي تعود إلى سنوات ما قبل الاستقلال حيث تعرف اگديرة على ولي العهد في بداية شبابهما خلال أربعينيات القرن الماضي.
لكن لماذا استأثرت المحاماة باهتمام الوزير الذي غادر الوزارة مدى الحياة صوب منصب مستشار ملكي؟ لقد استطاع اگديرة أن يستغني عن الحزب والسياسة، واحتفظ بمنصب مستشار الملك بحكم العلاقة الوطيدة التي جمعتهما، لكنه لم يستطع أبدا الاستغناء عن المحاماة. والسبب، حسب معارف الرجل أنه كان مولوعا بالاستعراض. والأمر يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، حيث كان اگديرة معروفا بين أبناء منطقة سلا، بحبه الكبير للمسرح، حيث كان منخرطا بقوة في الأنشطة المسرحية التي نظمها الشباب، وكان يتزعم بعضها، بالإضافة إلى أنه كان مواظبا جدا على التمارين في الهواء الطلق على الإلقاء والارتجال وضبط حركات الجسد فوق الخشبة، حيث كان يلجأ إلى إحدى الضيعات نواحي مدينة سلا، في الطريق نحو القنيطرة، ويقضي ساعات طويلة ومرهقة في التمارين على المسرح.
ومن يومها، وهو يعتبر مداخلاته في المحاكم أداء مسرحيا مضبوطا، حتى أن مرافعاته في عدد من القضايا كانت دائما مثيرة للجدل. لكن السياسة التي سرقته منذ 1960، إذ كان حاضرا بقوة إلى جانب الملك الحسن الثاني مند اعتلائه العرش، جعلته يخفف من انكبابه على الملفات، ويهتم أكثر بـ"الفديك"، مشروعه السياسي الذي مُني بفشل ذريع ولم يصمت أمام المعارضة الاتحادية التي حاربته في صحافتها بكل ما أوتيت من "أقلام".
كان رضا اگديرة أحد أكثر الأسماء نفوذا في مغرب الملك الراحل الحسن الثاني، حيث انكب عند مغادرته السياسة وانشغاله بأمور مكتبه مستشارا للملك، على قضايا منها قضية الصحراء المغربية، بالإضافة إلى أنه كان مبعوثا للملك الحسن الثاني إلى رموز المعارضة حيث أشرف بنفسه على ملف التوافق مع عبد الرحمن اليوسفي، بعد وفاة محام آخر هو عبد الرحيم بوعبيد، وكان يشكل حلقة الوصل مع الملك الحسن الثاني إلى أن تحقق اللقاء بين الرجلين ودخل المغرب مرحلة ما عُرف وقتها بـ"التناوب".
عبد الرحيم بوعبيد.. محام عارض النظام وجلس مع رموزه في نفس الطاولة
كان مكتب المحاماة الذي يديره عبد الرحيم بوعبيد لا يهدأ من استقبال الزوار. عائلات من ضحايا سنوات الرصاص تأتي أفواجا إلى مكتبه خصوصا في محاكمة 1963 في إطار مؤامرة يوليوز، ثم في قضية محاكمة مراكش الشهيرة سنة 1970. هما مناسبتان برز فيهما المحامي عبد الرحيم بوعبيد حيث رافع بكل ثقله السياسي والقانوني أيضا، واتهم الدولة صراحة بالوقوف وراء فبركة الاتهامات. ووجه اتهامه إلى الجنرال أوفقير متهما إياه، بصفته مديرا للأمن والمخابرات، بفبركة مؤامرة يوليوز ونسبها إلى أعضاء حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وقدماء المقاومة المنخرطين في الحزب بعد مغادرتهم لحزب الاستقلال.
ولم يكن هذا الأمر سهلا، ففي الوقت الذي كانت فيه صحافة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تعيد نشر مداخلة عبد الرحيم بوعبيد في المحكمة، حيث كان يطلب من رئيس المحكمة بكشف ملابس المتهمين لرؤية آثار التعذيب البادية على أجسادهم، كان يقضي المساء أحيانا في تلبية دعوة الأمير مولاي عبد الله لتناول العشاء، وكان أحيانا يجد الجنرال أوفقير حاضرا أيضا، خصوصا عندما يكون هناك ضيوف أجانب في ضيافة مولاي عبد الله. إذ أن الجنرال كان يتكلف بمرافقة ضيوف المملكة الكبار ويسهر على توفير أمنهم الخاص بنفسه. وكثيرا ما كانت طاولة العشاء امتدادا لنقاش الجنرال أوفقير مع عبد الرحيم ولو بالمرموز. وهو ما أكده أصدقاء للأمير مولاي عبد الله، ودبلوماسيون عرب عاشوا في المغرب، كانوا شهودا على هذا التوتر.
كان مكتب عبد الرحيم بوعبيد انطلاقة لمحامين آخرين تدربوا على يديه، أمثال النقيب عبد الرحيم بن بركة، وثلة من المحامين الاتحاديين الشباب، الذين رافعوا لصالح المتهمين في محاكمة مراكش الكبرى لسنة 1970، حيث كان عبد الرحيم بوعبيد، رغم صداقته مع الملك الحسن الثاني التي تعود إلى أيام الحماية الفرنسية حيث كانا معا يشتغلان لصالح القضية المغربية، يهاجم النظام بقوة في جلسات المحكمة.
علاقة بوعبيد بالملك الحسن الثاني لم يفهمها إلا قلة ممن عرفوه عن قرب. إذ أن بوعبيد كان أحد أوائل الذين زاروا الأسرة الملكية لدى عودتهم إلى باريس تمهيدا للعودة النهائية من المنفى سنة 1955، وأيضا كان أحد القلائل الذين احتفظوا بالاتصال مع الملك محمد الخامس وولي العهد الأمير مولاي الحسن عندم وجود الأسرة الملكية في مدغشقر. لذلك كان الاشتراكيون الفرنسيون يصابون بالصدمة عندما يطالعون مواقف بوعبيد الشرسة المنتقدة للنظام، وعندما تتصل به لجنة من الاشتراكيين المنخرطين في منظمات حقوقية دولية، كما وقع في منتصف الثمانينيات، لكي يرافقهم لإعداد تقارير منحازة ضد المغرب في قضية الصحراء، كان يشهر رفضه في وجههم. إذ أن بوعبيد كان دائما يعبر عن آراء جريئة، وهو ما تسبب في فتور مؤقت في علاقته بالملك الحسن الثاني، لكن سرعان ما كانت تنجلي تلك الغمامة.
عبد الرحيم بوعبيد، سبق له أن تقلد مناصب وزارية في حكومة 1955 و1956 وكان من الذين طالبوا بحكومة من الاستقلاليين، قم عند المشاركة في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لم يعد بوعبيد نهائيا إلى الوزارة، بل حتى عندما كان رئيسا للحزب ثم مؤسسا لمحطة الاتحاد الاشتراكي الجديدة منتصف السبعينيات، لم يعد نهائيا إلى الوزارة، لكنه لم ينزع أبدا عن ظهره بذلة المحاماة.
عبد الرحمن اليوسفي.. المحامي الذي منعه السجن والمنفى من الترافع في المغرب
السياسة لم تمنح عبد الرحمن اليوسفي فرصته في المحاماة كما منحتها لزملائه. فبعد أن عاد إلى المغرب من باريس قبل الاستقلال متحمسا لممارسة مهنة المحاماة في طنجة، مسقط رأسه، وجد أنه خُلق لكي يذهب إلى الرباط والدار البيضاء، معقل العمل النقابي والحزبي وقتها، لكي يبحث له عن موطئ قدم مع الكبار. وهكذا ترك مكتبه الذي فتحه حديثا في طنجة، وغادر صوب الدار البيضاء حيث اشتهر بانخراطه في تأطير النقابيين في المدينة وقيادة مظاهرات واحتجاجات. وبعد الاستقلال، كان من المدافعين الشرسين عن دعوات حزب الاستقلال إلى تطهير الإدارة من الفرنسيين، وانتقل سنة 1959 إلى تجربة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث أصبح رفقة محمد الفقيه البصري، يسيران معا جريدة الحزب ويشرفان على ما يُنشر فيها، وهو ما تسبب لهما في مشاكل في نفس السنة إذ تم التحقيق معهما بطريقة مضنية بسبب افتتاحية الجريدة.
وفي مؤامرة يوليوز 1963 كان عبد الرحمن اليوسفي من بين المتهمين الكبار حيث وجهت له تهمة إدخال السلاح إلى المغرب والتخطيط لقلب النظام. ووجد نفسه لأول مرة وراء القضبان مع المتهمين، بينما كان رفاقه المحامون، منصبين أنفسهم للدفاع عنه وعن زملائه في الحزب. كانت صورة عبد الرحمن اليوسفي وهو يقف أمام رئيس المحكمة ليستجوبه بخصوص علاقته بالأسلحة المحجوزة معبرة جدا. إذ كان وراءه محامون يشهدون له بالكفاءة.
بعد تلك التجربة القاسية غادر عبد الرحمن اليوسفي المغرب، وقرر ألا يعود أبدا احتجاجا على ما طاله خلال المحاكمة من اتهامات ثقيلة قادته ورفاقه إلى جناح المحكومين بالإعدام والعقوبات طويلة الأمد، قبل أن يُطوى الملف بعفو ملكي بعد مدة قصيرة على نطق الأحكام.
حالت هذه التطورات وفتح عبد الرحمن اليوسفي لمكتب محاماة في الرباط أو الدار البيضاء، وظل منفيا منذ 1963. حيث أثير اسمه من جديد محاكمة مراكش الشهيرة سنة 1970. ومن جديد كان رفاقه المحامون يرافعون بينما كان اسمه في لائحة المتهمين البارزين. وبما أنه كان منفيا في الخارج، فقد صدر ضده حكم غيابي بالإعدام. ولم يتم إصدار عفو عنه إلا بعد 15 سنة. محاولات أخرى مع اليوسفي لإقناعه بالعودة، أشهرها محاولة 1985 عندما كان الحزب يريده أن يعود إلى الساحة، لكن تعقيدات كثيرة أجهضت محاولة عودة اليوسفي إلى الحياة السياسية في المغرب. إلى أن وقعت تطورات جديدة بسبب وفاة عبد الرحيم بوعبيد، حيث اضطر عبد الرحمن اليوسفي إلى العودة مع بداية التسعينيات، وأعطي ضمانات بإجراء انتخابات نزيهة، لكنه غادر مباشرة بعد الانتخابات غاضبا على ما وصفه بالتزوير المفضوح، واختار أن يبقى في "كان" حيث كان يقطن مع زوجته.
خلال فترة المنفى، كان اليوسفي يشارك في أشهر المؤتمرات العربية التي تجمع المحامين العرب، أو اللقاءات التي تجمع شمل الاشتراكيين، العرب منهم والدوليين. وكان يلتقي مع كثير من رفاقه المحامين الذين درس معهم في باريس، وكانوا يمارسون المهنة في بلدانهم، بينما كان هو غير قادر على ممارسة دور المحامي "المقدس" في الترافع، خصوصا في الملفات الحقوقية التي كانت تشغله.
هذه النقطة، أحاطت اليوسفي بهالة من التقدير بين رفاقه الاتحاديين، المحامين منهم على الخصوص، لأنهم كانوا يقدرون فيه أنه مثل مرات كثيرة في قفص الاتهام، بينما كان مكانه الطبيعي، في الصف المخصص للمحامين.
بوزوبع.. محاكمة الانقلابيين أكسبته شهرة ووزارة العدل أنهكته
محمد بوزوبع، صنع عناوين الأخبار عندما كان وزيرا للعدل في تجربة حكومة عبد الرحمن اليوسفي. كانت الأنظار كلها متجهة إليه لأنه أمسك وزارة حساسة جدا في مرحلة انتقالية من تاريخ المغرب. كان عليه أن يدبر الملفات العالقة، خصوصا قضايا ضحايا سنوات الرصاص والاختفاء القسري.
بل إن سقف الانتظارات كان عاليا جدا. إذ أن بعض الاتحاديين كانوا ينتظرون منه مطالبة فرنسا برفع السرية عن وثائق ملف اختفاء المهدي بن بركة.
كان موقف محمد بوزوبع صعبا للغاية، فعندما كان محاميا شابا سنة 1972، كان من أشهر الشباب الذين تطوعوا للترافع لصالح المتهمين في ملف انقلاب طائرة البوينغ. وقضى ساعات طويلة في جلسات لا تنتهي، للاستماع إلى الطيارين وطاقم القاعدة الجوية في القنيطرة لكشف ملابسات الإعداد للانقلاب.
وبما أنه أصبح وزيرا للعدل في حكومة عبد الرحمن اليوسفي، فقد كان ملزما بإعادة فتح تلك الملفات من جديد، خصوصا وأن المتهمين السابقين في قضية انقلاب طائرة البوينغ وقبله بسنة واحدة، انقلاب الصخيرات 1971، كانوا جميعا يطالبون بالإنصاف، خصوصا وأن أغلبهم قضوا عقوبات سجنية ومنهم من أرسل إلى معتقل تازمامارت الرهيب، بالإضافة إلى تسريح آخرين من الخدمة العسكرية على خلفية الملفين.
عرف اسم الشاب محمد بوزبع في بداية السبعينيات باعتباره محاميا تدرب على يد عبد الرحيم بوعبيد، إذ أنه كان من بين المحامين المتطوعين في ملف محاكمة مراكش الكبرى، وقدم مرافعات لصالح متهمين كانت المصالح الأمنية التابعة للجنرال أوفقير والدليمي تريد إغراقهم بتهم تصل حد الخيانة والتآمر على الأمن الداخلي للدولة، وهو ما لم يكن وقتها سهلا. إذ أن المحامين كانوا يتعرضون لمضايقات أثناء تنقلاتهم المستمرة من الرباط و الدار البيضاء إلى مراكش لحضور أطوار المحاكمة في عز الصيف.
عندما أصبح بوزوبع وزيرا للعدل، كان عليه أن يستحضر كل تلك الملفات الثقيلة. وعلى عكس المتوقع، إذ كان من الصعب التعامل مع ملفات كان يعرف تفاصيلها جيدا، بحكم أن رافع في أغلبها لصالح المتهمين أو عائلاتهم. لكن الوضع اختلف كثيرا عندما أصبح وزيرا للعدل. إذ رغم اشتغال هيئة الانصاف والمصالحة والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان على هذا النوع من الملفات حيث تم جمع شهادات الضحايا والتحقيق في المقابر الجماعية وتدبير ملفات نقل رفات المقابر المجهولة لضحايا التعذيب، إلا أن تدبير تلك الملفات من وزارة العدل كان محاطا بكثير من الصعوبات. إذ أن التقادم وغياب معطيات كثيرة بشأن بعض الملفات، جعل المهمة تزداد صعوبة.