تاريخ.. هذه أشهر الأوبئة التي ضربت المغرب وتسببت في مصرع شخصيات شهيرة
مع تيلي ماروك
مع التطور التكنولوجي، اعتقد الناس أن زمن الأوبئة الفتاكة العابرة للقارات قد ولى إلى غير رجعة، وأن الأبحاث المتطورة والتقدم الكبير الذي حققته البشرية في عدة ميادين خصوصا الميدان الطبي، قد حولت العديد من الأمراض إلى جزء من التاريخ.
تنافست الأوبئة على هلاك البشر، فظهرت أشكال أخرى من المرض اختلفت أسماؤها لكنها توحدت عند ملتقى الفتك، كالأنفلونزا الإسبانية، في بداية القرن الماضي، مخلفة حصيلة فاقت 60 ألف قتيل. وتنافس وباء الكوليرا مع الطاعون في مضمار الدمار الشامل فقتل 100 ألف شخص، وكلما أعلن الطب تقدمه خطوات في حربه ضد الأمراض الفتاكة، إلا وظهر فيروس جديد يغير المفاهيم ويؤكد استمرار المعركة بين المختبرات والأوبئة. صحيح أن الاستفادة من الخدمات الطبية ليست متاحة للجميع، وأن فئة من المحظوظين تكون أكثر حماية من المرض مقارنة مع باقي المواطنين، إلا أن الفقر والجهل والنمو الديموغرافي الفوضوي، عوامل ساهمت في انتشار الأوبئة وتأخير الزمن الافتراضي للقضاء عليها أو التقليص من حدة انتشارها.
شكلت السيدا إلى جانب السل والجدري والكوليرا والتوفيس والجذام وغيرها من الأمراض، التي ما أن تغيب حتى تعود تحت مسميات أخرى، رعبا حقيقيا للبشر، بل إن اكتساحها جعل الناس ينظرون إليها من منظور لاهوتي.
وحسب كتاب «الأوبئة والمجاعات في المغرب في القرنين 18 و19» لمحمد الأمين البزاز، فإن الطاعون يظل الأكثر فتكا بالعباد، قبل أن يظهر فجأة فيروس مرعب اسمه كورونا، تسيد دون سابق إشعار نشرات أخبار الحوادث وسابق الحروب في حصد الأرواح.
في هذا الملف، نرصد العلاقة التاريخية بين المغرب والأوبئة، وسنتوقف عند أبرز الشخصيات التي جرفتها الفيروسات القاتلة.
بوكليب لكحل.. الاسم الآخر للكوليرا في المغرب
ظلت الحدود مع الجزائر مصدر قلق الهيئات الطبية في المغرب، بسبب تسلل وباء الكوليرا من الجارة الشرقية، فقبل ربع قرن اخترق المرض الفتاك الحدود ضدا على ترسيمها من طرف المستعمر الفرنسي، واعترفت الجزائر بانتشاره في عدد من ولاياتها.
وحسب العلامة المغربي ابن هيدور التدلي، فإن وباء الكوليرا «يحدث من تعفن الأغذية المستعملة في زمن المجاعات وغلاء الأسعار، فيضطر الإنسان إلى تناول غذاء غير مألوف قد فسد وتعفن»، لكن المؤرخين ربطوا انتشار الأوبئة وخاصة الكوليرا بالاضطرابات السياسية.
ويقول محمد الأمين البزاز في تاريخه للأوبئة بالمغرب، بأن «الغداء بلغ من الغلاء فحشه، وجاع الناس فأكلوا الجيفة والموتى، وهلك منهم الكثير من المسغبة والمرض». ويورد كذلك إقبال اليهود على الإسلام للاستفادة من الإعانات الغذائية.
ضربت المجاعة المغرب سنتي 1737 و1738، بسبب الجفاف والقلاقل السياسية والصراع حول السلطة بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل، وتجدد القلق سنة 1766 وحل القحط واجتاح الجراد البلاد، ما مهد لبسط الكوليرا سيطرتها من جديد انطلاقا من سنة 1834.
لم يعرف المغرب قبل 1834 موتا جماعيا على شكل إسهال حاد ووبائي. هكذا ستصل البلاد مصائب العالم الخارجي، بعد انقضاء عهد الانغلاق الذي اتصف به حكم السلطان سليمان، رافق اجتياح الوباء القسم الأول من حكم السلطان عبد الرحمن.
وحسب أبي العلاء إدريس عبد الهادي التازي، في مخطوطة «الابتسام عن دولة ابن هشام»، فإن الكوليرا «ريح ما سمعوا به، قاتل من حينه، ويسمونه عندنا في المغرب بأسماء الكوليرا والريح الأصفر وبوكليب». وفي «أقوال المطاعين في الطعن والطواعين» نقرأ وصفا لحال المصابين: «كان الموت موت بغتة وفجأة، حيث يرى الإنسان أخاه يمشي صحيحا ويسقط ميتا فيتغير حاله وتتشوه خلقته وتقع اللكنة في لسانه فيلجلج مقاله. وتزبخر أظافر يديه ورجليه كأنها صبغت بالنيلة».
استمر وجود الوباء إلى حدود 1837، بحصاد يومي للأرواح يصل إلى 60 وفاة في اليوم لكل مدينة. عادت الكوليرا لزيارة المغرب مرات متوالية خلال القرن التاسع عشر في ما يعرف بموجتها العالمية الثالثة، التي كانت على مراحل بين 1854 و1860. يصف المؤرخ المشرفي المشهد في «أقوال المطاعين»: «كان البدوي يأتي إلى الحاضرة فلا يرجع لأهله إلا ميتا محمولا على الدواب».
فرنسا تواجه الطاعون برش الناس بالمبيدات وتضع الجير على الموتى
كان الناس في جنوب المغرب يعانون من مرض «الولسيس». لا وجود لهذا المرض في قاموس الفرنسيين. العالم كله يعرفه على أنه «الطاعون»، لكن المغاربة يسمونه «الولسيس»، لأن انتفاخات كثيرة كانت تبدو في أماكن متفرقة من أجسادهم. وكل شخص يحمل «ولسيسا» في جسمه، فهذا يعني أنه سيموت بعد أيام فقط.
خافت فرنسا من انتقال المرض المعدي إلى رعاياها وجنودها، فعمدت إلى ترحيل قرى كاملة، برجالها وشيوخها وأطفالها ونسائها، وحشرهم جميعا في خيام نصبت لهذا الغرض. حيث يشرف على رشهم بالأدوية فريق من الجنود، يغطون أنوفهم حتى لا يستنشقوا تلك الروائح، التي اختلطت برائحة المبيدات القوية. بعض المغاربة فارقوا الحياة، لأنهم اختنقوا ولم يستطيعوا استنشاق غبار الأدوية التي كان الجنود يرشون بها كل شيء، فيما أغلب الناس استطاعوا استنشاق الأكسجين وسط تلك الفوضى، وبقوا على قيد الحياة.
أحد الذين عاشوا تلك المأساة روى كيف أن الفرنسيين كانوا يجمعون الناس في خيام ومنازل متنقلة، ويعالجونهم بانتظام. يسقط موتى كثيرون كل يوم، ويؤخذون بعيدا حتى لا تزيد رائحة جثتهم من فظاعة الأجواء. كانت فرنسا تأخذ الموتى دون مماطلة إلى أرض جرداء، وتسخر مغاربة ليقوموا بالعملية. كل الذين ماتوا بسبب المرض كانوا يحملون إلى تلك الأرض ويحفرون حفرة أعمق قليلا من القبور التي اعتادها المغاربة، وبعد وضع الميت داخلها يأتي أحد العمال ليسكب كمية كبيرة من الجير حول الجثة إلى أن يمتلئ القبر كليا بالجير.
بقيت فرنسا على تلك الحالة مع جميع المرضى الذين لقوا مصرعهم، دون أن تتوقف عن رش الآخرين بالمبيدات. عندما بدأت وتيرة الموت تتراجع، كان الأطباء الفرنسيون يعمدون إلى إرسال الناس إلى بيوتهم، وكلما أرادوا إرسال أسرة إلى خارج المستشفى المتنقل، كانوا يأخذون ملابسهم، ليتم غليها في صهريج حديدي كبير، ثم يرجعونها إليهم. أغلب الناس، إن لم نقل كلهم، كانوا يرتدون الأسمال والخرق البالية، لذلك تعرض أغلبها للتلف بعد غليها في الماء، ورجع المحظوظون إلى منازلهم بخرق بالية وأجسام عليلة.
مستشفى بن شيمول.. مصحة جمعت اليهود والمغاربة
فتح مستشفى بن شيمول بابه سنة 1904، وكان وراء المبادرة حاﻳيم ﺑﻦ ﺷﻴﻤﻮﻝ، فحمل اسمه، وفي هذه المصحة اشتغل طبيب روسي يدعى سبيفاكوف إلى جانب الفرنسي ماني الذي أطلق عليه لقب طبيب الفقراء وداعية من دعاة التعايش.
حرص المحسن اليهودي حاييم بن شيمول على بناء العديد من المرافق الاجتماعية في المدينة، خاصة دور الرعاية وأحدث صندوقا تضامنيا لدعم الفئات اليهودية الهشة. ويعد مستشفى بن شيمول الذي بني في منطقة حسنونة، من أهم مظاهر مساهمات اليهود في بناء المدينة، علما أن المستشفى الذي يعد الأقدم في طنجة، كان مفتوحا في وجه اليهود والمسلمين والمسيحيين، ولعب دورا كبيرا في التصدي للأوبئة التي اخترقت طنجة عبر بوابة مينائها، ومن المشاهد التي يرويها قدماء المدينة، «في مصحة بن شيمول تلغى الانتماءات ويصبح التعايش بلسما لكل الأمراض».
كان بن شيمول من مؤسسي الرابطة الفرنسية بالمغرب، كما ساهم في تعزيز التقارب اليهودي المغربي. حين كان أزيد من 17 ألف يهودي مغربي يعيشون في طنجة، أثناء خضوعها للنظام الدولي. أما الآن فلم يبق منهم سوى 60 مسنا.
في ليلة الثاني من أبريل 2012، تحولت الجرافات صوب مستشفى بن شيمول في طنجة، والذي كان يأوي بضعة عجزة يهود اختاروا العيش في هذا المرفق بدل التسكع في شوارع المدينة.
في لحظة استنفار، دمر الملجأ عن آخره، دون أن يعرف والي طنجة الذي صدر عنه قرار الهدم، أن الإجهاز على أقدم مستوصف في المدينة تزامن مع مناسبة دينية لليهود.
المغرب يرفض استضافة «الكان» بسبب وباء إيبولا
لم يكن محمد أوزين، وزير الرياضة المغربي الأسبق، يعتقد أن الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم ستواجه المغرب قضائيا، بسبب قرار الحكومة تأجيل تظاهرة كروية بسبب انتشار وباء إيبولا. كان الاعتقاد السائد أن يتفهم عيسى حياتو، رئيس "الكاف"، ومدير مكتبه المغربي هشام العمراني هذا الموقف ويساندان المغرب في مسعاه، لكن الأمور سارت على نحو غير متوقع، حيث قدم عيسى شكوى ضد الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم إلى محكمة التحكيم الرياضي «طاس» المتخصصة في فض النزاعات الرياضية، لكن الهيئة القضائية، التي يوجد مقرها في زوريخ السويسرية، ألغت العقوبات الرياضية والمالية التي أصدرتها الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم، في حق المنتخب المغربي والجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، مؤيدة الطعن الذي قدمه الاتحاد المغربي ضد قرارات عيسى حياتو، وأصدرت قرارها النهائي القاضي بمشاركة المنتخب المغربي في جميع المسابقات القارية، فيما تم تقليص الغرامة المالية التي طالبت بها الكونفدرالية من مليون دولار إلى خمسين ألف دولار.
كلف الحرص على سلامة الجماهير والخوف من إيبولا، مالية جامعة كرة القدم حوالي نصف مليون دولار، وتتضمن مصاريف مكتب المحامي الفرنسي الذي رافع في القضية وقدرت بـ120 ألف دولار، وكلفة وضع شكوى لدى المحكمة الرياضية الدولية حوالي 1000 دولار، ومصاريف تنقل الوفد المغربي إلى زوريخ والإقامة أكثر من 100 ألف دولار.
القضية تجاوزت الوباء إلى ما هو سياسي، إذ إن الجزائري محمد روراوة، نائب عيسى حياتو، كان هو المتضرر الأول من قرار المحكمة، لأنه كان يريد مسح المغرب من الخريطة، ويدفعه لكي ينسحب كما انسحب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية.
ماري فويي.. ممرضة ماتت في جبهة الكوليرا وأصبحت رمزا للتضحية
في كتاب بعنوان «مستشفى ماري فويي بالرباط»، يخصص الكاتب علي أخضار حيزا لممرضة فرنسية حمل المستشفى العسكري اسمها، من بين عشرات الممرضين والممرضات العاملين في هذا المرفق الصحي، خلال فترة الحماية الفرنسية.
عاشت ماري في فترة زمنية دقيقة واكبت تقريبا الحقبة الاستعمارية، كما عاشت الحرب العالمية الأولى ميدانيا. فقد رأت النور في 30 ماي 1864 بمدينة ريتيل الفرنسية، وبعد تخرجها أرسلتها وزارة الصحة الفرنسية إلى مدينة وهران الجزائرية، حيث عينت سنة 1907 ممرضة رئيسية بالمستشفى العسكري لهذه المدينة، بعد مقام لم يتجاوز السنة الواحدة انتقلت رفقة فريق من الممرضات إلى المغرب بقرار من المقيم العام ليوطي، كي تشرف على تأطير مجموعة من الممرضات في مستشفيات المغرب.
في منتصف شهر غشت من السنة نفسها، كانت ماري في طريقها نحو مدينة مكناس، حيث كان لها لقاء تكويني بالمستشفى العسكري للمدينة، وفي طريقها إلى العاصمة الإسماعيلية صادفت أثناء توقفها في مدينة تيفلت انتشار داء الكوليرا وكانت الحرارة جد مفرطة، فقررت أن تنخرط مع الطاقم الطبي للمدينة في حملة بالمنطقة والمداشر لمدة أسبوع على أن تستكمل طريقها في الفترة المسائية، لكنها تعرضت للوباء نفسه ولم تنفع تحذيرات زملائها الأطباء من التوقف عن عمل الإغاثة، إلى أن سقطت فتم حملها في سيارة إسعاف إلى جانب المرضى إلى مستشفى مكناس العسكري، وبعد ثلاثة أيام توفيت ماري وسط ذهول الجميع، وتحديدا في 27 غشت.
نقل جثمانها من الرباط إلى الدار البيضاء ثم إلى فرنسا، وتحديدا إلى مقبرة «مونبرناس»، بحضور الرئيس الفرنسي وكبار الشخصيات العسكرية والطبية الفرنسية، وتقرر أن يحمل اسم المستشفى العسكري للرباط اسمها «ماري فويي» والذي أصبح المغاربة يطلقون عليه اختصارا اسم «ماريفي»، كما حمل المستشفى العسكري لوهران اسم هذه الممرضة.
بن زاكين.. وزير الصحة يستسلم لداء السل
كان ليون بن زاكين، الطبيب المغربي اليهودي، الأجدر بأن يعين وزيرا للصحة في أول حكومة بعد الاستقلال، نظرا لكفاءته الطبية، لكن ذلك لم يحصل إلا في التعديل الحكومي الذي مس الحكومة المغربية سنة 1956. ولد ليون في طنجة في آخر يوم من سنة 1928، وكان من مؤسسي الرابطة اليهودية، ويعد واحدا من أشهر الأطباء الذين عرفهم المغرب. وعندما حصل المغرب على الاستقلال، تم تعيينه وزيرا للبريد والمواصلات، ثم أصبح وزيرا للصحة، وهو المجال الذي يناسبه، واستمر فيه إلى حدود سنة 1958، كما شغل منصب طبيب للملك محمد الخامس، وقد كان من بين الأطباء المقربين للسلطان.
أصيب بن زاكين بمرض مفاجئ، فتم نقله إلى فرنسا لتلقي العلاج على يد أحد الأطباء اليهود في باريس، هناك تبينت إصابته بالتهاب رئوي تطور إلى حالة سل بسبب إدمانه على التدخين، وهو ما تطلب منه غيابا عن المشهد السياسي وعن اجتماعات حكومة البكاي، وحين علم الملك محمد الخامس بالأمر وهو في باريس، قرر عيادته، مما أدخل السرور على ليون، الذي كتب عن هذه الزيارة واعتبرها بلسما لمعاناته الصحية.
لكن حظ بن زاكين كان عاثرا، إذ إن وفاة محمد الخامس قد حالت دون بقائه ضمن التشكيلة الحكومية بداية الستينات، خصوصا وأن علاقاته الوطيدة مع بعض المنظمات اليهودية خارج المغرب وخارج إسرائيل أيضا، جعلته يختار مغادرة المغرب.. لأن الظروف السياسية التي مرت منها منطقة الشرق الأوسط، انعكست على الوجود اليهودي بالمغرب، ولم تعد ظاهرة استوزار اليهود في الوزارات والدواوين إلا في سنوات الثمانينات، وكان بن زاكين قد رحل عن الدنيا قبلها وتحديدا سنة 1977.
هواري بومدين في مستشفى بنقريش بسبب داء السل
كان مستشفى بنقريش البناية الوحيدة الخاصة بالأمراض الصدرية في تطوان ويوجد مقرها بالجماعة القروية بنقريش، والآن أصبح هذا المرفق الطبي مجرد أطلال بالرغم من دوره التاريخي.
وحسب أحمد بن البشير الهسكوري، الذي عمل مستشارا للخليفة مولاي الحسن بن المهدي، والرجل الثاني داخل قصر الخليفة. وحسب شهادات أبناء الهسكوري في مجموعة من المنابر الإعلامية، فإن مستشفى بنقريش قد لعب دورا في دعم المقاومة الجزائرية، بل إن أحمد اضطر إلى تزوير وثائق لهوية هواري بومدين الذي سيصبح رئيسا للجزائر، وأدخله مستشفى بنقريش للعلاج من مرض السل، في فترة كان فيها هواري ضمن خلية المقاومين الجزائريين المتحصنين بالمنطقة الشرقية للمملكة.
ليس هواري وحده الذي كاد أن يسقطه السل، بل إن عددا من المقاومين عاشوا الوضع ذاته ووجدوا في هذا المستشفى ملاذا لهم، خاصة الذين كانوا يدخنون بشراهة، في زمن كان فيه بنقريش يعج بالمئات من الراهبات الإسبانيات اللواتي يعملن فيه كممرضات ومساعدات منذ تشييده سنة 1946، من طرف الحماية الإسبانية، حيث كانت تتوفر فيه كل التجهيزات الطبية، والأطر المتخصصة، والممرضات من المربيات الراهبات، وكان متنفسا لعلاج كل من ابتلي بمرض السل ومن جميع أنحاء المغرب.
تعرض المستشفى للكثير من الهزات والنكسات، بعد أن تحول إلى محجز للمشردين والمتسولين في إحدى المناسبات التي كان يخضع فيها مستشفى الرازي للأمراض العقلية للإصلاح والتجديد، بعد أن تم نقله إلى جناح بمستشفى الأمراض الصدرية.
محمد الخامس يضع أطباء القصر رهن إشارة بلافريج
أصيب أحمد بلافريج، الوزير الأول الأسبق، بداء السل لأول مرة في صيف 1937 وانتقل إلى سويسرا للعلاج، هناك وجد كل الدعم من الطلبة المغاربة والسوريين في أوربا، ومن بينهم شكيب أرسلان على الخصوص، سيما وأن مقامه في جنيف دام طويلا. وحين عاد إلى كورسيكا منفيا اغتنم الإقامة الجبرية ليكمل علاجه. خاصة وأنه أصبح خصما للسلطات الاستعمارية الفرنسية، التي أزعجها وقوفه وراء توقيع وتوزيع وثيقة المطالبة بالاستقلال.
عين الملك محمد الخامس أحمد بلافريج وزيرا للخارجية مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال، كما تقلد رئاسة الحكومة، وأصبح الممثل الشخصي للملك الحسن الثاني، لكن المرض الصدري ظل يتردد عليه بين الفينة والأخرى، وهو ما كان يغيبه عن المشهد السياسي. وحسب شهادة صحافي استقلالي، فإن محمد الخامس قد طلب من طبيبه الخاص الاهتمام بالحالة الصحية لبلافريج، مما مكن هذا الأخير من الاستفادة من الطاقم الطبي للقصر.
عين وزيرا أول لكن حكومته لم تعمر طويلا، حيث انتهت صلاحيتها السياسية في دجنبر 1958. وعاد إلى وزارة الخارجية في ما بين 1961 و1963. ثم عين ممثلا شخصيا للملك الحسن الثاني إلى عام 1972، لكن مرضه أجبره على مغادرة الساحة السياسية.
تحولت زوجته فطوم بناني، ابنة المناضل الجيلالي بناني، والد محمد بناني، وكلاهما كان من الموقعين على وثيقة الاستقلال عام 1944، إلى ممرضة تسهر على صحة زوجها الذي قرر اعتزال السياسة، والطريف أنها أنجبت منه خمسة أبناء، أربع بنات: سعاد وليلى ومية وأمينة، والثلاث الأخيرات تخرجن طبيبات، بعد أن قررن معالجة والدهن.
الطاعون يفتك بالسلطان أحمد المنصور الذهبي
كان السلطان أحمد المنصور السعدي الذهبي واسطة عقد الملوك السعديين، وأحد ملوك المغرب العظام وباني قصر البديع. ولد بفاس عام 956 هجرية، ونظرا لرمزية المكان فقد بويع في ساحة معركة وادي المخازن سنة 986 هجرية. ويعتبر عهده الذي دام حوالي 26 سنة من أزهى عهود الدولة السعدية وأكثرها رخاء وعلما وعمرانا وجاها وقوة، حيث تجمع الروايات التاريخية على أن أحمد المنصور جمع بين العلم والمعرفة ورعى العلماء، وألف كتبا في فقه السياسة، من قبيل «كتاب المعارف في كل ما تحتاج إليه الخلائف»، والثاني كتاب «العود أحمد» وجمع في الأدعية المأثورة عن الرسول، فضلا عن حرصه على تولي أعباء الحكم وكان يعرف أن قواته في التسعينات من القرن العاشر الهجري تكفي لحماية البلاد من أطماع الأتراك والبرتغاليين والإسبان.
لكن مشاريع السلطان سرعان ما دفنت في دواخله، بعد أن داهمه مرض الطاعون الذي فتك به، وحال دون طموحاته فمات ليلة الاثنين 16 ربيع الأول عام 1012 هجرية، ودفن بالقرب من مقصورة الجامع الأعظم بفاس الجديد، ثم نقل إلى مراكش ودفن في قبور الأشراف السعديين قبالة جامع المنصور بالقصبة، استنادا إلى وصيته التي أصر مشيعوه على تنفيذها، وتجمع الروايات على أن الراحل ظل قبل وفاته أسير غرفته لا يلوي على شيء في ما يشبه انتظار وصول ملك الموت.
ويرى كثير من المؤرخين أن إصابة السلطان بمرض الطاعون الفتاك، يرجع لفتوحاته الخارجية وعلاقته مع البحارة وتردده على الموانئ، حيث كانت الجردان تملأ المكان في زمن لم يكن فيه ذكر لنظام الصرف الصحي، في ظل شبكة العلاقات الخارجية لأحمد المنصور، سيما مع إنجلترا وفرنسا وهولندا. وانتبه أحد المؤرخين إلى غياب جهود مكافحة الطاعون الذي زحف على العالم في تلك الآونة، واعتبر غضبة إلهية، والحال أنه أول حرب بكترولوجية في التاريخ. وكانت وفاة السلطان بالوباء الفتاك تكريسا للقدرية في التعامل مع الطاعون، الذي انتقل «عن طريق التنفس والعطاس والسعال البسيط من الإنسان إلى الآخر، ولكنه يحمل الموت في أيام قليلة». ويؤكد المؤرخ الحسين مؤنس في كتابه «تاريخ المغرب وحضارته» هذه الواقعة، ويصر على أن ازدهار الدولة السعدية في عهد السلطان الراحل لم يكن كافيا للتصدي لأخطر وباء في تلك الحقبة.
هكذا تمت تصفية إيميل موشون.. طبيب «العواية» في مراكش
في صباح أحد أيام ربيع عام 1907، اعترضت جمهرة غفيرة من المغاربة الغاضبين سبيل الدكتور إميل موشون، في الزقاق المؤدي من بيته إلى مستوصف الأطفال الذي كان يديره في مراكش. وبعد طعنه ورجمه وسحله، تعرض بيته للنهب والتخريب بمبرر أنه كان جاسوسا متخفيا في هيئة طبيب للأطفال.
لم يكن القتلة يدركون أن ذلك الحادث بدا لحينه معزولا، سوف يشكل نقطة مفصلية في التاريخ المعاصر للمغرب. فقد اعتبرته فرنسا «النقطة التي أفاضت الكأس»، واتخذت منه ذريعة لاحتلال وجدة كمقدمة لاحتلال كامل التراب المغربي. حين التحق إميل بكلية الطب في باريس لمع بأطروحته حول الرضاعة الصناعية بالحليب المعقم، دشن الدكتور موشون حياته العملية بدراسة الأوبئة، مثل الطاعون في البرازيل والتيفوئيد في اليونان. وتوج عمله الجريء وسط الأوبئة والأمراض المعدية بحصوله على وسام من الحكومة التركية، عرفانا منها له على «شجاعته وعدم خوفه من الأمراض وتفانيه».
وفي العام 1905 قررت حكومة بلده خلق مستوصفات للمساعدة الطبية في بعض موانئ ومدن المغرب الكبرى، فعينت الدكتور موشون في المستشفى الذي أحدثته في هذا الإطار بمراكش، باعتباره كان يفهم العربية وكذا العقلية الشرقية.
استطاع بفضل مثابرته وخدماته الطبية التي قدمها للناس في بيوتهم أو في المستوصف الذي أقامه مع توزيعه للدواء عليهم، من كسب احترام فئات واسعة منهم. ولم يكد الدكتور موشون يكمل عامه الأول في المدينة حتى عمت مجاعة وانتشر التيفوئيد فحصد الموت آلاف الناس، وبرز دوره بين سكان مراكش لا كطبيب متفاني في علاجهم فحسب، بل أيضا كرجل خير وصلاح إذ كان يوزع الأكل الذي يشتريه بماله الخاص على الجياع. وبدعم من الحكومة الفرنسية، جهز المستوصف الذي يعمل فيه باثني عشر سريرا وبما يكفي من الدواء، حتى ناهز عدد المرضى الذين كان يفحصهم يوميا 150 مريضا.
رغم الصورة المشرقة التي صنعت له من قبل الفرنسيين، ودوره في التصدي للأمراض الفتاكة خاصة «العواية»، إلا أن الدكتور موشون جمع من حوله كثيرا من الأعداء. لكن نهايته دنت عندما نصب أياما قليلة قبل مقتله في سطح بيته ما قال عنه هو إنه مجرد قصب يستعمله لنشر الغسيل، بينما اتهمه قاتلوه بأنه هوائي للراديو اللاسلكي، الذي كان يستعمله للتخابر مع سلطات بلاده.
وفي رواية أخرى من الروايات العديدة التي تناولت مقتله، قيل إن باشا المدينة استدعاه ذلك الصباح وخاض معه في حديث غير ودي، موضوعه ذلك «الشيء» الذي نصبه فوق سطح بيته. وفي كل الأحوال يبدو من الثابت أن مقتله حصل بينما كان عائدا إلى بيته.
حمل جثمان الدكتور موشون إلى المستوصف، بينما هجمت الجموع الهائجة على بيته ونهبت وخربت محتوياته. وبعد أن أخبر بالواقعة، نقل تحت حراسة مشددة إلى مدينة الجديدة، وهناك خضع الجثمان لفحص شرعي أجراه طبيبان فرنسيان، وتبين أن الجسد حمل ما يفوق 25 طعنة من أسلحة بيضاء. ومن الجديدة حمل التابوت بحرا إلى طنجة، حيث أقيم للدكتور القتيل حفل تأبين حضرته الجالية الأوربية وسط أجواء من التأثر البالغ، ثم رحل الجثمان بحرا إلى فرنسا.
لم يمض سوى أسبوع واحد على مقتل الدكتور موشون، حتى استجابت الحكومة الفرنسية لأجواء الغضب وللضغط الذي كان يطالب برد فعل قوي. وقررت في اجتماع تاريخي تحريك جزء من آلتها الحربية المتمركزة في الجزائر غربا لاحتلال وجدة.