مشاهير في مصحات نفسية.. سياسيون وفنانون خضعوا لحصص علاج نفسي
مع
هناك لعبة إلكترونية عجيبة يقبل عليها الأطفال والشباب تسمى «لعبة هروب مجنون»، يقضي فيها اللاعبون لحظات ممتعة في البحث عن مخرج من مصحة الأمراض العقلية، حيث الصراع اليومي مع الممرضين والممرضات ومع المرضى أنفسهم.
ظل اللجوء إلى مصحة نفسية خطوة جريئة لا تتم إلا بإلحاح من الأسرة، أو استفحال أزمة، فقد ناب أولياء صالحون عن الأطباء، بعد أن تخصصوا في علاج حالات الجنون، كبويا عمر بضواحي العطاوية، والولي سيدي مسعود بن حسين بأولاد فرج في عمق دكالة، وغيرهما من الأولياء الذين أطلقت عليهم الثقافة الشعبية لقب «رداد العقول الطايشين»، مع تسجيل حالات فرار مرضى من السلاسل والأصفاد الصدئة لأولياء لم يعودوا صالحين من شدة قسوتهم على زوارهم.
كثير من الدراسات النفسية ربطت العبقرية بالجنون، لكنها لم تتوصل إلى السبب الحقيقي وراء متلازمة «الجنون والعبقرية»، فقط إحدى الدراسات أرجعت الأمر بشكل كبير إلى العوامل الوراثية، وأوضحت الدراسة، التي أجريت على 2.2 مليون شخص في السويد ونشرت في دورية «جاما» للطب النفسي، أن أعداد عينات الدراسات السابقة لم تكن كبيرة كفاية. وحتى بعد اجتهاد العلماء في البحث لم يستطع أحد نفي أو إثبات العلاقة بين العبقرية والجنون، أو الأمراض النفسية عموما، وظلت سمة محيرة ومميزة في الوقت نفسه، واشتهر على مر التاريخ بعض العظماء في مجالات مختلفة بإصاباتهم ببعض الأمراض النفسية، والتي يمكن أن تكون غير ظاهرة عند العديد من البشر، لكنها تظهر عليهم بشكل أكبر.
في هذا الملف الأسبوعي، نرصد أبرز الشخصيات المغربية التي توقفت في مصحة نفسية، وأسباب النزول، بالرغم من إقرارنا بوجود أضعاف هذه الحالات طي الكتمان، في ظل سرية العبور من مصحة نفسية.
الزعيم السياسي أيت إيدر يقضي سنتين في مصحة نفسية
في مذكرات المقاوم والزعيم اليساري محمد بن سعيد أيت إيدر، نتوقف عند اعترافات جريئة، ليس فقط في حياته كمقاوم حكم عليه بالإعدام غيابيا، عاش سنوات الرصاص وظل مصنفا في خانة معارضي النظام، بل إنه عاش تجربة في مصحة نفسية بسويسرا، يقول محمد بن سعيد أيت إيدر: «في أكتوبر 1967 أخذني عبد الرحمان اليوسفي إلى مصحة للأمراض النفسية تقع نواحي العاصمة السويسرية آنذاك جنيف، متخصصة في معالجة أمراض فاقدي الذاكرة، ولم أكن واحدا منهم. المشكل الذي عانيت منه ارتبط بنسيان ما يقع في الحاضر، كأن إرادتي وحافظتي صارتا ترفضان أي مزيد، كان شريط الأحداث يداهمني كل ليلة ويلقي بي في محنة نفسية لا تطاق، كان علي أن أخضع لراحة تامة وأن أبتعد عن أي نشاط سياسي، وأن أهتم بنفسي أكثر».
أدلى بن سعيد بأوراق إدارية لدخول المصحة، كرخصة السياقة، جواز السفر، وكلها كانت باسم خالد عبد الله المغربي، صاحب الجنسية الجزائرية المزورة. وحتى يحصل على إقامة لمدة عشر سنوات، نصحه أحد العارفين بهذه الأمور بالحصول على عقد عمل من السفارة العراقية، وهو ما تم فعلا، لكنه حين تقدم إلى السلطات الفرنسية بالأوراق اللازمة، جاءه الرد بالسلب.
خلال وجوده في أوربا، قرر بن سعيد استكمال دراسته العليا، وسعى إلى الحصول على شهادة الإجازة في التاريخ والجغرافيا من جامعة «فانسين» باسم خالد عبد الله، الاسم الذي رافقه طيلة مدة إقامته بفرنسا. «لم يكن اسما حركيا كما هو الحال في عالم السياسة، وخصوصا مثلما الأمر في دول العالم الثالث، بل كان عبارة عن هوية شخص جزائري مزداد بتلمسان، اضطرتني الظروف إلى حملها وأنا أخرج إلى فرنسا. لذلك لم أكن لاجئا مغربيا بحسب هذه الهوية الجديدة، وإنما مهاجرا جزائريا.
كانت السلطات الفرنسية تراقبني من بعيد دون أن تشعرني بذلك، ولم أحس يوما بأي مضايقة، بل كنت أعيش وأمارس حياتي بكل حرية. وحتى عندما كان الحسن الثاني يزور فرنسا، فإن هذه السلطات كانت تعتمد نقل المعارضين المغاربة، بمن فيهم حميد برادة إلى أماكن بعيدة عن وجوده، ويتركونني أنا وعبد السلام الجبلي في حالنا، بالرغم من معرفتهم بهويتينا الحقيقيتين. أما هوية خالد عبد الله فقد خلعتها بمجرد دخولي إلى المغرب عام 1980، وما زلت أحتفظ بها في أدراج مكتبي».
مريم بنجلون.. بنت وزير تقضي شهورا بمصحة نفسية بسبب الإدمان
لم تكن فرقة مكافحة المخدرات تعلم أن مريم بنجلون، الموضوعة تحت المراقبة هي ابنة مجيد بنجلون، الوزير والمستشار السابق للملك الراحل الحسن الثاني بالتبني، فقد تم ترصد تحركاتها وهي تبحث عن مزود لتشتري منه كمية من مخدر الكوكايين الذي أدمنته قبل سنوات، وتحملت من أجل ذلك عناء الانتقال إلى منزل أحد المزودين بحي النهضة الشعبي، لكنها لم تكن تعتقد أن كمينا أمنيا سيطيح بها.
تحملت مارية، كما يحلو لأصدقائها تسميتها، عناء البحث عن المخدر العجيب في الأحياء الهامشية، بعد أن كانت البضاعة تصلها إلى بيتها، لكن اعتقال بارونة المخدرات الملقبة بـ«الشينوية» جعلها تضطر إلى تدبير الطارئ حتى ولو أدى بها الأمر إلى طرق أبواب المزودين السريين في الحارات البعيدة.
تعلمت «بنت لفشوش» أولى «السطور» في إسبانيا، عندما قررت قضاء فترة إجازة مفتوحة لنسيان مضاعفات طلاقها من شاب ينتمي إلى أسرة فاسية، أعلن عجزه عن مجاراة الطلبات الغريبة لمارية، التي أنجبت بنتا تعيش في دار الوزير. في ماربيا بدأت علاقة العشق مع المحظور.
لم تكن مارية تعتقد أن زيارة بيت المزود، سترسلها إلى السجن، لأن مجرد انتمائها إلى أسرة الوزير ظل لسنوات بمثابة حصانة تقيها سؤال البوليس حول الهوية، لذا شعرت بانهيار تام حين جلست أمام المحققين، وحين اقتيدت إلى زنزانة مختنقة لا تتوفر على أبسط شروط الحياة ولا تتوفر طبعا على المسحوق السحري، الذي قد يشفع لها لو توفر في فضاء سجن سلا، للمكوث لأطول فترة ممكنة.
تبين لأسرة بنجلون أن مارية أصبحت في عداد المدمنين، وأن الزواج لديها ليس مرادفا للاستقرار، لذا تم عرضها على أطباء نفسانيين، بل وتم نقلها إلى مصحة نفسية متخصصة في محاربة الإدمان في سويسرا، وهو الأمر الذي مكنها من قطع الصلة مؤقتا بالسطور اللئيمة، لكن تبين أن المسألة مجرد استراحة محاربة قبل أن تعود إلى عالمها المخملي.
لمارية سوابق عديدة اعتمادا على انتمائها لأسرة الوزير، ففي سنة 2003 صدمت بسيارتها شرطية، ما كلفها اعتقالا مدته أربعة أشهر نافذة، بعد أن استفادت من عفو ملكي، وهي القضية التي كادت أن تحول والدا بالتبني إلى جثة هامدة، بعد أن ضاق ذرعا بتصرفاتها الطائشة، لكن مارية أقسمت على قطع علاقتها بالكوكايين، و«شلة السوء» وبناء على هذا التعهد المعنوي أرسلها الوزير مرة أخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية لعلاج الإدمان، وحين عادت إلى المغرب استقرت في شقة خاصة فأعلنت التوبة.
الكوميسير البقالي.. مات في زنزانته بسبب الاكتئاب والألم
ما زال عمداء وضباط ومفتشو الشرطة ممن تمت محاكمتهم في قضية «العميد الممتاز ثابت» سنة 1993، ينتظرون جبر الضرر ورد ما تبقى من اعتبار، بينما نال العميد الإقليمي أحمد أوعشي والراحل العميد الإقليمي عبد السلام البقالي تعويضهما عن الضرر الناتج عن محاكمتهما وسجنهما في الملف ذاته دون أن يطول هذا الإجراء باقي الضحايا، ورد لهما الحسن الثاني جزءا من الاعتبار لكن بعد وفاة البقالي.
في معتقله الانفرادي بسجن القنيطرة، تحول العميد البقالي ذات صباح إلى جثة هامدة. راكم الرجل طيلة فترة الاعتقال هواجس القلق وعجز عن تصديق ما حصل له في ملف غريب، أعدم فيه الفاعل رميا بالرصاص من طرف نيران صديقة، وأعدم فيه آخرون برصاص الجحود والتنكر، دون أن تنصت لهم هيئة الإنصاف والمصالحة على غرار ضحايا سنوات الرصاص. مات البقالي في زنزانته موتا وصفه أصدقاؤه بـ«الإعدام الممنهج دون رمي بالرصاص»، أما مصطفى بنمغنية، الضابط الذي اعتقل على خلفية قضية ثابت، فما زال يتأبط ملفه بحثا عن الإنصاف، بعد أن مات نفسيا حين جرده الحكم من إنسانيته وحكم عليه بالتفكك العائلي المؤبد.
الممرضة اليهودية والمختل العقلي في برشيد
يقول صالح الإدريسي، الممرض الرئيسي المتقاعد الذي قضى أزيد من 42 سنة في خدمة نزلاء مستشفى الأمراض العقلية لبرشيد، إن المستشفى كان الأكبر والوحيد على مستوى تراب المملكة، مضيفا أن أسباب النزول ترجع لوجود أفراد من الجيش الفرنسي تم تجنيدهم من جنسيات مختلفة، عانوا من القهر النفسي ولم يتمكنوا من التأقلم مع الوضع الجديد، فانتابتهم الرغبة في التمرد على الوضع. يقول الإدريسي وهو يعيد شريط الذكريات إلى الوراء: «أصل التأسيس عسكري قبل أن يتحول إلى فضاء يشمل جميع المواطنين بخدماته».
وعلى صعيد آخر، «نالت بعض العائلات شهرة خاصة بفضل المجانين الذين كانوا يؤدون لها خدمات منزلية، مثل عنتر بالنسبة إلى عائلة الريحاني، إدريس البركادي وعلي الجيكي عند الإخوة بوكريزية، مولاي إدريس عند الحطاب ولد السطاتية، خدوج عند إدريس زهير، بزيز الوجدي عند الجيلالي العثماني، لوبيز عند حميدو لمطاعي، عبد الرحمان عند المصطفى الزوراري، الخ. ناهيك عن المجانين المتجولين صباح مساء بفضاء القيسارية، والذين كانوا أصدقاء للجميع مثل قونوفو، البهجة، حميدة حلال العقادي، رحال، حسن الكمانجة، الرحيميني، مكتوب، المعيطيطي، علي الشيكي، بنداود وهو رجل مثقف كان من رواد مقهى بلفقيه»، يقول الباحث الجيلالي طهير.
ولا يخلو السجل التاريخي لمجانين برشيد من الخطورة وأحيانا من الطرافة التي تشبه النبوءة. ففي مطلع الستينات قام مجنون طليق بطعن الجزار عبد السلام بن صالح الحبشي، بداخل متجره بالقيسارية وأصابه بجروح خطيرة. وفي منتصف الستينات، أعطت ممرضة يهودية كانت زوجة طبيب يهودي يدعى إيدوار ساسان، كانت تملك سيارة صغيرة من نوع «دوفين»، عبد الرحمان صاحب المصطفى الزوراري علبة سجائر أمريكية، وهو الذي اعتاد على تدخين أعقاب السجائر المرمية في الشوارع، فرفع يديه إلى السماء وقال لها شاكرا: «سيري يا مدام الله يجعل راية اليهود فوق من راية المسلمين». بعد أيام حل شهر يونيو 1967، وحصلت النكسة العربية.
محامي لمجرد يطالب بعرض موكله على مصحة نفسية
تقدم المحامي الفرنسي «جان مارك فيديدا» بطلب للمدعي العام، من أجل نقل موكله الفنان سعد لمجرد إلى مستشفى الأمراض العقلية، عوض السجن، وذلك بعد دخوله في حالة اكتئاب حاد، حين كان رهن الاعتقال. وأكد محامي لمجرد الفرنسي الجنسية، بأنه يملك تقارير رسمية تتضمن تفاصيل عن حالة لمجرد الذي يحتاج إلى متابعة طبية سريعة.
وقالت صحيفة «لوباريزيان» إن ما وقع لسعد في الفترة السابقة من أحداث ومواقف جعلت صحته النفسية تتدهور وتزداد سوءا بعد قرار اعتقاله مجددا، ما قد يعقد الأمور، ما دعا محاميه إلى المطالبة بوضعه تحت الحراسة داخل مصحة نفسية، لكن المدعي العام الفرنسي رفض الطلب الذي تقدم به المحامي.
ورغم الإفراج عنه بكفالة مالية على أن تستكمل مراحل محاكمته بتهمة الاعتداء الجنسي على فتاة قاصر، لوحظ أن الصمت الذي يعيشه الفنان المغربي سعد لمجرد بعد محنته، وهو الذي عود جمهوره على التواصل معه وطمأنتهم عن أحواله عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يؤكد حالة الاكتئاب التي يعبرها، ما دفعه إلى القيام بحصص نفسية في حضرة طبيب.
لكن الثابت أن لمجرد عاش حالة نفسية سيئة بعد الذي حصل له، فيما حاول بعض الأصدقاء المقربين منه مساعدته في محنته، فمنهم من سافر إلى فرنسا للوقوف بجانبه، ومنهم من تواصل معه للاطمئنان على حالته كالفنانة الإماراتية أحلام والفنان اللبناني سعد رمضان.
ولتجاوز أزمته النفسية يفضل سعد ولوج مواقع التواصل الاجتماعي كي لا يتأثر نفسيا بما يكتب عنه، كما يتجنب قراءة الأخبار التي نشرتها عنه الصحافة الفرنسية.
مليكة أوفقير.. ساعات أمام طبيب نفسي لعلاج سنوات الاعتقال
«كانت أحلام مليكة أوفقير، ابنة الجنرال محمد أوفقير المتهم بتدبير انقلاب 1972، بلا شواطئ وطموحاتها بلا حدود، وهي كريمة أحد أكثر رجال الملك الراحل الحسن الثاني، لكن حياتها بعد الانقلاب انقلبت رأسا على عقب وتحولت إلى جانب أفراد أسرتها إلى سجينة وغريبة وممنوعة من التداول»، هكذا كتبت روائية سورية عنها.
ولدت مليكة في مراكش عام 1953، عمل والدها طيلة حياته في الجهاز الأمني للدولة، لكن حادثة الطائرة الملكية غيرت مجرى حياته وحياة أسرته، التي تعرضت لأشد أنواع التنكيل في سجن سري في منطقة البير الجديد على مشارف دكالة. كانت مليكة الابنة البكر لمحمد أوفقير، إلى جانب أشقائها عبد اللطيف، ومريم، وماريا، وسكينه ثم رؤوف.
في سنة 1991 رأت مليكة النور من جديد، حين أفرج عنها رفقة أفراد عائلتها، وفي الـ16 من يوليوز سنة 1996 وعندما بلغت من العمر 43 عاما هاجرت إلى باريس برفقة أخيها رؤوف وأختها سكينة، بحثا عن حياة جديدة بعيدا عن كابوس الاعتقال والنفي.
لم تطلب مليكة من زوجها إشهار إسلامه وفق ضوابط الشريعة الإسلامية، بل ارتمت في حضنه بحثا عن حماية عانت من ويلاتها، ورغبة في استدراك ما فات، وأصرت على إقامة حفل الزفاف في العاصمة الفرنسية باريس وفق الطقوس الفرنسية. وفي عاصمة الأنوار قلبت مليكة صفحة الأحزان وعاشت حياة جديدة، وانكبت على تربية ابنها آدم وكتابة مذكراتها «السجينة»، التي تروي فيها تفاصيل جحيم الاعتقال و«الغريبة» التي تروي من خلالها قصتها بعد زواجها، وكيف عاشت النقلة النوعية من سجن سري إلى قفص الزوجية العلني.
تعترف مليكة بانقباضها النفسي حين تقول في مذكراتها: «كنت أتصرف كالبلهاء. فكيف لي أنا من أتمتع بشيء من الخبرة وقصص الحب وأستطيع التحكم في جسدي أكثر من شقيقاتي، أن أجلس معه صامتة كفتاة خجولة، مذعورة، تعجز عن تمييز الفرح من الخوف؟ جلس زوجي إلى جانبي من دون أن يقوم بأي حركة، فشعرت بالرعب وانطويت على نفسي. فركع قرب السرير وراح ينظر إلي مطولا. فسألني: «من أنت؟ ومن أين جئت؟ تبدو التعاسة في عينيك». شعرت بانقباض ورحت أتنفس وأشهق وأنتحب. بقي إلى جانبي حتى طلوع الفجر وأنا منكمشة به لا أكف عن البكاء»، من هنا كانت فكرة عرضها على طبيب نفسي».
تقول طبيبتها الفرنسية: «مليكة إنسانة ناجية، وهي كجميع الناجين قاسية وقوية. ولأنها عاشت قاب قوسين أو أدنى من الموت، رأيتها تعامل الحياة بزهد. فهي لا تعرف معنى الوقت ولا علاقة لها بالمكان. فالمواعد لا تعني لها الكثير، وقد تضرب لك موعدا ولا تأتي، وهي تخشى قطارات الأنفاق، وتخشى التجمعات البشرية والتكنولوجيا. إنها امرأة مؤثرة، سهلة الانكسار، متعبة، متأثرة بالأمراض التي عانت منها، وسنوات الحرمان الطويلة والعزلة، لكنها أيضا امرأة قوية. فعشرون عاما من السجن والعذاب قد تركت للأسف دمارا لا يرمم، لكن هذه المحن بلورت عند هذه السيدة روحا جميلة وشخصية تستحق الإعجاب».
التهامي الأزموري.. مقاوم مات منتحرا
كان المقاوم التهامي الأزموري آخر شخص عاين لحظة اختطاف المهدي بن بركة، فقد كان واحدا من أصدقائه المخلصين. كان التهامي يدرس في باريس ويتابع بحوثه في التاريخ، ويلتقي بالمهدي بشكل يومي، ولأنه اتحادي الانتماء فإنه ظل وفيا لقناعاته ومبادئه، بل كاد يعيش نفس مصير بن بركة لولا انفلاته من بين يدي رجلي أمن كلفا باقتياد المهدي إلى نهايته التراجيدية.
يقول الباحث السياسي محمد حمضي وهو يقدم جزءا من حياة ابن وزان المشاكس، إنه بتاريخ 22 أكتوبر 1965 سيتصل المهدي بشاب مغربي اسمه التهامي الأزموري، وهو طالب باحث في التاريخ، ليعيش معه آخر فصل من فصول اختطاف سياسي.
اختار التهامي الاقتران بشابة فرنسية، لكن «هذا الشاب سيظهر بعد أيام وهو في درجة الصفر من التمزق النفسي. مرت الأسابيع والشهور وهو على هذه الحالة إلى أن زهقت روحه، قبل أن ينقل جثمانه للدفن بمسقط رأسه بوزان».
قال عنه محمد بن سعيد أيت إيدر الكثير، ووصفه بالمقاوم البطل، قبل أن يكشف عن نهايته منتحرا، فيما أوضح المؤرخ محمد زنيبر أن «الشاب الأزموري نابغة عصره، وكان سيكون معلمة من معالم وطنه، لكن صدمة اختطاف المهدي من بين يديه كان وقعها قويا على نفسيته».
كلود جوبلير.. طبيب محمد الخامس يكشف أمراض ميتران
أثار الدكتور كلود جوبلير، طبيب الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، جدلا واسعا بعد إصدار كتابه «السر الكبير»، وتحول إلى مادة إعلامية شغلت الأوساط السياسية والطبية، لأنه تناول فيه مرض الرئيس ميتران وكشف عن أنه كان مصابا بمرض أخفاه منذ شهر نونبر 1981، أي بعد نحو ستة أشهر من انتخابه لولايته الأولى. وكانت ردود فعل الضجة التي أثارها الكتاب إدانة الدكتور كلود جوبلير باعتباره خان مريضه وحنث بقسم «أبوقراط»، الذي يلزم ممارسي مهنة الطب بالمحافظة على سرية داء مريضه، أيا كان هذا المريض حتى بعد وفاته.. ولقد تم سحب الكتاب من الأسواق، بعد حكم المحكمة بمصادرته بناء على طلب ابني الرئيس الراحل وزوجته، كما رفع كل هؤلاء دعوى ضد مجلة «باري ماتش» التي نشرت فقرات من الكتاب وأيضاَ صورا للرئيس ميتران التقطت خلسة وهو على فراش الموت.
وكان الرئيس الفرنسي الأسبق يعاني من أعراض مرض النسيان، وقد خرج لتوه من متاعب قضائية في فرنسا بعد أن حكم عليه بسنتين حبسا دون النفاذ في قضية الوظائف الوهمية.
وقالت أسرة ميتران للقضاء الفرنسي إن نشر صور الرئيس الأسبق في حالة اكتئاب يتناقض مع أي معايير أخلاقية، وإخلال خطير بمبدأ الاحترام الواجب تجاه الموتى.
ما حدث للدكتور كلود جوبلير الفرنسي حدث لطبيب آخر روسي يدعى يفعيني سازوف، الذي نشر كتابا مشابها أطلق عليه «الصحة والسلطة»، استعرض فيه أسرار مرضاه المشاهير واستخدمها كمادة للكتاب، وتعرض الكاتب والكتاب للنقد الشنيع في حينه، وذلك لاستغلال الطبيب أسرار مرضاه وانتهى الأمر بأن صودر الكتاب وعوقب الكاتب. كما منع كتاب «كنت طبيبا لصدام»، الذي تناول الأسرار المرضية للرئيس صدام حسين خلال حكمه وحياته الشخصية وحياة أسرته وأقربائه.
لذا فمصادرة «السر الكبير» و«الصحة والسلطة» بادرة حسبت لصالح القضاء في كل من فرنسا وروسيا، الذي اعتبر التزام الطبيب بالحفاظ على سر المريض ليس التزاما أخلاقيا فقط، بل هو التزام «قانوني» أيضا وأن الفرد المريض إن لم يتعرض لضرر في مثل هذه القضايا إلا أن المصلحة العامة تعرضت لضرر، وذلك «بالإساءة غير المباشرة للعلاقة الإنسانية الأزلية والمميزة وهي علاقة المريض بالطبيب».
مريض نفسي يكتب مذكراته من مصحة
أثارت مذكرات الكاتب المصري علي عطا جدلا واسعا في الأوساط الأدبية والطبية، لأنه أول مريض نفسي يكتب مذكراته من داخل مصحة، ويسرد نصا مسكونا بمرارة البوح، من خلال رواية «حافة الكوثر» وهي المصحة التي قضى فيها أيام العلاج.
تدور أحداث الرواية بين القاهرة والمنصورة، وفي مركزها السردي تجربة عاشها بطل العمل داخل مصحة للأمراض النفسية بعد أن تخطى الخمسين من عمره، دفعته إلى الكتابة عن محطات أساسية في حياته، من دون أن يغفل الاشتباك مع الهم العام، وفي قلبه تبعات فشل ثورات الربيع العربي.
يقول الكاتب في تقديمه للرواية: «في تلك الكتابة مساحة معتبرة لنماذج من المرضى الذين تضمهم مصحة الكوثر، تجسد حضورا مأساويا لمرض الاكتئاب في أوساط المنتسبين إلى ما كان يسمى الطبقة الوسطى في المجتمع المصري».
وجاء في مجلة أسرار المشاهير المصرية إشارة إلى غنى المادة السردية في الرواية، والنص مسكون بمرارة البوح وينساب تدفقه السردي في عفوية، عبر سارد يقبض على زمام الحكي، بدءا من لحظات التوتر والتي تليق بنص متوتر بالأساس على المسارين النفسي والفني. «يتجلى ذلك في الحكي عن المكان المركزي، أي المصحة بشخوصها الغارقين في المأساة، والممثلين لمآس تتجاوز ذواتهم المعتلة إلى واقع محمل بالزيف والاستبداد والكراهية، وصولا إلى التوظيف الدال لتقنية الرسائل، عبر خطاب حنان إلى أبيها وبكل ما يحمله من مشاعر غضة وإحساس بحتمية استدراك ما فات».
عن هذه الرواية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، يقول الناقد المصري يسري عبد الله: «إن تعدد لغات الشخوص هنا يحسب للنص تماما، السارد البطل، الأطباء بتنويعاتهم، الصغير منهم والكبير- الممرض- الطاهر يعقوب، ويتماس مع ذلك حضور أسماء واقعية لشخوص حقيقيين وبما يسهم في المزيد من إيهام القارئ بواقعية الحدث الروائي. مستشفى الأمراض النفسية هنا براح شائك للسارد، وفضاء مثقل بالمرارة أمام المتلقي، وسياق معبأ بالانكسارات التي يمتزج فيها الخاص مع العام».