التاريخ المنسي للمجالس البلدية
مع Télé Maroc
أول مجلس بلدي في المغرب كان قد أنشأه المقيم العام ليوطي بمدينة فاس، لكن أعضاء هذا المجلس لم تكن لديهم أية صلاحيات تذكر، بل على العكس كانت مهمتهم لا تخلو من تعقيدات وعرقلة من الإدارة الفرنسية.
حتى أن أحد هؤلاء المغاربة الذين كانوا مسؤولين، مثل الوالي أو الباشا، ثم أعضاء المجلس البلدي، كانوا ينتظرون لساعات طويلة قبل أن يسمح لهم المراقب المدني بدخول مكتبه لدقائق قليلة، قبل أن يصرفهم.
من المشاكل التي عانى منها أعضاء أول مجلس بلدي أنشأه المقيم العام ليوطي، خصوصا في تجربة مدينة فاس، أن الإدارة الفرنسية حاولت التحكم في أعضائه، وأن تنزع عنهم الاختصاصات المالية.
وفي تجربة 1960 ولدت أول مجالس بلدية في المغرب بالمعنى العصري، رغم أنها كانت غارقة في التقاليد الإدارية القديمة، وكانت تحتاج إلى كثير من الإصلاحات.
كيف صارت للمغاربة بلديات في المدن؟
كان المشروع الإصلاحي للإدارة بعد استقلال المغرب في مارس 1956، يلقي بظلاله على النقاش السياسي لسنة 1958، خصوصا أن حكومة بلافريج كانت قد وضعت للنقاش مجموعة من النقاط، على رأسها التصور الجديد للإدارة المغربية. إذ لم يكن معقولا الحفاظ على النظام القديم الذي يكون فيه باشا المدينة، هو القائم المخزني على تدبير الشأن العام في ظل وجود أحزاب سياسية.
ما وقع أن الخطاب الملكي الذي ألقاه الملك الراحل محمد الخامس في ماي 1958، تناول مسألة الإصلاحات الإدارية، وأكد على ضرورة خلق مؤسسات منتخبة لتمثيل المغاربة، والبت في شؤونهم الإدارية وتدبيرها.
المثير أن الملك الراحل محمد الخامس أكد في خطابه للمغاربة أنه سوف يفي بهذا الوعد، المتمثل في وضع نظام دستوري للبلاد، وقال إنه لن تحل سنة 1962 إلا وقد تحقق هذا الأمر. ورغم أن الملك الراحل توفي قبل هذا التاريخ، إلا أن مشروع الدستور قد تم في الموعد المحدد، وقبله انتُخبت المجالس البلدية في عهد الملك محمد الخامس، لتكون أبرز اقتراح لإصلاح سياسي وضعه الملك الراحل في السنة الأخيرة لحكمه.
تجربة المجالس البلدية في المغرب، كانت محطة تستحق أن نسلط عليها مزيدا من الضوء، سيما أن كواليسها المنسية ظلت حبيسة صدور من عاشوها.
هذه المجالس في نسختها الأولى، كانت أول امتحان سياسي للمنتسبين للأحزاب الوطنية، إذ كان العمل السياسي حبيس الاجتماعات الحزبية والأنشطة الوطنية قبل الاستقلال، ليصبح لأول مرة سباقا على أرض الواقع. وجاء هذا في سياق كان يسعى فيه وزراء مغاربة، خصوصا مع تجربة عبد الله إبراهيم، إلى تقوية نفوذهم ومحاولة وضع من يثقون بهم في كرسي رئاسة المجالس البلدية.
فهذا المنصب، خصوصا في مدينة مثل الدار البيضاء، كان يعني صلاحيات أكبر من صلاحيات الوزير نفسه. لكن كان هذا ما اعتقده المتحمسون في البداية، قبل أن يصطدموا بواقع آخر مفاده أن المغرب كان يحتاج إلى سنوات أخرى للتخلص من بقايا المدرسة المخزنية العتيقة، التي كانت ترى في المناصب المخزنية كراسي متوارثة لا مكان فيها للانتخاب.
ورغم أن المغرب عاش أولى التجارب والمحاولات للتنظير الدستوري للمملكة منذ 1908، وهو ما يعني أن المغرب كان يسبق دولا كثيرة بأشواط، إلا أن تجربة المجالس البلدية سنة 1960 كشفت أن المنظومة الإدارية كانت تحتاج إلى مزيد من الوقت، لتتخلص من التجربة المخزنية القديمة.
فمنذ أن أنشأ المقيم العام ليوطي أول مجلس بلدي في فاس، رغم أن المجلس كان ضاربا في التقليدانية ويبقى تجربة أولى في المجال، والمغاربة يعيشون تحولات الإدارة الفرنسية ومحاولة محو الخصوصية المغربية. جاء هذا في الوقت الذي كانت فيه المناصب المخزنية لا تزال ضاربة في عمق المشهد المغربي ومؤثرة فيه.
إذ إن محاولات الإدارة الفرنسية خلق بعض المجالس الاستشارية، التي يحضر فيها أعيان مغاربة إلى جانب مهنيين واقتصاديين فرنسيين، كلها باءت بالفشل، سيما تجربة المجلس الاستشاري الذي تأسس في أربعينيات القرن الماضي وكانت فيه شخصيات مغربية، إلى جانب اقتصاديين فرنسيين من غرفة الصناعة والتجارة، بالإضافة إلى إداريين تعينوا في المغرب، حيث إن هذا المجلس لم يعمر طويلا، وفُض بسبب نزاع بعض أعضائه المحسوبين على الحركة الوطنية مع شخصيات فرنسية أرادت فرض هيمنتها.
أما في تجربة المجالس البلدية لسنة 1960، فقد كانت الهيمنة محلية، وألقت شخصيات نافذة في المغرب بظلها، لكي تسهر على ألا تخرج الأمور عن السيطرة، وهو ما جعل تلك التجربة لا تخلو من غرائبيات.
زراعة القنب الهندي خيمت على بلديات الشمال لأكثر من نصف قرن
منذ بدايتها سنة 1960، كانت انتخابات المجالس البلدية في الشمال يهيمن عليها نقاش زراعة القنب الهندي، خصوصا أن الدولة المغربية مع بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني، حاولت جعل الفلاحين المحليين يُقلعون عن تلك الزراعة، وتعويضها بزراعات بديلة.
وهو ما استمر إلى حدود سبعينيات القرن الماضي، حيث جُربت محاولات من بينها تعويض أصحاب الأراضي التي يُزرع فيها القنب الهندي بقطعان من المواشي. لكن المشكل أن نفوق رؤوس الأغنام بالتزامن مع الجفاف، جعل استمرار المشروع مستحيلا، سيما أن تعقيدات كثيرة وضعت أمام الفلاحين لضبط الاستفادة من رؤوس الأغنام. إذ إن مجرد دفن الميتة منها كان يحتاج إلى حضور السلطة، وتحرير محضر في الموضوع، وهو ما جعل أغلب الفلاحين ينفرون من تلك المبادرة.
أما المتعاقبون على المجالس البلدية منذ 1960، وبعدها أعضاء المجالس الجماعية التي بدأت هي الأخرى بعد انتخابات 1962، فقد كانت زراعة القنب الهندي هي برنامجهم السياسي الوحيد لاستمالة أصوات الناخبين. وهو ما رجح كفة الأعيان في تلك المناطق على حساب السياسيين، خصوصا منهم المنتمين للاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
إذ رغم شعبية الحزب وقتها وأنشطة أعضائه وحركيتهم، ونفوذ حزب الاستقلال وثقله، إلا أن المؤشر الأبرز لحسم الانتخابات، كان هو موقف هؤلاء من زراعة القنب الهندي.
وهكذا بيعت وعود استمرار زراعة القنب الهندي لسنوات، لتكون النبتة هي الحاسم الانتخابي الأبرز في أغلب مناطق الشمال.
وما جعل مهمة انتخاب أعضاء المجالس البلدية صعبة في الشمال، الحضور الوازن لقدماء المقاومة، خصوصا في منطقة أكنول وتازة، وصولا إلى فاس. إذ إن هؤلاء كانوا من رفاق عباس المساعدي الذي اغتيل في سياق سنة 1956، وكانوا يحملون ضغائن كبيرة لأعضاء حزب الاستقلال، ويتهمونهم صراحة باغتيال قائدهم عباس.
وهذا الأمر انعكس على نتائج الانتخابات البلدية سنة 1960. إذ من ناحية، كان الاستقلاليون يعتبرون فاس معقل شعبيتهم الأكبر في المغرب، وفي الوقت نفسه كان قدماء المقاومة المسلحة يعتبرون أن الانتخابات البلدية يجب أن تكون مناسبة للحد من نفوذ الفاسيين، وإخماد شعبية حزب الاستقلال الذي يعتبرونه مسؤولا عن وضعهم.
المثير أن باحثين مغاربة اعتبروا في أكثر من دراسة أن المجالس البلدية ما بين سنوات 1960 و1976، موعد أبرز إصلاح دستوري في عهد الملك الراحل الحسن الثاني والممهدة لانتخابات 1977 التاريخية، كانت كلها مجالس غير ديموقراطية، رغم وجود شخصيات إصلاحية في لائحة من تعاقبوا عليها أو شاركوا بعضويتهم فيها. لكن طريقة تحديد الرؤساء وطريقة اشتغال الأعضاء، كانت كلها تحت رحمة العصبية الحزبية والسياسية.
قصة مجلس فاس الذي أنشأه «ليوطي» وتحكم فيه المراقب المدني
المعروف أن المغاربة فكروا في أول محاولة لإنشاء دستور مغربي سنة 1908، وتأجل المشروع أكثر من مرة إلى أن رأى النور بعد الاستقلال، تحديدا مع بداية حكم الملك الراحل الحسن الثاني.
حسب الباحث المغربي عبد الرحيم الودغيري، الذي تناول التاريخ التنظيمي لإدارة مدينة فاس، وخصها بدراسة معمقة اعتمادا على وثائق أرشيف الإدارة الفرنسية، فإن الفترة التي سبقت تشكيل المجالس البلدية عرفت حضورا قويا لشخصية المراقب المدني. وهو في الحقيقة لم يكن سوى موظف مدني تابع للإدارة العسكرية، وهي التي تبت في ملفاته وتقرر فيها.
وإذا ما أردنا إعطاء مثال بصلاحيات المراقب المدني اليوم، فيمكن القول إنها قريبة من صلاحيات الوالي أو العامل، لكن بشكل أقل بطبيعة الحال.
جدير بالذكر أن أول مجلس بلدي، كان قد أنشأه المقيم العام ليوطي بمدينة فاس. لكن أعضاء هذا المجلس لم تكن لديهم أية صلاحيات تذكر، بل على العكس، كانت مهمتهم لا تخلو من تعقيدات وعرقلة من الإدارة الفرنسية.
حتى أن أحد هؤلاء المغاربة الذين كانوا مسؤولين، مثل الوالي أو الباشا، ثم أعضاء المجلس البلدي، كانوا ينتظرون لساعات طويلة قبل أن يسمح لهم المراقب المدني بدخول مكتبه لدقائق قليلة، قبل أن يصرفهم.
من المشاكل التي عانى منها أعضاء أول مجلس بلدي أنشأه المقيم العام ليوطي، خصوصا في تجربة مدينة فاس، أن الإدارة الفرنسية حاولت التحكم في أعضائه، وأن تنزع عنهم الاختصاصات المالية.
والسبب أن الإداريين الفرنسيين اتهموا المخزنيين المغاربة بتلقي الرشاوى، وأرادوا الحد من صلاحياتهم، لأنهم لاحظوا الثراء الذي حل على مجموعة من المخزنيين المغاربة، الذين اندمجوا في الإدارة الفرنسية بعد سنة 1912.
والمثير أن هؤلاء المخزنيين كانوا يجرون وراءهم تاريخا كبيرا في الإدارة المغربية، وكانت لديهم من الخبرات ما يكفي لحل مشاكل المغاربة، بعيدا عن تعقيدات الإدارة الجديدة التي جاء بها ليوطي.
هذا الأخير، رغم امتلاكه للترسانة القانونية والإدارية لتفعيل القرارات أو ما كان يراه هو إصلاحات، إلا أن المخزنيين المغاربة كانوا يعرفون طرق الإصلاح على الطريقة المغربية القديمة، حيث كانت المشاكل تحل على طاولات العشاء وليس فوق مكاتب الإدارات.
بالعودة إلى منصب المراقب المدني، فقد سبق لفرنسا أن عينت فيه شخصيات عسكرية، وهو ما يتنافى مع طبيعة المنصب. وبما أنه لم يكن هناك نص قانوني يمنع وصول عسكريين إلى هذا المنصب، فإن أغلب من مروا به لم يكونوا سوى منفذين للتعليمات العسكرية، وأخلصوا في تمثيل الإدارة الفرنسية إلى درجة أنهم حاولوا الحد من صلاحيات المخزنيين المغاربة، رغم أن الإدارة الفرنسية وقتها لم تكن تملك أي بديل إداري لتعويضهم. وهو ما أدى إلى انتهاء تلك التجربة برحيل ليوطي عن الإدارة في ثلاثينيات القرن الماضي، لتحل مجالس أخرى استشارية أشرك فيها مغاربة، لكنها بدورها لم تنجح، بسبب هيمنة الإدارة الفرنسية وسلطة المقيم العام.
مجالس 1960.. حلبة دم فرقت بين الاستقلاليين والاتحاديين
في ماي 1960 تشكلت المجالس البلدية. إعلان السباق للوصول إلى رئاستها وقيادتها بأغلبية مريحة، لم يكن يخلو من عنف، خصوصا في المدن التي شارك مواطنوها في تلك الانتخابات المنسية لاختيار رؤساء المجالس. صوت الأعيان على الشخصيات التي كانوا يرون فيها أنها الأصلح للحفاظ على المناصب المخزنية، ولو أن مفهوم المنصب تغير كثيرا. بينما المتحزبون، سيما أعضاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كانوا يريدون كسب أول معركة ضد الحزب العتيد، حزب الاستقلال. بينما كان حزب الشورى والاستقلال يحاول من خلال تلك الانتخابات، استعادة توازنه وفرض وجوده من جديد على الساحة، خصوصا وأن قيادييه كانوا مؤثرين ومن كبار الشخصيات الوطنية.
لكن سرعان ما تحولت تلك الرهانات إلى حروب ومعارك ضارية سقط خلالها الضحايا.
وهناك مدن، مثل مدينة تطوان مثلا، انتزع فيها المرشح الاتحادي الفوز بعد معارك طاحنة ضد شخصيات عرفت بولائها القديم لحزب الاستقلال.
كان الفائز في تطوان، التي تبقى مثالا على ما وقع، ولا شك أن السيناريو تكرر في مدن أخرى، هو محمد حجاج الذي كان من علماء تطوان.
وقتها قيل إن الرجل حصد كل تلك الأصوات ليس لانتسابه لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وإنما لتقدير التطوانيين له ولمكانته العلمية.
والحقيقة أن الرجل جمع بين الأمرين، وتعاطف معه المصوتون، لأنه كان من الذين قادوا الأعمال الخيرية في المدينة، قبل زمن الانتخابات.
في مدن أخرى وقعت اغتيالات ومعارك بالسكاكين والسلاسل، سقط خلالها مئات الضحايا في اشتباكات بين أنصار المرشحين، رغم أن الأمر كان أقل أهمية من انتخابات 1962 الشهيرة، إلا أن مجالس 1960 كانت أول امتحان للإدارة المغربية، أثناء تشكيل هذه المجالس البلدية لتسيير المدن.
كانت الأحزاب، خصوصا الاستقلال والاتحاد، تسعى إلى السيطرة على المدن لكي تتحول إلى قلاع سياسية واقتصادية لها.
لكن هؤلاء لم يكونوا يعرفون أن الرباط كانت تخيم بظلها على كل المدن، وأن رؤساء المجالس حتى لو كانوا معارضين، فإنهم لن يملكوا إلا أن يكونوا مجرد مدبرين لنقاشات الأعضاء والمستشارين، بحكم أن القرارات كانت تُتخذ على مستوى الرباط.
تجربة هذه المجالس لا يزال يحيط بها غموض كبير، خصوصا كواليسها المنسية التي شاركت فيها شخصيات، أمثال عبد الهادي بوطالب وبنجلون، الذي كان من رواد الرياضة المغربية وراهن عليه الملك الراحل محمد الخامس لتشكيل اللجان الأولمبية، لتمثيل المغرب دوليا في المسابقات الرياضية. وآخرون غيرهم كانت تجربة المجالس البلدية بالنسبة إليهم تمرينا على شعبيتهم واستعراضا لها، سيما في الأوساط الشعبية التي لم تكن تفرق بين «المقدم» ورئيس المجلس البلدي. وهذا الأمر كان طبيعيا، لأن المغاربة سنة 1960 كانوا لا يزالون متأثرين بالبنية القديمة لجهاز المخزن، وكان المقدم بالنسبة إليهم رمز السلطة الوحيد في البلاد.
أوفقير.. ظل الجنرال حاضر في اجتماعات المجالس البلدية
كل الذين حضروا عن قرب تجارب المجالس البلدية الأولى في المغرب المستقل، كانوا يعرفون أن رئيس المجلس البلدي لا يتمتع بصلاحيات من شأنها أن تجعله رئيسا للمدينة.
مجلسا الدار البيضاء ومراكش كانا أكثر المجالس التي سُلط عليها الضوء أكثر من غيرهما، بحكم أن المدينتين كانتا تضمان شخصيات وطنية مؤثرة، أغلب أفرادها كانوا من أعضاء المقاومة الذين كان أصدقاؤهم مطلوبين أمنيا لدى الجنرال أوفقير بتهم، منها حيازة السلاح والتخطيط لاغتيالات سياسية.
لذلك كان من المسلمات أن ظل الجنرال أوفقير كان حاضرا في اجتماعات المجالس البلدية، وهو ما كان يُدركه أعضاء هذه المجالس ورؤساؤها منذ 1960، وتقوى عندما أصبح الجنرال وزيرا للداخلية قبل نهايته سنة 1972.
من بين الأمثلة على هذه الهيمنة، أن أعضاء المجالس، حتى لو كانوا من المعارضة، لم يكونوا قادرين على انتقاد بعض السياسات التي كانت وراءها شخصيات أو وزراء محسوبون على الجنرال أوفقير، أو من تيار رضا اكديرة أيضا، خصوصا قبل انتخابات 1963.
إلا أن هذا لم يكن يمنع من وجود بعض حالات المعارضة الشرسة التي وصل صداها إلى الرباط، سيما القرارات التي كانت تتعلق بالعمران والتخطيط، وهو ما حول تلك المجالس البلدية في نسخها الأولى خصوصا، إلى حلبات للصراع السياسي الذي يبدأ في البرلمان وينتهي في قاعات البلديات.
المثير أيضا أن هذه المجالس البلدية، رغم تواضع ميزانياتها، إلا أنها استطاعت عقد شراكات توأمة مع مدن أوروبية، ومثل أعضاؤها ورؤساؤها مُدنهم في تظاهرات ثقافية، خصوصا في أوروبا وبعض العواصم العربية، وهو ما كان بداية إشعاع لهذه المجالس.
أما طرق اشتغال رؤسائها فقد كانت بدائية نوعا ما، حيث إن اجتماعات المجلس البلدي التي كانت تعقد بانتظام، لم تكن سوى باحة خلفية لاجتماعات أخرى تعقد في المنازل والكواليس. حتى أن مشاكل المغاربة كانت تُحل خارج الإدارة، وعلى يد شخصيات أخرى وليس الرئيس.
مثل حالة الحاج محمد بنجلون الذي كان يحظى بشعبية كبيرة في الدار البيضاء منذ شبابه، في ثلاثينيات القرن الماضي. إذ رغم أن الملك الراحل محمد الخامس قد عينه رئيسا للجنة الأولمبية المغربية، إلا أنه كان يهتم أكثر بقضايا المجلس البلدي للدار البيضاء، رغم أنه لم يكن رئيسا له في أغلب المراحل. ومع ذلك، كان مدخل منزله حافلا بالمواطنين الذين كانوا في انتظاره دائما لكي يحل مشاكلهم الإدارية ويبت فيها، وغالبا ما كان يحمل معه تلك الملفات إلى المجلس البلدي، أو يضعها في يد مستشارين في المجلس، لكي يعرضوها بأنفسهم على الرئيس، أثناء الاجتماعات.
وهكذا كان بعض المحسوبين على شخصيات نافذة في الرباط يتضايقون من طريقة تدبير ملفات المجلس البلدي ويضعون شكواهم، شفهيا في الغالب، لدى الجنرال أوفقير أو لدى الوزير رضا اكديرة، وأشخاص آخرين كانوا معروفين بقربهم من الملك الراحل الحسن الثاني، في محاولات منهم لإحراج رؤساء المجالس، أو من كانت لديهم شعبية داخلها، تفوق بكثير شعبية الرئيس.
عندما كان رضا اكديرة يقرر من سيترأس مجلس البيضاء وهذه قصته مع بوطالب
أحد أقدم أعضاء المجالس البلدية التي تأسست في المغرب سنة 1960، هو حمزة الأمين الذي سبق لنا في «الأخبار» أن نشرنا حوارا مطولا معه عن مساره السياسي في حزب الشورى والاستقلال، واحتكاكه بشخصيات مغربية مرموقة، مثل محمد بن الحسن الوزاني وعبد الهادي بوطالب والحاج بنجلون، الذي كان يحظى بشعبية كبيرة جدا في الدار البيضاء.
يقول حمزة الأمين معلقا على كواليس إنشاء المجالس البلدية في المغرب: «كان عبد الهادي بوطالب مرشحا لأن يصبح رئيسا للمجلس البلدي في الدار البيضاء، لكن وقع عليه اعتراض كبير من طرف المحجوب بن الصديق. رفض رفضا قاطعا أن تؤول رئاسة المجلس البلدي للدار البيضاء إلى عبد الهادي بوطالب، رغم أنه كان الأجدر، وهكذا آل المنصب إلى المعطي بوعبيد. وكان الحاج محمد بنجلون عضوا أيضا في المجلس، وفضل أن يخدم في الظل.
وهنا أشير إلى أن المعطي بوعبيد كان مديرا لديوان عبد الهادي بوطالب في الوزارة سنة 1956، وكانت لديه علاقة مع المحجوب بن الصديق في إطار النضال النقابي، وتم اقتراحه لإحلال التوافق. اعترض عليه بشدة وبعصبية كبيرة، رغم أن بوطالب لم يكن وقتها في حزب الشورى، بل تغيرت الأمور. وفي انتخابات 1963 وقع الأمر نفسه، لكن بحضور أحمد رضا اكديرة الذي كان وزيرا للداخلية، وما أدراك ما رضا اكديرة وقتها. وقد كان حاضرا أثناء لحظة تعيين من سوف يترأس المجلس البلدي للدار البيضاء، الذي كان دائما موضوع صراع بين مختلف الأعضاء على مر تاريخه».
يقول حمزة الأمين أيضا إن عملية اختيار رؤساء المجالس لم تكن تخلو من سياسة. وعلى عكس أغلب التحليلات التي ذهبت في اتجاه القول بأن حكومة عبد الله إبراهيم التي تزامنت مع هذه المجالس تبقى حكومة كفاءات، فإن حمزة الأمين، الذي كان عضوا في المجلس البلدي للدار البيضاء، أكد أن تلك الحكومة استعانت بالطلبة المغاربة في فرنسا لتسد الخصاص المهول في الكفاءات، ووقعت في فخ العصبية السياسية، وهو ما انعكس أيضا على المجالس البلدية. ويواصل الأمين حديثه قائلا: «فالمعطي بوعبيد الذي ترأس أول مجلس بلدي في الدار البيضاء كان في ديوان عبد الهادي بوطالب، في أول حكومة مغربية، وكان وقتها قد أنهى دراسته. وهناك أيضا الوزير حسن الزموري، الذي تم إحضاره وهو يتابع دراسته الجامعية في السنة الثالثة بفرنسا، حيث كان يدرس الحقوق، وأحضره عبد الله إبراهيم لكي يكون معه في حكومته. وبقي الزموري وزيرا في حكومة ولي العهد لسنة 1960، بل وأصبح أيضا رئيسا للمجلس البلدي سنة 1969، وكان وزيرا للسكنى أيضا، وقد قام بأدوار مهمة في ما يتعلق بقطاع السكن في الدار البيضاء، عندما كان على رأس المجلس وفي الوزارة أيضا».
هذا التقاطع في الخطوط، الذي خلف بالتأكيد أزمات بين النخب السياسية في المغرب، كان سببه التعارض الشديد لتحديد من سوف يترأس المجلس البلدي، ومن سوف يقرر في الكواليس.