عصاميون دخلوا القصر الملكي
مع تيلي ماروك
جاؤوا من الأوساط الأسرية العادية. ليسوا كبقية خدام الأعتاب الشريفة، أو أغلبهم، ممن توارثوا مجد القياد والباشوات والوزراء وخدام الدولة الكبار. جاؤوا إلى الرباط، أو ولدوا في سلا، بين الأزقة الضيقة وذكريات مظاهرات طرد المستعمر، لكي يفوزوا بصداقة ولي العهد أو الدراسة معه، وكانوا أول من يكسر القاعدة المخزنية القديمة.
الفضل للملك الراحل محمد الخامس الذي اختار تشييد المدرسة المولوية وإقحام المتفوقين من أبناء الشعب، وهو ما كان مستحيلا في السابق لأبناء الملوك والأمراء، لكي يختلطوا مع ولي العهد.
آخرون، تطورت صداقة الملك الراحل معهم بعيدا عن مقاعد الدراسة وأصبحوا مسؤولين كبار في الدولة وأصدقاء للملك، رغم أنهم لم يكونوا ينحدرون من عائلات «دار المخزن» الكبيرة.. كانوا دائما يمثلون انتصار «ولاد الشعب»، الذين أصبحوا «رجال دولة» فوق العادة.
أحمد عصمان.. من أقصى الشرق في وجدة إلى قلب القصر في الرباط
هو الوزير الأول لحكومة ما بعد الانقلاب، الذي استهدف طائرة الملك الحسن الثاني صيف سنة 1972. وهي الفترة التي كان لتنصيبه وزيرا أول خلالها رمزية مهمة جدا.
وهو أيضا زوج الأميرة لالة نزهة، وصهر الملك الحسن الثاني المفضل.
إلى جانب مهامه الوزارية والأدوار الدبلوماسية التي لعبها ممثلا للملك الحسن الثاني في لقاءات مع زعماء عرب وأجانب ودبلوماسيين، كان يشغل منصب مستشار خاص ومرافق دائم للملك الراحل الحسن الثاني.
أما كيف دخل أبواب القصر في الرباط فتلك قصة أخرى. ولد في مدينة وجدة الشرقية بداية ثلاثينيات القرن الماضي، والده كان من أصول جزائرية، لكنه اشتغل جنديا في الجيش الفرنسي، ووفر لابنه جوا ملائما للتحصيل الدراسي، رغم بساطة الوسط الذي كان ينتمي إليه.
التميز الدراسي مكنه من دخول عالم الأمير ولي العهد، حيث تميز على أقرانه في مدرسة سيدي زيان التاريخية بوجدة، وعندما بلغ المرحلة الثانوية، كان لافتا حصوله على معدلات مهمة، وتم اختياره لكي يدرس رفقة ولي العهد الأمير مولاي الحسن.
ماذا كان لدى عصمان ولم يكن لدى الآخرين؟ لقد كان هذا الشاب المحافظ خجولا، وزاده تقدير الملك الراحل محمد الخامس له، قربا من ولي العهد، ليصبح بعد ذلك استثناء كبيرا وسط الذين عرفهم الملك الراحل في شبابه جميعا. فعصمان هو الوحيد من أصدقاء دراسة ولي العهد، الذي تزوج من الأسرة الملكية.
منذ سنة 1956، أي مباشرة بعد استقلال المغرب كان على أحمد عصمان أن يتآلف مع حياة المسؤوليات وولوج أبواب القصر الملكي في الرباط. أول منصب عين فيه كان داخل الديوان الملكي، حيث كان مكلفا بالشؤون الخارجية. وهو ما كان تكريما لمستواه الدراسي الجيد وإتقانه للغات الأجنبية. وفي سنة 1961، التي توفي فيها الملك الراحل محمد الخامس، كان هو سفيرا للمغرب في ألمانيا الغربية، وفي سنة 1967 كان سفيرا في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن كانت للحسن الثاني زيارة تاريخية إليها على عهد الرئيس الراحل كينيدي.
عاد إلى المغرب لفترة قصيرة في نهاية الستينيات، بعد انتهاء مهامه الدبلوماسية في الولايات المتحدة، وكان في قلب العاصفة التي هددت عرش الملك الراحل الحسن الثاني، ليعينه وزيرا أول في حكومة «ما بعد انقلاب الطائرة»، حيث كانت الأوضاع السياسية في البلاد محتقنة تماما، وكان هو «صمام الأمان» الذي اختاره الملك الحسن الثاني لكي يقود التجربة الحكومية، وسط أوضاع اجتماعية وسياسية عصيبة للغاية. ولم يكن ليضطلع أحد بتلك المهمة، غيره، سيما وأن عنوان المرحلة وقتها كان هو أزمة الثقة في المسؤولين، بعد تورط عسكريين كبار شديدي القرب من الملك الحسن الثاني في محاولتين متتاليتين لتهديد العرش.
عرف عصمان أكثر في تجربة تأسيس تجربته السياسية بمباركة من الملك الحسن الثاني، رغم أنه لم يعمر فيها طويلا، لتأتي فترة في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، لزم فيها الملك صهرا ورجل دولة مجرب، بعيدا عن أي تكليف في الحكومة.
وقد عرف عنه أيضا أنه كان القناة الأسلم لإيصال رسائل الحركة الوطنية والمعارضة إلى الملك الحسن الثاني، ليس فقط لأنه صهره، ولكن لأنه كان مُؤتمنا من طرف من أودعوه رسائلهم لكي يبلغها للملك باطمئنان، لأنه كان بعيدا تماما عن دوائر المكائد والسباقات، فقد كانت علاقته العائلية بالقصر الملكي تجعله بعيدا عن الصراعات التي أطاحت بكثير من الرؤوس وأبعدتهم عن عوالم القصور الملكية، بعد أن دخلوها قادمين من أوساط بسيطة ومتواضعة.
أحمد السنوسي.. سافر من مكناس لكي يصبح صديقا للحسن الثاني ودبلوماسيا
أحمد السنوسي من أصدقاء الملك الحسن الثاني أيضا وجلسائه وخاصته المقربين. وهو بالإضافة إلى هذا، ابن الشارع المغربي الملم بالثقافة الشعبية، حيث كان ولي العهد وقتها يفضل قضاء وقته مع رضا اكديرة وأحمد السنوسي، على أن يمضيه مع الذين يتطلعون إلى الأعلى. كان أحمد السنوسي القادم من أسرة عادية على موعد مع صداقة مع ولي العهد، بدأت بالتقارب المبكر بينهما أيام الدراسة في الرباط، وتطورت لكي يصبحا صديقين مقربين يقضيان وقت الفراغ بعيدا عن التحصيل والمذاكرة.
تميز السنوسي في مساره الأكاديمي، وتوجه إلى فرنسا لاستكمال دراسته العليا، كان في الوقت نفسه على اتصال مع الملك محمد الخامس وهو في منفاه بمدغشقر، بداية الخمسينيات، بوساطة من الحسن الثاني الذي كان وقتها وليا للعهد.
بعد الاستقلال، تعززت علاقة أحمد السنوسي ليصبح واحدا من البروفايلات التي اعتمدها المغرب، لتأسيس النواة الأولى للخارجية المغربية، بمعية الاستقلالي بلافريج، ثم شبكة السفارات الأجنبية في المغرب. فبفضل دراسته في فرنسا كان منفتحا على الأجواء السياسية طيلة سنوات دراسته هناك، وتخصصه العلمي ساعده في فهم سير المؤسسات، التي تمثل السياسة الخارجية لعدد من البلدان.
كان أحمد السنوسي، منتصف السبعينيات، قد بدأ يراكم خبرة محترمة في مجال العلاقات الخارجية للمغرب، بعد أن عين منذ السنوات الأولى للاستقلال سفيرا بعواصم إفريقية. وكان من الذين رافقوا الحسن الثاني في جولاته الأوربية، أثناء انشغاله بقضية الصحراء، أشهرا قليلة قبل الإعلان عن المسيرة الخضراء. فقد كان أحمد السنوسي مرافقا للحسن الثاني في زيارته إلى إسبانيا، للتحاور مع الجنرال فرانكو بخصوص أزمة الصحراء المغربية، وكان الحسن الثاني قد همس لمرافقيه، ومن بينهم السنوسي، أن فرانكو «مسمار الهند»، في إشارة من الحسن الثاني إلى صلابة موقف فرانكو واستحالة التفاوض السياسي معه. بعد ذلك تقرر القيام بالمسيرة الخضراء، وكان أحمد السنوسي كما يروي معارفه، قد اقترح على الملك الحسن الثاني دعوة وفود أجنبية للمشاركة في المسيرة الخضراء، وألا تقتصر على المغاربة فقط. ليضيف أحمد السنوسي اقتراحا يقتضي بمشاركة من شباب أمريكيين في المسيرة الخضراء مع المغاربة، فقال له الحسن الثاني، كما روى هو شخصيا: «واش نتا أحمق؟». ليعيد السنوسي التأكيد على أنه يستطيع دعوة بضعة أمريكيين للمشاركة، وتم الأمر فعلا. لكن خلال الأشهر التي سبقت المسيرة الخضراء، كان السنوسي في موقف صعب، لأنه كان سفيرا للمغرب في الجزائر، وكانت العلاقات في قمة التأزم بين البلدين بسبب مشكل الصحراء. وما وقع أن الملك الحسن الثاني جعله على اطلاع بالترتيب المبكر للمسيرة الخضراء، بعد أن أدى القسم على ضمان سرية الإعداد بحضور عسكريين مغاربة، ليعود في أول طائرة إلى الجزائر ويواصل مهامه وقتها على رأس السفارة المغربية في الجزائر العاصمة.
آخرون عرفوا أحمد السنوسي، عندما توسط لهم عند الملك الحسن الثاني شخصيا لترفع عنهم غضبات ملكية، لأنه كان يستطيع مقابلة الحسن الثاني دون بروتوكول، ليطلب من الملك الراحل إعادة النظر في ملف أحد السياسيين أو الدبلوماسيين، الذين طالتهم غضبات ملكية حاكها ضدهم المحيط المغلق للحسن الثاني، ممثلا في إدريس البصري أو حاجز التشريفات والأوسمة.
جنرالات القصر.. أبناء القرى والمداشر الذين تأرجحوا بين الخدمة والصداقة
لو أردنا تصنيف حضور الشخصيات في حياة الملوك المغاربة، لكان سواد رجال الجيش على غيرهم واضحا. فمع الملك الراحل الحسن الثاني، كانت الصداقة مع رجال الجيش تطغى على ما تبقى من شخصيات.
ففي الوقت الذي حظي فيه المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد ورضا اكديرة بمكانة كبيرة في حياة الملك الراحل، تأرجحت بين الصداقة ومحطات «معارضة»، كانت علاقته برجال الجيش تختلف تماما عن علاقته برجال السياسة والدراسة.
مع الجنرال إدريس بن عمر والكولونيل المذبوح، كانت العلاقة عفوية يوليها الملك الراحل اهتماما خاصا. إذ إن الكولونيل المذبوح، منذ دخوله القصر الملكي، كان يشرف على أدق تفاصيل الترتيبات الأمنية وتحركات الملك الراحل، بينما الجنرال إدريس بن عمر كان عين الملك الحسن الثاني في الميدان. والدليل أن أول حرب للجيش المغربي بعد الاستقلال، كانت دفاعا عن الحدود الشرقية للبلاد بعد استفزاز جزائري. حرب الرمال في سنة 1963، كانت المحطة التي أفرزت أبطال تلك الحرب، لكي يحظوا بتقدير الملك الراحل وثقته بخصوص المناصب السيادية في الجيش.
أما تجربة الجنرالين أوفقير والدليمي، فقد كانت استثنائية تكاد لا تكرر مع بقية الأسماء العسكرية في علاقتهم بالملك الراحل. الأول، رغم الاتهامات التي وجهت إليه والتي تتمثل في التخطيط لانقلاب الطائرة الملكية، والنهاية المأساوية التي شهدها في يوليوز 1972، إلا أن علاقته بالملك الحسن الثاني لا يمكن أن تُمحى، إذ إنه كان أقرب مساعدي الملك إليه منذ عودة الأسرة الملكية من المنفى سنة 1955. بل إن الملك الراحل محمد الخامس أشار على أوفقير بأن يترك ابنته مليكة، لكي تتربى في القصر مع أخوات الملك الحسن الثاني، وظلت تعتبر ابنة القصر الملكي. وتعزز وجود الجنرال أوفقير بعد أن أوكلت إليه مهام كثيرة مع بداية عهد الملك الحسن الثاني طيلة سنوات الستينيات، إلى أن استحق لقب الرجل الثاني في الدولة. رغم أن عائلته لم تكن عائلة مخزنية، ولم يكن يحمل مثل باقي العائلات المخزنية أي ماض لأجداده في خدمة العرش، سوى مساره العسكري في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية.
أما الجنرال الدليمي فقد كان والده ترجمانا، لكنه ولج القصر الملكي من أوسع أبوابه، بعد أن حظي بثقة الملك الحسن الثاني منذ السنة الأولى لوصوله إلى الحكم، وأصبح على رأس الأجهزة الأمنية، في تناغم كبير بينه وبين الجنرال أوفقير. رغم أن المعارضة السياسية المتمثلة في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، جعلت من أوفقير والدليمي اسمين عسكريين غير مرغوب فيهما في الحياة السياسية، ووجهت إليهما تهمة اختفاء المعارض المهدي بن بركة، إلا أن الجنرال الدليمي ظل ممسكا بأكثر الملفات الأمنية والعسكرية حساسية، بما فيها ملف الصحراء إلى أن توفي في الحادث المثير للجدل سنة 1983، والذي تزامن مع تقارير للاستخبارات الفرنسية عن دور «مشبوه» للجنرال واتصالات له مع الجزائر، بطريقة تضر بمصالح المخابرات الفرنسية والـ«CIA» في المغرب.
في جنازة الجنرال الدليمي، كسر الملك الحسن الثاني كل الأعراف المخزنية التي تمنع على الملوك حضور الجنائز، حيث حضر الملك الحسن الثاني شخصيا بعيدا عن البروتوكول في إقامة الجنرال الدليمي بعد إجراءات الدفن لكي يقدم العزاء لوالده، واعتبر الأمر التفاتة ملكية للخدمات التي قدمها الجنرال، الذي رافق الملك الحسن الثاني لسنوات طويلة.
أسماء عسكرية أخرى جاءت من الأرياف والمناطق الفقيرة في المغرب، ونجحت في اقتحام أسوار القصور الملكية، بل وفازت بثقة وصداقة الملكين محمد الخامس ثم الحسن الثاني، من بينها ميمون أوحفصة الذي جاء من المغرب المنسي، بعد تجربة في الجيش الفرنسي، لكي يصبح أحد أكبر مقربي الملك الراحل محمد الخامس، ثم مع الملك الحسن الثاني في بداية عهده، كما أن الملك الراحل تأثر كثيرا لخبر وفاته المبكرة. فقد كان من مؤسسي النواة الأولى للجيش المغربي بعد الاستقلال.
وكان كغيره من وجوه المؤسسة العسكرية، يجمع بين تجربة معارك الحرب العالمية الأولى، والانتماء القبلي. كما كان ميمون على رأس الدرك الملكي، عندما أصبح الأمير مولاي الحسن مكلفا بالجهاز العسكري، بتفويض من والده الملك محمد الخامس سنة 1956.
وكان ميمون أوحفصة غير مرغوب فيه داخل بعض الأوساط العسكرية، خصوصا وأنه كان محط تقدير كبير من الملك محمد الخامس. وكان البعض يتخوفون من احتمال وصوله إلى منصب عسكري حساس في فترة قصيرة، ما دام أنه مدعوم من ولي العهد ومن الملك شخصيا، سيما عندما أسندت إليه قيادة الأركان العامة بالرباط.
وفي الوقت الذي كرم فيه الملك الحسن الثاني «الماريشال» أمزيان ومنحه تلك الرتبة التي كان أول من ينالها في المغرب، كان ميمون أوحفصة على موعد مع تكريم مماثل أيضا رغم أنه لم يتقلد رتبة الماريشال، إلا أنه حاز تقديرا معنويا كبيرا من الملك الحسن الثاني، على اعتبار أنه من الجيل القديم الذي تخرج منه أمزيان وقلة آخرون أسسوا الجيش المغربي بعد الاستقلال، رغم أنهم جميعا جاؤوا من أوساط فقيرة جدا ومتواضعة.
أيضا نجد الجنرال الغرباوي الذي كانت علاقته بالملك الحسن الثاني وطيدة جدا ما بين سنوات الستينيات والسبعينيات، والذي توفي في انقلاب الصخيرات. وترأس الملك الحسن الثاني شخصيا لجنة تحقيق في ظروف مقتله، وبحث وسط المتهمين عن هوية العسكري الذي أجهز على الجنرال الغرباوي، الذي كان أيضا من مقربي الملك الحسن الثاني وجلسائه ومحط ثقته.
بالإضافة إلى الجنرال البوهالي الذي كان يشرف على مسؤوليات مهمة في القصر الملكي سنة 1956، وتوفي في انقلاب الصخيرات بعد أن استأمنه الملك الحسن الثاني على الرباط، ووضع فيه ثقة كبيرة لصد الانقلاب وإفشاله وهو ما كلفه حياته، إذ كان يصرح في مناسبات كثيرة أنه على استعداد للموت في سبيل العرش، وكذلك كان.
بن بركة وبوعبيد.. انخرطا في اليسار وجاءا من القواعد إلى الواجهة
تأرجحا بين أزقة سلا الشعبية والرباط وعرفا ما يعنيه صوت «العامة»، قبل أن يصبحا من أقرب مقربي ولي العهد، وهو لا يزال أميرا في أربعينيات القرن الماضي. ورغم أنهما يمثلان مدارس مختلفة، إلا أنهما حظيا بمساحة واسعة في حياة الملك الراحل الحسن الثاني.
أولهما، المهدي بن بركة، أستاذ ولي العهد في المدرسة المولوية، الذي كان يعرف جيدا نبض الشارع بحكم احتكاكه بالطبقات الشعبية في الرباط والنواحي، لكي يفكر الملك الراحل محمد الخامس في توظيفه مدرسا في المدرسة المولوية، التي أسسها خصيصا لتدريس ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وهكذا أصبح مدرسه الخاص في الرياضيات. وكما أشار الملك الراحل بنفسه في مذكراته التي جمعت على شكل حوار صحفي بعنوان «التحدي»، ثم في «ذاكرة ملك»، قائلا إن نقاشات مهمة كانت تجري بينه وبين أستاذه السابق المهدي بن بركة، الذي كان طموحا للغاية ومدافعا شرسا عن مشروعه السياسي الذي جر عليه انتقادات كثيرة قيد حياته، سواء من قيادات حزب الاستقلال الذين كان ينظر إلى بعضهم من الأعلى، أو بخصوص خصومه السياسيين الذين كان يجاهر بضرورة إقصائهم من المشهد السياسي.
مخاطبة المهدي بن بركة للتلاميذ لأبناء الأحياء الشعبية وشحذ هممهم لكي يكونوا في الخطوط الأمامية للمهرجانات الخطابية التي كان يتزعمها، جعلته ورقة مهمة في مفاوضات حزب الاستقلال مع القصر، أيام كان الأمير مولاي الحسن وليا للعهد في تجارب حكومات 1956 إلى 1961.
اختفاؤه الذي لا يزال إلى اليوم قضية يلفها غموض كبير، وتوجه فيها أصابع الاتهام إلى الموساد والـ«CIA»، بحيث إن طموحات بن بركة كانت كبيرة إلى درجة مبادرته إلى قيادة دول العالم الثالث عبر تأسيس قوة ثالثة، وهو المشروع الذي لم يتم بسبب اختفائه في باريس، أشهرا قبل انعقاد المؤتمر في أمريكا اللاتينية. إلا أنه بقي واحدا من الأسماء التي صنعت المشهد السياسي في المغرب، وحظيت باحترام الملك الراحل الحسن الثاني وتقديره.
مع عبد الرحيم بوعبيد تتكرر التجربة، لكن بشكل آخر. فهذا المدرس الذي كان أكثر قربا من الملك الراحل الحسن الثاني بحكم عامل السن، إذ إن المهدي بن بركة كان من جيل يكبر ولي العهد، كان أيضا أكثر حضورا في حياة الملك الحسن الثاني صديقا ومعارضا سياسيا أيضا. حيث إن بوعبيد تحدث في كتاباته عن علاقة وطيدة جمعته بالملك الحسن الثاني في سن الشباب، حتى أن ولي العهد اضطر إلى إخفائه في صندوق سيارته في بعض المناسبات، لكي يدخله خلسة إلى إقامته بالقصر الملكي. دارت بينهما خلال تلك الفترة نقاشات كثيرة عن قناعاتهما وأفكارهما ورؤاهما السياسية، وكان النقاش يحتدم إلى ساعات متأخرة من الليل.
تلك الصداقة التي تأثرت، وهذا أمر ضروري بالمواقف السياسية للملك الحسن الثاني وآراء عبد الرحيم بوعبيد الذي أصبح زعيما لليسار، في محطات أهمها حالة الاستثناء سنة 1965، ثم موقف بوعبيد من الاستفتاء في ملف الصحراء بداية الثمانينيات، بقيت أواصرها ثابتة. وحفظ الملك الراحل الحسن الثاني ذكرى صديقه، بعد وفاته في بداية التسعينيات، محترما فيه الاختلاف والشجاعة في إبداء الرأي. وهو ما كرره الملك الحسن الثاني في أذن عبد الرحمان اليوسفي، عندما أصبح وزيرا أول في حكومة التناوب سنة 1998.
بوطالب وبنسودة.. من القرويين إلى «صداقة» توجت بمنصب مستشار ملكي
عبد الهادي بوطالب، أستاذ ولي العهد الأمير مولاي الحسن ورفيقه بعد ذلك، قبل أن يصبح سفيرا له ثم مستشارا ملكيا، جاء هو الآخر من القرويين في فاس، حيث نام مع أبناء الفقراء وأكل معهم وجبات الطلبة، قبل أن يتألق ويحقق تفوقا دراسيا ملحوظا، جعل الملك الراحل محمد الخامس ينتبه إليه في حفل «سلطان الطلبة»، خلال أربعينيات القرن الماضي، لكي يبعث إليه ليلتحق مباشرة بعد تخرجه بالقصر الملكي لكي يصبح أستاذا لولي العهد في المدرسة المولوية. وهكذا نمت صداقة متينة بينه وبين ولي العهد تعززت بعد الاستقلال، سيما وأن عبد الهادي بوطالب خاض غمار السياسة والتحق بتجارب حزبية، بينها حزب الشورى ثم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، قبل أن ينسحب لكي يصبح وزيرا ثم سفيرا، فمستشارا للملك الحسن الثاني.
كان عبد الهادي بوطالب سيعود إلى عالم الوزارة بعد أن أصبح مستشارا، باقتراح من الملك الحسن الثاني، ثم عدل عن قراره، لأن خبر استوزار عبد الهادي بوطالب تسرب إلى الصحافة في مناسبات كثيرة، كان معها الملك الحسن الثاني يؤجل الأمر كلما تسرب اسم أستاذه السابق إلى الصحافة.
ويبقى بوطالب، إلى جانب بنسودة، أقرب أبناء الطبقات الشعبية إلى الملك الحسن الثاني في عالم السياسة، وأكثرهم احتكاكا به خلال الفترة التي كان فيها وليا للعهد.
أما بنسودة فقد ولد بفاس سنة 1920، وتربى في أجواء التعليم العتيق وظل يدرس بجامعة القرويين التي أنهى بها تعليمه العالي. كانت ميولاته الأدبية تسيطر على شخصيته، فقد كان يتجه إلى إصدار المنشورات وتأليف النصوص والأشعار. هذه الموهبة، هي التي سوف تجعله يشرف لاحقا على جريدة «الرأي العام»، لسان حال حزب الشورى والاستقلال. وهي الجريدة التي تعرضت للمنع في سياق الصراع مع حزب الاستقلال، والمواجهات التي حدثت بين الطرفين، وحاول الملك محمد الخامس احتواءها باستدعاء الجميع إلى طاولة الحوار، كان هذا سنة 1956.
تلقى أحمد بنسودة تكوينا علميا، سمح له بأن يتبوأ مناصب في الدولة، بعد حصول المغرب على الاستقلال.
في أيام الملك محمد الخامس دائما، عين أحمد بنسودة كاتبا للشبيبة والرياضة. وهو المنصب الذي جعل منه وجها معروفا في أوساط البيضاويين والرباطيين، لأنه كان ملتزما بحضور جميع الأنشطة الرياضية التي كان الملك محمد الخامس مهتما بها. حتى أنه حضر شخصيا لتعيين الأطر الأولى التي تعينت في وزارة الشبيبة والرياضة خلال نهاية الخمسينيات، وكانت مهمة أحمد بنسودة هي الإشراف عليها لوضع النواة الأولى للوزارة وموظفيها المستقبليين.
كانت له علاقة خاصة بالملك الراحل محمد الخامس، حتى أن بعض المقربين من عائلة بنسودة يقولون إن الملك خاطبه في سنة 1956، في قمة الصراع الحزبي بين الشوريين والاستقلاليين وقال له: «قل لصحابك يعملو عقلهم». وكان حاضرا في اللقاء نفسه بعض الاستقلاليين، الذين توجه إليهم الملك الراحل محمد الخامس بالنصيحة ذاتها، وعبر لهم عن حزنه وهو يرى الصراعات السياسية تتخذ طابعا عنيفا، بين قطبي السياسة في مغرب ما بعد الاستقلال.
وفي سنة 1963 عين عاملا على إقليم الرباط، سنتين بعد وفاة الملك محمد الخامس، وارتدى بدلة شبه عسكرية كانت موحدة بين عمال المملكة، وسلمه الملك الحسن الثاني تعيينه رسميا.
أصبح أحمد بنسودة مستشارا ملكيا، بعد أن قضى سنوات الأربعينيات وصولا إلى السبعينيات كلها في قلعة حزب الشورى والاستقلال، وكان شاهدا على حمى الانتخابات والانشقاقات، وبدا واضحا أن حضوره كمستشار للملك، سيجعل خبرته في العمل الحزبي رهن إشارة الملك. كان مسار بنسودة مختلفا عن بقية مستشاري الملك، لأنه كان يتزعم في مرحلة مبكرة إصدار جريدة «الرأي العام» المعارضة، التي كانت تندد بما كان يقع في مغرب الخمسينيات من اختطافات وتوترات بين قدماء المقاومة والإدارة العامة للأمن الوطني، لذلك كان وصوله إلى المناصب الرسمية تحولا لافتا في مساره، قبل أن يتوجه بالتعيين مستشارا ملكيا إلى آخر أيام الملك الراحل.
جاء كلا الرجلين من القرويين، كلاهما اشتغل مع الملك الحسن الثاني وعرفاه وليا للعهد، ثم عملا معه مستشارين في الملفات السيادية الكبرى بالمغرب.
رضا اكديرة.. صديق جاء من أزقة سلا الضيقة إلى رحابة مكتب «مستشار الملك»
أما المستشار رضا اكديرة، فيبقى تجربة تختلف عن تجارب السابقين. ابن مدينة سلا الذي كان يعرف جيدا منعرجات أحيائها الضيقة ولغة أهلها وقضاياهم، لكنه أصبح صديقا لولي العهد الأمير مولاي الحسن، منذ سنوات شبابه الأولى قبل الاستقلال. إذ إن الشابين معا كانت لهما الاهتمامات نفسها تقريبا.
اكديرة اهتم بالرياضة وكان يميل أكثر نحو المسرح، وربما كان هذا العامل هو ما ساعده على أداء المرافعات الساخنة في المحاكم، إذ كان معروفا رغم أنه صديق للملك الحسن الثاني، بإمساكه ملفات قضايا شائكة، أولها قضية فضيحة الزيوت المسمومة بمدينة مكناس، في نهاية الخمسينيات. ثم ملف البهائيين سنة 1962، وحتى محاكمة انقلاب الطائرة الملكية، حيث كان مرافعا فيها.
كان يفرق بين حياته الخاصة وواجباته المهنية، بالتأكيد كان يعرف كيف يدبر علاقاته المهنية من جهة، وصداقته بالملك الحسن الثاني التي تعود إلى فترة شبابهما معا، عندما كان ولي العهد.
والدليل أنه عرف كيف يقفز فوق الملفات الثقيلة، التي كانت تثير اهتمام الرأي العام في المغرب. وكان يشاع وقتها في صحافة المعارضة أن تحركات اكديرة تعني بشكل ما موقفا غير رسمي للملك الحسن الثاني من خلال صديقه.
لكن اكديرة لم يكن ينجرف وراء تلك التعليقات، وانتهى الأمر عموما عندما تفرغ اكديرة أكثر إلى الحياة السياسية. فبعد أن كان مديرا لديوان ولي العهد لفترة، أصبح مباشرة بعد تربع الملك الحسن الثاني على العرش رسميا، وزيرا للداخلية، ثم مؤسسا لجبهة «الفديك»، حيث كان هناك تقارب بينه وبين عبد الهادي بوطالب، أستاذ الملك الراحل الحسن الثاني ومستشاره.
وقتها خاض اكديرة انتخابات 1962 وهو وزير للداخلية في أول عهد الملك الحسن الثاني، وأصبح بعد حالة الاستثناء، التي حل خلالها الملك الراحل البرلمان والحكومة، وأحرج خلالها وزراء الدولة، مستشارا للملك الحسن الثاني رسميا مودعا المنافسات على الوزارات والمناصب الحكومية.
مستشار فوق العادة، كان هو لقب رضا اكديرة الذي لازم الملك الحسن الثاني إلى آخر أيام حياته مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث حال مرضه دون استكماله مهامه في القصر الملكي مستشارا، قبل أن يبتعد نهائيا عن الحياة السياسية.