وثائق سرية تكشف كواليس أول تعديل وزاري في تاريخ المغرب
مع تيلي ماروك
«حسب تقارير الأرشيف، فإن المظاهرات بدأت في الساعة العاشرة من صباح يوم 23 أكتوبر 1956، انطلاقا من المدينة القديمة على أن تجوب أحياء أخرى في برنامج صباحي ينتهي مع أذان الظهر.
لكن بعض المخازنية المغاربة عملوا على تفريق المظاهرة في قلب ساحة الهديم، وهو ما يعني فشلها رسميا.
لم يتقبل المنظمون أن يتم تفريقهم بتلك الصورة باستعمال الهراوات والعصي، فقرروا تنظيم مظاهرة أخرى أكثر قوة بعد الزوال، استطاعوا أن يجمعوا فيها أطفال الأحياء المجاورة وقادوهم في خط من 300 شخص، ليقودوا عملية تخريب كبيرة لواجهات المحلات التي كان يملكها فرنسيون لا يزالون مستقرين بالمغرب، أو مغاربة مستفيدون من رحيل المعمرين الفرنسيين. ففي غضون ساعتين فقط، كانت جل السيارات المركونة بشوارع مكناس الرئيسية قد هشمت عن آخرها، وطال الأمر محلات تجارية كبرى نهبت محتوياتها وكسرت واجهاتها الزجاجية. وتم إعلان حالة فوضى عارمة في المدينة.
وفي 27 أكتوبر خرج خبر تعديل حكومي على صفحات الجرائد. احتفظ امبارك البكاي بمنصب الوزير الأول، بينما حصد حزب الاستقلال المزيد من المناصب الوزارية، كيف حدث كل هذا إذن؟».
المعضلة المغربية..
في هذا الملف، اعتمدنا وثائق سرية من أرشيف الموساد كان أساسها وثائق أكاديمية لبحث عن الوضع السياسي المغربي لسنة 1956، قاده أحد الباحثين الذي اتضح لاحقا أنه اشتغل لصالح الموساد الإسرائيلي.
هذا الباحث عنون أوراقه بـ«The Moroccan Dilemma»، أي المعضلة المغربية. وفي طبعات أخرى تمت الإشارة إليه بعنوان فرعي هو «المغرب الأسود». ربما كان مصدر هذا العنوان الأخير، حالة السواد القاتمة التي سادت الوضع الداخلي للمغرب في تلك السنة.
أول تعديل حكومي في تاريخ المغرب لم يكن على شاكلة التعديلات الأخرى، وإنما كان رجعا لصدى انفجار أمني كبير في الشارع المغربي. انفجار حركت براميله أياد كانت لها مصالح سياسية. لم يكن امبارك البكاي رجل توافقات، وجاء في أوراق الكتاب ما يلي: «لم يكن هناك توافقات أصلا لكي يكون هناك اختيار لرجل يضبطها. حزب الاستقلال يريد الهيمنة عبر فرض رجاله في كل المناصب الحساسة، بينما موالون للملك يريدون حماية مصالح الطبقات الأخرى من هيمنة السياسيين، الذين جعلوا من حزب الاستقلال الحزب الحاكم»، هذا ما مهد لمجيء حكومة أحمد بلافريج، لكن ما يهمنا هنا هو أول تعديل حكومي في تاريخ المغرب. كيف تمكن معارضو تجربة امبارك البكاي من نسفها واستغلال الأوضاع السياسية، التي كان يمر بها المغرب لسحب البساط من تحت أقدام حكومة من التكنوقراط، بينهم مخزنيون من المدرسة العتيقة، وآخرون على قلتهم من حزب الاستقلال، لكنهم في منصب «وزير دولة»، مهمتهم عرقلة البكاي الذي اشتكى للملك الراحل من هذا التضييق في أكثر من مناسبة؟
لقد كانت معضلة مغربية فعلا. إذا رتبنا الأحداث، نجد أن المظاهرات التي اندلعت في أكتوبر لم تكن في الحقيقة سوى النقطة التي أفاضت الكأس. إذ إن أحداث ماي 1955 كانت هي البداية الفعلية لتحكم الاستقلاليين في المشهد، وكأنهم يذكرون بقية من قاسموهم قواعد اللعبة السياسية أنهم يتحكمون في الكواليس. ازدادت حدة الأمور مع تولي امبارك البكاي للوزارة الأولى، وفي ماي 1956 والبلاد في حالة احتفال بالاستقلال واحتقان في الأجواء السياسية، كانت أيادي المسلحين التابعين لحزب الاستقلال تضرب بقوة المعارضين لإزالتهم من المشهد.
وفي الوقت نفسه ظهرت قيادة جديدة من الممانعين يترأسهم «شيخ العرب»، الذي سقط بالرصاص سنة 1964 على يد الأمن الوطني بالدار البيضاء، كأول وأشهر معارض مسلح في المغرب قضى سنوات من الاختباء.
ملف هذا الرجل كان فوق مكتب امبارك البكاي، لكنه رفع تقريرا، حسب تقارير الموساد، إلى الملك الراحل محمد الخامس يخبره فيه أن مجموعة من المقاومين غير راضين تماما عما وقع في عملية تسجيل لوائح قدماء المقاومة، وأنهم سجلوا بامتعاض إقصاء مقاومين حقيقيين وأرامل شهداء معركة الاستقلال، وتم تعويضهم بأسماء أخرى لا تنتمي إلى أسرة المقاومة.
كان الملك الراحل محمد الخامس قد أمر مرات كثيرة بفتح تحقيقات في الموضوع، لكنها لم تسفر عن أي نتيجة، لأن تحكما كبيرا في مصير تلك التقارير حسم في استكمال الأبحاث الأولية.
النتيجة كانت مواجهات تعرض لها الأمن الوطني سنة 1956، والذي كان يترأسه الاستقلالي محمد الغزاوي، انتهت بقمع مظاهرات هؤلاء المقاومين، وتم استعمال الصور سياسيا لإجبار امبارك البكاي على الاستقالة. لكن الملك الراحل محمد الخامس تشبث به مباشرة بعد أحداث 23 أكتوبر 1956، ولجأ إلى حل وسط وهو التعديل الحكومي. توقع الاستقلاليون الإطاحة بغريمهم البكاي، لكن الحقيقة أن الرجل كان قد انبعث حرفيا من رماده، رغم أن التعديل طوقه ومهد تدريجيا لإبعاده عن الوزارة الأولى.
الوزير المنسي.. العلبة السوداء لأول تعديل حكومي في تاريخ المغرب
محمد الزغاري، نائب الوزير الأول، وأحد الوزراء الذين عاشوا أزمة أول تعديل حكومي في تاريخ المغرب والذي وقع يوم 27 أكتوبر 1956، على خلفية مظاهرات عنيفة هزت المغرب وخصوصا مدينة مكناس، كان يصغر امبارك البكاي (الوزير الأول) سنا. وكان معروفا في أوساط أعيان الرباط بأنه ينحدر من أسرة لها مكانتها في الساحة، لا سيما في علاقته مع الأعيان نواحي الرباط. لكن ما كان يميزه أنه كان رجلا متعلما، وربما كان تعيينه في هذا المنصب جاء بهدف إضفاء بعض «الأرستقراطية» على منصب رئاسة الوزراء، بحكم أن البكاي كان بخلفية عسكرية.
عاش الزغاري أشهرا عصيبة بحكم أن بدايته في عالم السياسة والمناصب الحكومية جاءت في ظرفية حرجة، لم يسلم خلالها أحد من الانتقاد.
في إحدى سفرياته إلى الخارج في مهمة حكومية، كان الزغاري متوترا إلى جانب وزراء آخرين، لأنهم سمعوا عن بعض الطلبة اليساريين المعارضين، والذين كانوا يخططون لتنظيم وقفة احتجاجية باسم اتحاد طلبة المغرب، للمطالبة بإسقاط الحكومة. اتحاد الطلبة وقتها كان مُسيطرا عليه من طرف جناح يساري في حزب الاستقلال، قبل الانشقاق رسميا وإنشاء حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لذلك كان وزراء الحكومة المغربية الأولى يعلمون أن المعارضة التي تنتظرهم ستكون شرسة جدا لا محالة، خصوصا وأن الاستقلاليين يدفعون جيدا لتأجيجها، ويجهرون بمعارضتهم للحكومة.
تنفس الجميع الصعداء عندما علموا أن الوقفة قد ألغيت، بعد تحرك الهواتف والتنسيق مع قيادة الحزب واتحاد الطلبة، تجنبا لأي افتعال لأزمة داخلية. لكن وقع ما كان يخشاه الحكوميون والمعارضون أيضا. مباشرة بعد اقتراح أول تعديل حكومي، وتمكين الاستقلاليين بزعامة علال الفاسي من حقائب وزارية، عززت نسبيا حضور حزب الاستقلال في الحكومة، حتى اندلعت حرب داخلية أخرى سببها عدم اكتفاء قيادة حزب الاستقلال بالوزارات المقترحة عليها، وهو الأمر الذي أدى إلى إعفاء الحكومة والبدء في هندسة حكومة أخرى.
بالنسبة إلى محمد الزغاري فقد تقلد منصب وزير الدفاع الوطني، وترك خلفه منصب نائب الوزير الأول، في أول تعديل حكومي في أكتوبر 1956. كما أنه كان أحد الذين عاشوا مع البكاي الساعات العصيبة لذلك التعديل، حيث إن اللائحة النهاية لم تصل إلى مكتب الملك الراحل محمد الخامس إلا بشق الأنفس. إذ إن الاستقلاليين كانوا يفرضون تغيير بعض الأسماء في كل مرة، وكان الخروج بلائحة نهائية أمرا شبه مستحيل.
كان الزغاري يجلس في مكتبه داخل مقر وزارة الدفاع الوطني، الذي لم يكن يبعد عن القصر الملكي إلا بأمتار قليلة. لكن سيرة الزغاري كان عليها أن تنتهي بفشل التجارب الحكومية التي تلت التعديل الأول، بشكل متلاحق. وهكذا غادر إلى الظل، بعد أن بصم باسمه لائحة حضور المغاربة الأوائل الذين تقلدوا مناصب وزارية، مباشرة بعد الاستقلال. لكن ما ميز الزغاري أنه تقلد منصب نائب رئيس الوزراء، ولم يحظ بالشهرة نفسها التي حظي بها اسم امبارك البكاي، رغم أنه عاش معه الضغط ذاته ومر معه من الامتحان نفسه.
تفاصيل مؤامرة أمنية للقضاء على امبارك البكاي
كان مكتب الوزير الأول امبارك البكاي الهبيل، يعرف يوميا حضور عدد كبير من الراغبين في رفع مظالمهم إلى الملك الراحل محمد الخامس.
موقف محرج وجد فيه الوزير الأول نفسه، ومدير ديوانه الذي لم يكن يجد وقتا حتى لترتيب الأوراق التي تصله من مختلف الإدارات.
عبر البكاي في بعض جلساته مع أصدقائه، عن أنه لم يكن بمقدوره الاطلاع على التقارير الأمنية، رغم أنه وزير أول ويفترض أنه مسؤول، ويجب أن يحاط علما بملف الأحداث الأمنية التي تعرفها البلاد، والتي يأتي ضحاياها المفترضون إلى مكتبه كل صباح لرفع تظلمات شفهية إليه، تنتهي دائما بالرغبة في لقاء الملك محمد الخامس.
وفعلا كان امبارك البكاي ينقل مظالم هؤلاء الناس إلى الملك محمد الخامس، حيث استقبل عددا مهما من قدماء المقاومة الذين نقلوا إليه مظالمهم.
هذه المظالم تمثلت في حرمان بعضهم من التوظيف، أو التسجيل في لوائح قدماء المقاومة.
ومن الملفات السرية التي عالجها امبارك البكاي في الحكومة الأولى، قبل التعديل الحكومي الأول في تاريخ المغرب، ملف احتجاجات بعض قدماء المقاومة أمام القصر الملكي ورفعهم لافتات أمام مقر إقامة ولي العهد، ليأمر وزير الداخلية وقتها الحسن اليوسي بتفريق هؤلاء المتظاهرين.
بعض المصادر، خصوصا في وثائق أرشيف المخابرات الفرنسية، تقول إن اليوسي لم يعط الأمر بتفريق المتظاهرين، رغم أن الأمر صدر من مقر وزارة الداخلية بالرباط وليس من مكان آخر.
وتقول المصادر ذاتها إن الغزاوي، المدير العام الأول للأمن الوطني في تاريخ المغرب، هو الذي أعطى الأمر بتفريق المعتصمين، بعد توصله بإخبارية عاجلة من مخبرين أمنيين يؤكدون فيها أن المطالبين بالاستفادة من معاشات خصصت لقدماء المقاومة، قد قرروا المبيت قرب إقامة ولي العهد. وأعطى الأمر باسم وزارة الداخلية لتفريقهم باستعمال القوات العمومية، التي كان بين قادتها فرنسيون لا يزالون في ذلك التاريخ يعملون في المغرب.
كتبت الصحافة الوطنية، «العلم» و«الرأي العام» عن الواقعة، لكن ما غاب وقتها عن مصادر الصحافيين أن الأمر كان يتعلق بمؤامرة ضد امبارك البكاي.
إذ إن الخطة الأمنية كانت تقتضي أن يتم استهداف شعبية امبارك البكاي، الذي كان يقصده الجميع لرفع مظالمهم إلى الملك الراحل محمد الخامس، لكي يتم احتسابه من المتآمرين ضد قدماء المقاومة وعائلاتهم. وهو ما لم يكن صحيحا بطبيعة الحال.
لأن أغلب الذين كانوا يرفعون طلبهم إلى الملك محمد الخامس، كانوا يشتكون إليه بشكل مباشر من رجال البوليس، الذي يترأسه محمد الغزاوي، ويخبرون الملك بأنهم كانوا يتعرضون لتضييقات من عناصر الأمن، لكي لا يحتجوا ضد تغييبهم من تلك اللوائح.
لقد كان صعبا إرضاء الجميع، كما أن الوزير الأول امبارك البكاي كان يعرف أن أمورا تحاك ضده من خارج مكتب الوزارة الأولى. وهذا ما حكاه بنفسه لصحافي فرنسي، اتضح لاحقا أنه كان يعمل لصالح الموساد الإسرائيلي، وألف تقريرا من مائتي صفحة بعنوان «العقدة المغربيةThe Moroccan Dillemma»، أفرج عنه أرشيف الموساد سنة 2012.
أحداث مكناس 1956.. النقطة التي أفاضت الكأس
كان الخلاف بين قيادات حزب الاستقلال وبعض العناصر الوطنية من خارج الحزب على أشده. اتهم الاستقلاليون بقيادة علال الفاسي بالاستحواذ على المناصب الوزارية، رغم أن تشكيلة حكومة امبارك البكاي لم تلق استحسان الاستقلاليين ولا مباركتهم. إلا أن المراقبين للأوضاع من خارج الحزب، مثل المحجوبي أحرضان والدكتور الخطيب، ثم الحسن الوزاني، المنافس التقليدي لعلال الفاسي، وبعض قدماء المقاومة غير المتحزبين، كانوا يتهمون حزب الاستقلال صراحة بالهيمنة على المناصب في الإدارات العمومية.
لكن ما وقع في مكناس تجاوز الحساسيات الحزبية إلى ما هو أكبر، فقد نشبت في المغرب مظاهرات على إثر تحويل اتجاه الطائرة التي كانت تقل قادة الثورة الجزائرية، وقتها اتهم المغرب بالضلوع في العملية. لكن على الأرض، عرفت مدن مغربية مظاهرات تضامنا مع قيادة الثورة الجزائرية التي كانت تسعى إلى استقلال الجزائر.
ماذا وقع؟ بدأت المظاهرات في عدد من المدن، لكن في مدينة مكناس تمت مواجهة المتظاهرين بالرصاص الحي بقيادة عميد شرطة فرنسي اسمه «الكوميسير فيرو». هذا الأخير، الذي لا يزال اسمه موجودا في الأرشيف الفرنسي، أعطى الأمر بقمع المشاركين وتفريقهم بالقوة.
حسب تقارير الأرشيف فإن المظاهرات بدأت في الساعة العاشرة صباحا يوم 23 أكتوبر 1956، انطلاقا من المدينة القديمة على أن تجوب أحياء أخرى في برنامج صباحي ينتهي مع أذان الظهر.
لكن بعض المخازنية المغاربة عملوا على تفريق المظاهرة في قلب ساحة الهديم، وهو ما يعني فشلها رسميا.
لم يتقبل المنظمون أن يتم تفريقهم بتلك الصورة باستعمال الهراوات والعصي، فقرروا تنظيم مظاهرة أخرى أكثر قوة بعد الزوال، استطاعوا أن يجمعوا فيها أطفال الأحياء المجاورة وقادوهم في خط من 300 شخص، ليقودوا عملية تخريب كبيرة لواجهات المحلات التي كان يملكها فرنسيون لا يزالون مستقرين في المغرب، أو مغاربة مستفيدون من رحيل المعمرين الفرنسيين. ففي غضون ساعتين فقط، كانت جل السيارات المركونة بشوارع مكناس الرئيسية قد هشمت عن آخرها، وطال الأمر محلات تجارية كبرى نهبت محتوياتها وكسرت واجهتها الزجاجية. وتم إعلان حالة فوضى عارمة في المدينة.
يقول التقرير إن قائد المخازنية الذين أوكلت إليهم مهمة قمع المظاهرات، قد أصيب بطلق ناري قاتل من مصدر مجهول، ربما يكون أحد قدماء المقاومة الناقمين على وصول بعض أصحاب السوابق إلى المناصب الأمنية، مقابل تهميش المقاومين. الذين أطلقوا الرصاص على قائد المخازنية، هم أنفسهم من أطلقوا إشاعة مفادها أن البوليس الفرنسي أطلق الرصاص على قائد المخازنية، وهو ما كان وراء انطلاق عملية تخريب ثانية كانت أعنف من الأولى.
هذه الأحداث التي عرفتها مكناس كان لها دور كبير في الإجهاز على أول حكومة في تاريخ المغرب، ليأتي التعديل الحكومي الذي احتفظ بامبارك البكاي وزيرا أول، وأجرى تعديلات على وزارات أخرى.
الجنرال إدريس بن عمر كلف بإعادة الأمن وضبط المظاهرات
عندما تم استعمال المظاهرة على اختطاف الطائرة التي أقلت وفد الثورة الجزائرية برئاسة أحمد بن بلة، يوم 23 أكتوبر 1956، وتوظيفها سياسيا لزيادة الضغط على حكومة امبارك البكاي والتسريع برحيلها، كان الجنرال إدريس بن عمر، المقرب وقتها من الملك الراحل محمد الخامس، يراقب الأوضاع من مكتبه في الأركان العامة، وينقل بقلق للملك الراحل محمد الخامس مخاوفه من أن تتطور الأوضاع أكثر ويصبح صعبا ضبط المدن المغربية أمنيا.
يومها، كان قرار تعيين إدريس بن عمر عاملا على مكناس، مكتوبا فوق مكتب الملك الراحل محمد الخامس ويحتاج فقط إلى توقيعه.
هذا الجنرال المغربي الذي تكون جيدا في الجيش الفرنسي، كان يدرك جيدا أن السياسيين المغاربة هم مصدر الصراع حول أداء حكومة امبارك البكاي. بينما العسكريون كانوا يرون أن الحكومة التي يترأسها زميل لهم يجب أن يتم دعمها، خصوصا وأنها تحظى بدعم ملكي كامل.
أما اجتماعات حزب الاستقلال لنسفها، فلم تكن تثير فضول بن عمر وبقية العسكريين.
العامل الجديد على مكناس، وعلى خلفية أعمال الشغب، كان بصدد فرض سياسة أمنية جديدة في المدينة. حدث هذا بوجود مدير عام للأمن الوطني من حزب الاستقلال، الذي في مصلحته أن تغلي الأرض أسفل قدمي امبارك البكاي، لدفعه إلى الاستقالة.
لكن الجنرال إدريس بن عمر كان له رأي آخر، تجفيف منابع المظاهرات وضبط الأحياء، واستعمال القوات العمومية التي يديرها أمنيون فرنسيون، كانوا لا يزالون يعملون في المغرب، والتحكم في شبكة أعوان السلطة المنتشرين في أحياء مكناس، لتجنب اشتعال فتيل مظاهرات مقبلة.
كان الجنرال بن عمر ينتقل أسبوعيا إلى الرباط، لكي يبلغ الملك الراحل محمد الخامس بتفاصيل التطورات الأمنية في مكناس.
جرى هذا في الوقت نفسه الذي أصبحت فيه حكومة امبارك البكاي الثانية واقعا مغربيا.
كواليس أول تعديل حكومي في تاريخ المغرب
في الوثائق التي اعتمد عليها كتاب «العقدة المغربية»، الذي جمعه كاتب سلم تقاريره الأولى إلى الموساد الإسرائيلي والتي رفعت عنها السرية كما قلنا سنة 2012، جاء أن التعديل الحكومي الأول في تاريخ المغرب المستقل لم يكن في الحقيقة تعديلا، وإنما انقلابا كامل الأركان.
عصفت الريح بوزراء الدولة يوم 27 أكتوبر 1956، وجاء مكانهم وزراء من حزب الاستقلال، بينما بقي الذين تشبث بهم القصر الملكي، لكنهم فقدوا صفة «وزير دولة» وسلمت إليهم حقائب وزارية.
ظل حزب الاستقلال يطالب بالوزارات القيادية، وهو ما قاومه امبارك البكاي، حفاظا على تجربته الحكومية التي كان يحاول أن يبتعد بها عن التبعية لحزب الاستقلال، الذي سيطر فعليا على مراكز القرار والإدارات العمومية.
تحول وزير الدولة، إدريس المحمدي، إلى وزير للداخلية، إذ إن الأحداث عصفت بالحسن اليوسي، الذي اعتبر الأمر بدوره نفضا له، بحكم أنه أدار ملف المظاهرات. بينما مُنحت وزارة الدفاع الوطني إلى محمد الزغاري، الذي كان في الحكومة الأولى نائبا للبكاي.
الزغاري الذي ينحدر من أسرة تعرف «المخزن» جيدا وتعرف غضباته، كان في الحقيقة يجلس إلى كرسي الوزارة دون أن يتوفر على أي وثائق. حتى أن قادة الجيش الملكي الفعليين كانوا يجتمعون بولي العهد بصورة شبه يومية لتسليمه التقارير السرية للجيش، والتي يسلمها بدوره إلى والده. بينما وزير الدفاع الوطني كان مغيبا تماما عن العملية.
سُلمت وزارة الخارجية إلى أحمد بلافريج، وهو ما كان يعني فعليا هيمنة حزب الاستقلال، حيث إن الوزارة أصبحت استقلالية بالدرجة الأولى.
جل الوزراء أصبحوا استقلاليين، أمثال عمر بن عبد الجليل الذي باشر أول عملية إصلاح زراعي في وقت كان فيه ملاك أجود الأراضي الفلاحية فرنسيين، وكان هذا الملف شائكا للغاية بحكم مطالب الاستقلاليين برحيل الفلاحين الفرنسيين، وتسليم الأراضي التي كانوا يستغلونها إلى الدولة المغربية.
بينما كانت وزارة الشغل من نصيب عبد الله إبراهيم، وهو ما كان يعني أن حزب الاستقلال كان يمسك بوزارات للسيادة وأخرى للخدمات العمومية، حيث إن محمد الدويري أيضا كان يمسك حقيبة وزارة الأشغال العمومية.
إدريس المحمدي الذي كان وزيرا للداخلية، كان في الحقيقة يميل إلى الاستقلاليين، رغم أن منصبه يقتضي ألا يكون في يد أي حزب، حتى لا يعمل على تقويته في الأقاليم.
النتيجة كانت أن وزير الداخلية أغمض عينيه على بعض التجاوزات وأعمال العنف التي طالت منافسي حزب الاستقلال في المدن والقرى، وجر ذلك على المحمدي انتقادات كثيرة من طرف الحسن الوزاني، زعيم حزب الشورى، المنافس التقليدي لحزب الاستقلال.
جر التعديل الحكومي على امبارك البكاي كثيرا من الويلات، أولها أنه جرد تماما من داعميه. تم إبعاد نائبه عنه ووضع في وزارة الدفاع بدون مهمة تقريبا، كما يقول التقرير، بينما بقي البكاي وحيدا، رغم دعم الملك الراحل محمد الخامس له بشكل كبير، إلا أن الاجتماعات المهمة للحكومة ظلت تجري خارج مكتبه. كان بعضها يجري في منزل أحمد بلافريج، ووصل الخبر إلى الملك الراحل محمد الخامس، إلا أن الاستقلاليين كانوا يجرون العصا في اتجاههم، لإسقاط امبارك البكاي من كرسي الوزارة الأولى بصورة نهائية.
عندما اشتكى الناس الحكومة إلى محمد الخامس
ربما يكون محمد بن سعيد أيت إيدر، آخر من امتلكوا الشجاعة للحديث عن الكواليس الحقيقية لأزمة الحكم في مغرب سنة 1956.
شيخ السياسيين حكى في مذكراته التي صدرت سنة 2018 عن كواليس الاجتماعات في بيوت الاستقلاليين لنسف تجربة امبارك البكاي، وكيف أن الملك الراحل محمد الخامس كان يتوصل بتقارير شفهية من بعض الحاضرين بخصوص ما جرى أثناء الاجتماع، وحتى كيف أن الملك الراحل جاء مرة بنفسه إلى منزل بلافريج، ليجد فيه اجتماعا للاستقلاليين، ويخبرهم أنه غير راض عما يقع في الساحة السياسية من تجاذبات.
كان يتم إعداد بلافريج لكي يصبح وزيرا أول مكان امبارك البكاي، هذا ما وقع لاحقا، لكن في تلك الفترة أكتوبر 1956، كانت الأجواء ضبابية والرؤية غير واضحة بشأن المستقبل السياسي للمغرب.
النسخة الحكومية الأولى كانت تحظى بدعم القصر، ويحاول أعضاؤها إخراج المغرب من عنق الزجاجة، وسط تحديات أمنية كبيرة. بينما الاستقلاليون كانوا يرمون إلى تعزيز وجود الحزب في الصورة العامة، وزرع أبنائه في كل مفاصل الدولة الحيوية، لكي يصبح أقوى حزب في المغرب.
ورغم محاولات الملك الراحل محمد الخامس لدعم التجربة الحكومية الأولى في عهد الاستقلال، إلا أن الحزب كان يدير اجتماعاته بكثير من الحماس الذي يتوعد كرسي امبارك البكاي.
هذا الأخير الذي كان يتوصل بشكايات من مواطنين مغاربة ووطنيين من قدماء الحركة الوطنية والخلايا السرية للمقاومة، وكان ينقلها بأمانة إلى القصر الملكي. وهو ما كان يثير حفيظة الاستقلاليين، خصوصا وأن الملك الراحل كان يستدعي المدير العام للأمن الوطني ليستفسره عما يقع. لكن تلك المظاهرات على دمويتها، كانت تفيد في تفجير الوضع السياسي في المغرب، خلال فترة لم يرد أغلب من عاشوها من الداخل الحديث عنها، وأخذوها معهم إلى قبورهم.