موتى بلا قبور... بن بركة والمانوزي وآخرون.. قصص اختفاء مغاربة ظلوا بلا قبور أو شهادة وفاة
مع تيلي ماروك
في الأسبوع الأخير من أكتوبر، تحل ذكرى اختفاء المهدي بن بركة سنة 1965 وذكرى اختطاف الحسين المانوزي سنة 1972. وبين التاريخين وبعدهما قصص اختفاء أخرى ومغاربة بدون قبور وأحيانا بدون شهادات وفاة أيضا.
نعتذر أولا لبعض العائلات التي لن تجد أسماء أبنائها الذين لا يزالون بدون قبور إلى اليوم. هناك من لم يتوجه إلى جلسات الإنصاف والمصالحة ورفض تقديم إفادة لكي يتم تسجيل الغياب «اللغز» لأحد أفراد عائلته. وهناك من رفض أساسا فكرة الحديث إلى الصحافة في الموضوع، وطنية كانت أو أجنبية. وحملت هذه العائلات جرحها الغائر معها، وكأنها بدفن الموضوع تدفن ابنها أو أبناءها رمزيا بعد أن تعذر دفنهم مثل البقية.
أسماء كثيرة لم يكشف مصيرها في المغرب، وعائلات في شمال البلاد وجنوبها تكاد تتقاسم القصة نفسها. اختفاء سبقه اختطاف، ثم سكون مزعج، لم تفلح الصرخات ودعوات فتح تحقيقات في حل لغزه.
مغاربة كثيرون تعيش بيننا صورهم، ليست لهم قبور يبكيهم أحباؤهم فوقها. في ملف هذا الأسبوع نعرض بعضا من قصصهم..
المهدي بن بركة.. شيخ المفقودين أراد مشاهدة مسرحية فاختفى
منذ أن خرج ضابط الموساد السابق رافي إيتان للحديث عن ملف اختفاء المهدي بن بركة قبل أربع سنوات، لم يصدر أي جديد في الموضوع، حتى في فرنسا التي عودتنا أن يظهر بين الفينة والأخرى من يطالب بالاطلاع على الأوراق السرية للقضية الأكثر إثارة للجدل، والتي وصل صداها إلى الأمريكيتين، وآسيا، بعدما كانت أوربا مسرحا لها.
اختفاء مناضل أممي، اسمه المهدي بن بركة، يتزعم تنظيما دوليا سياسيا جديدا في زمن القطبية بين الولايات المتحدة وروسيا، لم يكن أمرا سهلا بالمرة، وإلى اليوم لا تزال قضيته إحدى أشهر قضايا الاختفاء في العالم.
سبق في «الأخبار» أن تناولنا موضوع إفادات ضابط الموساد السابق، الذي نقلت وسائل إعلام دولية كثيرة اللقاء التلفزيوني الذي صُور معه بعد تقاعده بسنوات فور صدورها سنة 2017، ثم قارناها مع مضمون كتاب آخر في نفس الاتجاه حاول الربط بين الموساد وبين اختفاء ابن بركة، حيث قال رافي إيتان ردا على هذا الربط إنه يرفض الجواب. رغم أنه قدم تفاصيل كثيرة، أو «ثرثر كثيرا» كما علق ضباط آخرون سابقون في الموساد، إلا أنه رفض الجواب عن النقطة التي تتعلق بوقوف الموساد وراء مخطط خطف المهدي بن بركة من باريس.
مما جاء وقتها في الموضوع ما يلي:
من سخرية القدر والحياة، أن يكون المهدي بن بركة قد خطط لمشاهدة مسرحية في باريس خلال اليوم نفسه الذي اختُطف فيه. كان برنامجه في ذلك اليوم هو لقاء مُخرج فرنسي للعمل معه على فيلم «باسطا» الذي لم يكن المهدي متحمسا له وحسب، وإنما كان يخطط لاستعماله كدعاية لمؤتمر دول القارات الثلاث الذي كان يُعد له ليجرى في كوبا سنة 1966. لكنه كان على موعد مع مسرحية أخرى، أمام المقهى الذي سيلتقي فيه بالمخرج المفترض. ويختفي إلى اليوم.
كان القضاة الفرنسيون الذين أشرفوا على ملف اختفاء المهدي بن بركة يتبادلون الملف بعدد أوراق لا يتغير، نظرا لجمود في التفاصيل الرسمية المتعلقة بالقضية، اللهم إلا بعض الروايات الشفهية التي تدخل في إطار الشهادات، وغالبا ما تغيب فيها الأدلة المادية التي تقود إلى تحريك التحقيق من جديد.
آخر من تحدث في الموضوع بطبيعة الحال سنة 2017 كان هو رجل الموساد الضابط رافي إيتان. هذا الرجل قال إن الجنرال الدليمي جاء إليه في ليلة اختفاء المهدي بن بركة، 29 أكتوبر 1965، وطلب منه مساعدته على التخلص من الجثة، ليبدو الأمر حسب هذه الرواية وكأن الأمر يتعلق باغتيال مرتجل. فيما شاع لسنوات في أوساط المغاربة أن ابن بركة صفي وذوبت جثته في الأسيد داخل التراب المغربي بعد اختطافه وقتله في باريس وترحيل جثمانه بشكل سري، يدين السلطات الفرنسية، إلى المغرب. ولم تكلف فرنسا نفسها عناء الإفراج عن الأوراق السرية المرتبطة بأجهزتها الأمنية لتنهي الجدل في الموضوع، وظلت إلى وقت قريب تعتبر الموضوع ضمن نطاق الأمور السرية لأمن الدولة، رغم أن الديموقراطية تقتضي الإفراج عن الأرشيف الأمني المتعلق بهذا النوع من القضايا خصوصا وأن الكشف عنه لا يضر بمصالح أمن الدولة، ما دامت كل الأطراف المرتبطة بالقضية، غير موجودة.
يقول إيتان في تزكية روايته إنه كان على اطلاع بتحركات زعماء عرب كثيرين، بل وقال خلال تلك المقابلة وبدم بارد، إنه قام بأدوار رئيسية في عملية اغتيالهم، لكن لم يسم أحدا منهم بالاسم، فهل يعقل أن يكون المهدي بن بركة واحدا منهم؟
كل ما نعرفه الآن، أن المهدي بن بركة، أيقونة الاختفاء السياسي في العالم، لا يزال بدون قبر حتى تزوره عائلته ومحبوه.
الحسين المانوزي.. اختفى بتونس وظهر بعد 3 سنوات بالمغرب ثم تبخّر
في ركن «سري للغاية» الذي ننشره هذه الأيام في الصفحة الأخيرة من جريدة «الأخبار» يقول الدبلوماسي المغربي السابق، امحمد الأبيض، إن الحسين المانوزي المناضل الاتحادي والنقابي البارز، اختطف من تونس على يد فرقة خاصة تابعة للجنرال الدليمي الذي كان يشرف على ملفات أمنية حساسة تحت غطاء جهاز الـ «كاب 1» وأدخل عبر الحدود الجزائرية إلى المغرب في صندوق سيارة دبلوماسية تابعة للسفارة المغربية في تونس.
اختفى الحسين المانوزي في يوم 29 أكتوبر سنة 1972 في آخر ظهور له في تونس. ولا أحد كان يعرف مصيره إلى أن جاء امحمد الأبيض، الموظف السابق في السفارة المغربية في العاصمة تونس في نفس التاريخ، وأمين السر في سفارة المغرب بروما لاحقا، ليقول في الحوار الحصري مع «الأخبار» إن الحسين المانوزي اختطف من التراب التونسي عن طريق فخ نصبه له البوليس السري بإحكام وتم استدراجه ثم اختطافه، ليتم تمريره في صندوق السيارة الدبلوماسية باستعمال جواز سفر امحمد الأبيض، الذي يحمل خاتم شرطة الحدود في التاريخ نفسه وهو ما يدعم روايته.
كان معروفا أن الحسين المانوزي أدخل سرا إلى المغرب بعد اختطافه، إذ أنه تمكن من الهرب من المعتقل السري رفقة عقا واعبابو، المدانين في انقلاب الصخيرات. شارك الحسين المانوزي في عملية الهرب، إلا أن يد البوليس وصلت إلى الهاربين قبل وصولهم إلى عائلاتهم، ثم اختفى المانوزي من جديد.
في فيلم وثائقي بثته قناة «تيلي ماروك» الفضائية، حكت عائلة المانوزي لأول مرة أمام الكاميرا، عن تفاصيل ذلك اليوم من سنة 1975، عندما تم تطويق منزلهم في الدار البيضاء لتتهلل وجوههم فرحا، إذ إن حضور البوليس السري والسؤال عن الحسين المانوزي كان يعني أنه على قيد الحياة على الأقل، وما داموا قد جاؤوا للبحث عنه فقد نجح في الهرب منهم، وصدرت فعلا مذكرة بحث في حقه تحمل صورته الشخصية. لكن البوليس ذات صباح انسحبوا ولم يعد أحد للسؤال عن أثره، لتفهم العائلة أنه اختطف مجددا. وهكذا بقي لغز اختفاء الحسين المانوزي محيرا، حيث إن مكان قبره لا يزال مجهولا إلى الآن.
أحمد أتكو.. رجل بدون شاهد قبر
اختفى سنة 1974. في السادس من شهر يونيو من ذلك العام حتى نكون أكثر دقة. كان تلميذا في داخلية ثانوية ولي العهد بورزازات. أما أصوله فإنه ينحدر من دوار «آيت يول» بنواحي بومالن دادس.
شهد له كل من عرفوه يافعا بالنبوغ. إذ رغم الظروف الاجتماعية القاسية التي عاش فيها طفولته، إلا أنه واصل دراسته في وسط كان جل الأبناء فيه ينقطعون مبكرا عن الدراسة لمساعدة الأسر في الأعمال الفلاحية. سُجل في شعبة العلوم التجريبية لكي يواصل كفاحه للحصول على شهادة الباكالوريا، إلا أنه اختفى قبل تحقق الحلم.
في نهاية الموسم الدراسي 1974-1975 اختفى في آخر مكان رآه فيه أصدقاؤه وزملاؤه التلاميذ، أي القسم الداخلي حيث كان يقيم بعيدا عن أسرته الصغيرة، التي كان يذهب لرؤيتها في العطل.
تقول أسرة المُختفي إنها حاولت الوصول إلى ابنها في شهر يونيو بعدما أشعرهم بعض التلاميذ الذين يعرفون أسرته بأنه قد اختفى. إدارة ثانوية «ولي العهد» قالت للأسرة إن الابن من جملة التلاميذ الذين صدرت في حقهم عقوبة تأديبية لمدة أسبوع. وتركت الإدارة الأسرة لحيرتها.
حسب ما صرح به أقارب أحمد أتكو، فإن الإدارة لم تمنح الأسرة جوابا نهائيا صريحا. إذ إن مدير الثانوية وقتها أخبر العائلة أن التلميذ قد عاد بعد انقضاء مدة العقوبة، بل وأضاف أن تلك لم تكن المرة الأولى التي يصدر في حقه قرار إداري من هذا النوع.
لقد كان هذا الشاب يملك حسا نضاليا عاليا ويقوم بتجييش التلاميذ للمطالبة بحقوقهم في القسم الداخلي وفي المؤسسة.
حسب إفادات الأسرة سابقا فإن أحد أساتذة أحمد أتكو الذين كانوا يتنبؤون له بمستقبل باهر، لم يملك أن يكبح دموعه في صيف تلك السنة الساخنة (1975) وجاء إلى منزل أسرته الصغيرة في الدوار حاملا «كرتونة» بها ملابس التلميذ المُختفي وأغراضه وحتى أدواته المدرسية وكتبه ودفاتره التي كانت تحمل آخر تدويناته وملاحظاته من حصص الدروس.
الخطير في الأمر أن والد المُختفي صرّح لحقوقيين أثناء ندوة للاستماع لضحايا سنوات الرصاص في نواحي مدينة ورزازات، وقال إن رجال السلطات طالبوه بإعادة تلك المتعلقات التي تعود لابنه وقاموا بتفتيشها بدقة وكأنهم يبحثون داخلها عن دليل ما لتثبيت اتهام في حقه. هذا ما فهمه الأب وقتها خصوصا وأن عناصر من الدرك قامت بتفتيش دقيق لكل تلك الأغراض، وتبعها أفراد من العمالة أعادوا نفس العملية قبل أن تتم مصادرة تلك الأغراض نهائيا من العائلة.
فرضية الاختطاف والتحقيق مع التلميذ تبقى قائمة بقوة خصوصا وأن بعض التقارير المتوفرة في الموضوع، والتي كان مصدرها تلاميذ سابقون ممن درسوا في نفس الثانوية مع أحمد أتكو، يؤكدون خلالها أنه تم اختطافه وأن حركة غير عادية سرت في أروقة الداخلية، مباشرة بعد عودتهم من السينما حيث كان التلاميذ يشاهدون آخر الأفلام العالمية والهندية في سينما «الأطلس» القديمة في ورزازات.
كان هناك نشاط تلاميذي قوي، اعتُبر وقتها نشاطا نضاليا مُحرما، حيث كان يتم تأطير التلاميذ سياسيا للانضمام إلى صفوف المعارضة في المرحلة الجامعية، وربما كانت الأشكال النضالية، المتمثلة في الإضرابات لإجبار الإدارة على تحقيق مطالب التلاميذ، السبب الأكبر وراء بروز اسم أحمد أتكو بين جبال ورززات الوعرة. نظراته كانت تشي بصلابة صخور «بومالندادس». ولا زال اسمه إلى اليوم سؤالا بدون جواب، رغم أن «زوار الليل» قد مروا من هناك، لكن العائلة لا تزال تنتظر أن تعرف على الأقل في أي قبر دُفن الابن بعد تلك الأحداث، حيث سُجلت اختطافات سرية لعدد من الطلبة والتلاميذ في نفس الموسم الدراسي داخل الإقليم.
أكودار اليزيد.. أيقونة المُختفين في أحداث 1984
26 مارس 1980، كان أكودار اليزيد، العون التقني بوزارة الفلاحة بأكادير، يتجه إلى عمله غير مدرك أن ذلك سوف يكون آخر يوم عمل له. تم اختطافه وبحثت العائلة عنه لأيام سرعان ما تحولت إلى أسابيع وأشهر طرقوا خلالها كل الأبواب الممكنة، حتى أن بعض أقاربه اضطروا إلى المبيت أمام دار العامل في أكادير في انتظار أن يتم استقبالهم لتسجيل تظلمهم وفتح تحقيق للبحث عن مصير معيلهم الشاب الذي كان معروفا في أكادير بأنشطته النقابية.
تلك السنة الساخنة، أي 1980، كانت تنذر باحتقان نقابي كبير، خصوصا وأن قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي كانت تسجل تظلمات كثيرة ضد وزارة الداخلية التي ضيقت في عهد إدريس البصري على نزاهة الانتخابات وحاولت التحكم في النقابات عن طريق نسف المكاتب النقابية وشحنها بالجواسيس والمخبرين وعناصر إفشال دعوات الإضرابات.
كانت التقارير التي ترفع عن أعضاء المكاتب النقابية النشيطين، تمنح للبوليس السري «زوار الليل» كما كان يسميهم ضحايا سابقون من زمن سنوات الرصاص، لكي يتم إعداد لائحة لمُختطفين مستقبليين للتحقيق معهم.
كان ملف اليزيد من ضمن هؤلاء. إذ أن ملفه لا يمكن فصله من هذا السياق رغم تضارب الروايات بشأن أسباب اختفائه. إذ أن بعض الأسماء التي لم يكن لها علاقة بالعمل النقابي والإضرابات في الإدارات والمؤسسات العمومية، تعرضوا بدورهم لاختطافات بالخطأ بسبب إما تشابه في الأسماء، أو وشايات كاذبة ضدهم وماتوا تحت التعذيب في محاولة انتزاع اعترافات منهم بالقوة، ودفنوا سرا في مقابر عشوائية، إما منفردين أو بشكل جماعي، لكن مجهودات الإنصاف والمصالحة لم تنجح في الوصول إلى أماكن تلك المقابر. وبقي مكان بعض الأسماء التي تبحث عنها العائلات مجهولا إلى اليوم.
سقطوا سهوا من التاريخ.. تلاميذ أهرمومو بدون شهادات وفاة
عندما طرح ملف تلاميذ المدرسة العسكرية بأهرمومو، والذين شاركوا في انقلاب الصخيرات يوليوز 1971، وحكمت المحكمة ببراءتهم جميعا، كان هناك مشكل كبير يتعلق بلغز اختفاء بعض الأسماء في لوائح التلاميذ. كانت المحكمة العسكرية في القنيطرة قد وضعت وقتها فرضيتين:
إما أن يكون المختفون قد هربوا خوفا من الاعتقال بعد فشل الانقلاب، وإما أنهم قتلوا بالرصاص أثناء تطويق المشاركين على يد قوات المظليين على مشارف القصر الملكي في الصخيرات، أو أثناء عمليات تبادل إطلاق النار في قلب العاصمة الرباط. ووسط فوضى الجثث التي شهد كل من عاش ذلك اليوم عن قرب، أنها كانت أكوام بشرية بعضها فوق بعض، فقد كان من الصعب التعرف على هوية كل القتلى في ذلك اليوم.
عندما تم فتح ملف المُختفين المعنيين بهذا الملف الشائك، تم تسجيل ملاحظات من بعض العائلات التي لم تجد أي جواب بشأن مصير أفرادها الذين ذكرت أسماؤهم في المحكمة. إذ يستحيل أن يستمر المتورطون في عملية الهرب منذ 1971 إلى 2001. والمرجح أنهم قتلوا أثناء المواجهات. إلا أن عملية استخراج شهادات الوفاة المتعلقة بهؤلاء الأشخاص عرفت صعوبات كبيرة.
يقول امبارك بودرقة، في كتابه «كذلك كان»، إن مجهودات كبيرة قامت بها لجان ميدانية متخصصة لبحث تلك الملفات حيث حاولت ربط الأحداث والاستماع لدائرة كبيرة ممن كانت لهم علاقة بالموضوع، وحدد مكان قبور بعض الأشخاص بناء على إفادات أفراد من القوات المساعدة. إلا أن ملف بعض المُختفين كان عالقا، بحكم أن أجوبة حول مصير الذين ماتوا أثناء التحقيق مع الموقوفين قبل عرضهم على المحكمة العسكرية، لا تزال معلقة.
مُختفو دار بريشة بتطوان..»شيوخ» الاختفاء السياسي
لا تزال عائلات كثيرة في تطوان ونواحي المنطقة الشمالية وصولا إلى الريف، تنتظر أن تعرف مكان قبور الآباء والأجداد الذين راحوا ضحية الاختطاف والتحقيق والتعذيب داخل دار جنان بريشة طيلة سنة 1956. إذ كان هؤلاء المعارضون لحزب الاستقلال، والمنتمي أغلبهم إلى حزب الشورى والاستقلال، ضحية عمليات اختفاء واختطاف انتهى بوفاتهم تحت التعذيب، حيث أفادت عدد من الشهادات في جلسات الاستماع للعائلات والشهود، بأنه تم حفر قبور جماعية وفردية في أماكن متفرقة ومجهولة، للتخلص من جثامين المخطوفين.
كان اغتيال الكاتب والسياسي عبد الواحد العراقي، والذي وضع خبر اغتياله مرفوقا بصورته على صدر صحيفة «الرأي العام»، لسان حال حزب الشورى والاستقلال سنة 1956، واقعة مخزية في الوسط السياسي المغربي. إذ كان مقتله عبارة عن حرب استعرت لتطال آخرين من بعده في إطار تصفية الحسابات السياسية وتطهير الساحة من المنافسة التي يفترض «للأسف» أنها جوهر العمل السياسي.
في قضية عبد السلام الطود مثلا، أحد الأسماء التي تعتبر رموزا لقضية دار بريشة، ظهر أنه اختطف في واضحة النهار من أحد مقاهي مدينة تطوان، حيث وضع شخص دخل المقهى بشكل مفاجئ، مسدسا فوق رأس أحد الجالسين قبل أن ينبهه مرافقه بأنه وضع المسدس فوق رأس الشخص الخطأ. وسأل مرافقه مجددا: «هذا؟». ووضع المسدس فوق رأس عبد السلام الطود، ليؤكد مرافق الرجل المسلح هوية الطود ويتم اقتياده أمام أنظار الجالسين في المقهى.
سرت وقتها في تطوان سنة 1956 أخبار تؤكد أن كل الذين يتم اختطافهم يتم التوجه بهم إلى دار بريشة للتخلص منهم.
ولا تزال العائلات إلى اليوم تطالب بكشف مصيرهم. في فاتح يناير 2018، كتبنا عن موضوع دار بريشة:
«هناك اليوم مساع حقوقية ومراسلات وضعت على مكتب رئيس الحكومة، قبل أشهر فقط، تطالبه فيها بتسريع وتيرة تناول ملفات العائلات التي فقدت أبناءها منذ سنة 1956، وتطالب اليوم بكشف مصيرهم وتعويضهم عن تلك الأحداث لطي الملف نهائيا. وحسب مصادر تحدثت لـ «الأخبار» فإن بعض العائلات حصلت على وعود من رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، تتعلق بقرب البت في هذا النوع من الملفات وإنصاف العائلات التي كانت تتابع ملفات اختفاء أفرادها منذ سنة 1956.
المثير في الموضوع أن هؤلاء الذين تم اختطافهم في تلك السنة وتمت تصفيتهم جسديا سواء في تطوان أو خارجها، بعد ترحيلهم من دار بريشة عندما كانت معتقلا سريا، لا يزالون في حكم مجهولي المصير، رغم مرور حوالي ثلاثة عقود على تلك الأحداث.
ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي توجد اليوم على طاولة الحكومة، تبقى شائكة للغاية بسبب المعطيات التي تجمعها، وبسبب البُعد الإنساني لتلك الملفات».
ولا يزال الأمر قائما إلى اليوم رغم أن بعض العائلات تم استدعاؤهم إلى الرباط للنظر في ملفاتهم من جديد في عهد حكومة سعد الدين العثماني، لكن مشكلة الاهتداء إلى قبور بعض المختفين تبقى شبه مستحيلة نظرا لغياب أدلة دقيقة عن أماكن دفنهم ولو بشكل تقريبي. وهكذا يكون هذا الملف أحد أكثر الملفات حساسية في تاريخ الاختفاء السياسي في المغرب.
الرويسي.. الصالحي المدني وعبد الرحمن درويش وعمر الوسولي والآخرون
هؤلاء ثلاثة مختفين يمثلون ملفا شائكا، بحكم أن أسماءهم لم تحظ بنفس الشهرة التي حظيت بها أسماء أخرى مثل عبد الحق الرويسي، الذي اختفى هو الآخر في ظروف غامضة ومتضاربة. إذ أن مسألة إثبات اشتغاله في العمل السياسي ظلت عصية على التحقق، لكن الأمر لم يمنع من وضع فرضيات كثيرة تتعلق باختفائه، وعدم وجود قبر معروف له إلى اليوم. رغم أن عددا من ضحايا سنوات الرصاص وبعض المعاصرين لملفات الاختطاف عن قرب، لم ينجحوا في تقديم تفاصيل وافية ومفيدة بخصوص آخر ظهور لعبد الحق الرويسي، الذي اختفى في زمن غير بريء. إذ أن سنتي 1964 و1965 كانتا قمة الاحتقان السياسي في المغرب والفترة التي سجلت فيها أكثر حالات الاختفاء والاستنطاقات والتعذيب التي راح ضحيتها عدد كبير من الأبرياء.
أما الصالحي المدني ودرويش وعمر الوسولي، فقد ظلوا يمثلون قضية واحدة رغم اختلاف التفاصيل.
الانتماء إلى الحركات الطلابية أو التلاميذية، والمعاناة خلال مرحلة التحصيل العلمي، والتمرد على التهميش الذي كانت تعيشه فئات من أبناء الشعب ورغبتهم الكبيرة في تحسين وضعية أسرهم من خلال استكمال تحصيلهم العلمي، كلها معطيات اشترك فيها هؤلاء الشباب.
إذ إن اختلاف الأسماء لم يكن يعني بالضبط اختلاف القضايا. سواء في الدار البيضاء والرباط، محور المغرب النافع كما يقال، أو حتى في ورززات، الرشيدية وسوس، لم يكن هناك اختلاف في حالات الاختفاء.
كان بعض أعضاء الحركات الطلابية يأتون من المدن الكبرى مثل فاس، حيث جامعة ظهر المهراز، أو الرباط، هربا من البوليس السري، إلى القرى والمداشر. إلا أن تقارير البوليس التي تذكر أصول عائلاتهم أو أماكن مسقط رأسهم، تبدأ البحث عن الهاربين في تلك القرى، وكثيرا ما تم اختطاف بعض قياديي المظاهرات والإضرابات ما بين فترة 1965 و1980، من تلك القرى لإعادتهم إلى مراكز الاستنطاق. وسجل اختفاء هؤلاء المختطفين على خلفية التحقيق معهم بشكل غير قانوني، وتم التخلص من جثامينهم إما في قبور جماعية أو بدون تسجيل أماكن دفنهم في المقابر، ليصبح أمر اهتداء عائلاتهم إليها مستحيلا تماما.
عندما تم اكتشاف مقبرة جماعية بالدار البيضاء قبل عشر سنوات من اليوم، أعيد فتح ملف ضحايا أحداث الثمانينات. تحمست العائلات أخيرا وظن الكثيرون أن ملف ضحايا تلك الأحداث الأليمة سيعرف نهايته قريبا. لكن الأمور سارت بطريقة مختلفة، حيث تم تحديد هوية عدد من الجثث التي وجدت مدفونة بطريقة جماعية، بينما بقيت ملفات أخرى معلقة، وساد جو من التذمر خصوصا وأن عائلات أخرى ظنت أن ملفات أفرادها قد وصلت إلى النهاية، لكنهم لم يتوصلوا بأي جواب رسمي بشأن وجود أبنائهم بين الهياكل التي تم اكتشافها، ورجح آخرون أن تكون الجثث الأخرى قد تم التخلص منها في أماكن أخرى ربما خارج الدار البيضاء.
لا توجد، للأسف، أرقام مضبوطة بشأن ضحايا أحداث بداية الثمانينات في الدار البيضاء، ونفس الأمر ينطبق على ضحايا أحداث سنة 1984 بالناظور. لكن عددا من العائلات تؤكد وفاة أقاربها في تلك الأحداث، وفق معلومات متطابقة حصلوا عليها من شهود عاشوا تلك الأحداث عن قرب، أو نجوا منها بأعجوبة.