تاريخ.. مسؤولون وعلماء حاول مجهولون تدنيس ذكراهم بعد وفاتهم
مع تيلي ماروك
عندما نرى كيف تعرضت قطعة من الرخام تكرم ذكرى القيادي والمناضل والوزير الأول الأسبق عبد الرحمان اليوسفي، لتشويه بشحم السيارات وسط الشارع العام بطنجة، والذي يحمل اسم الوزير الراحل، ساعات فقط بعد وفاته، نفهم كيف أن عادة قديمة لا تزال تعشش في أذهان الكثيرين.
وقبله، تعرض قبر الراحل بنزكري، الذي قاد تجربة الإنصاف والمصالحة وتعويض ضحايا سنوات الجمر والرصاص، لاعتداء غير مفهوم. لكنه في الحقيقة طقس ضارب في التاريخ. أغلب ضحايا هذا الطقس يكونون في الغالب ممن شُهد لهم بالصلاح والريادة. ينتظر من ناصبوهم العداء وفاتهم لكي يدنسوا ذكراهم، لأنهم ببساطة لم يستطيعوا مواجهتهم قيد حياتهم.
في هذا الملف نجمع من الوقائع ما تفرق، وبعضها سبق أن انفردنا بالتعمق فيه، ونربط خيوطها، ليتضح في الأخير أن «داء العطب قديم»، وأن تلك العادة ليست إلا تكريسا لحقد يسدد على شكل ضريبة على النجاح.
عندما دخل العنف إلى السياسة وامتد إلى القبور
سبق للمؤرخ الراحل عبد الهادي التازي، في شتنبر سنة 1998، أن ألقى محاضرة في مقر جامعة القرويين بفاس، عن «التاريخ المجهول» المحفوف بالوقائع غير المروية، أو التي لا يحب الكثيرون روايتها. وتطرق إلى ما أسماها وقتها المبالغات الأجنبية في بعض المراجع غير المغربية، التي كانت تصف المغاربة ببعض الصفات التي تنفي عنهم صفة الحضارة. والحال أن تلك الأحداث وطريقة روايتها، يقول عبد الهادي التازي، يُؤخذ منها ويُرد. ويجب ربطها بسياقها الصحيح وليس قراءتها معزولة وقطعها من سياقها الذي وقعت فيه.
أما عن أصل دخول العنف إلى الحياة السياسية، فيمكن ربطه تاريخيا بغريزة الانتقام التي عششت في العقول، ومارسها بعض المسؤولين السابقين ضد خصومهم. لكن التازي يؤكد أن تدخل القصر الملكي كان فعالا على مدى أزيد من 400 سنة لوقف تلك الممارسات ودفنها في مهدها، قبل أن تتحول إلى ما يشبه حربا أهلية بين الأسر المخزنية، بعكس بعض الدول الأخرى التي حكمت المغرب قبل العلويين، والتي كان فيها للتنكيل بالجثث نصيب كبير من التاريخ. وربما، وهذا محض استنتاج بعيدا عن مداخلة الدكتور عبد الهادي التازي، تبقى الأحداث التي طالت الاعتداء على قبور بعض الوزراء إرثا من بقايا ما علق تاريخيا في أذهان تلك العائلات، التي قضت قرونا في خدمة المخزن.
سنعود إلى ما قبل سنة 1880 لنضع نقاطا فوق الحروف، ولرصد أقدم التنكيلات بالمسؤولين السابقين، في إطار الصراع على السلطة. حيث تحول الأمر في ما بعد إلى طقس انتقامي من خيرة موظفي الدولة ووزراء البلاد، على يد من كانوا يحسدونهم أو ممن انتهى وجودهم سياسيا على يد هؤلاء الوزراء، الذين حصلوا إما على تنويه الشعب أو نجحوا في حصد احترام القصر.
يقول بوشتى بوعسرية في كتاب «معلمة المغرب»: «فحينما دخل الصدر الأعظم (يقصد المعطي الجامعي) على السلطان (المولى عبد العزيز) في قصره بمكناس، يحمل معه صكوك الأوامر والظهائر السلطانية، كما جرت العادة، للتوقيع عليها، أمره بتقديمها إلى أبا حماد بن موسى، فامتنع عن القيام بهذه المهمة التي اعتبرها إهانة له، فلم يسع السلطان إلا إعطاء تعليماته، بإيعاز من حاجبه، لقائد المشور إدريس بن العلام البخاري ليبلغ الصدر الأعظم السابق إعفاءه من وظيفه ولزوم داره».
وهنا مصدر آخر، أجنبي هذه المرة، هو «المغرب المنقرض» لصاحبه الذي جاء إلى المغرب في سنة 1880، وأصبح لاحقا صديق المولى عبد العزيز إلى حدود سنة 1900. يتحدث هنا عن مأساة آل الجامعي: «حتى كان رجل يمرغ في تراب ساحة القصر، رجل مثير للشفقة تغمر عينيه الدموع، رجل تسخر منه وتستهزئ به الجموع التي كانت، قبل هنيهة، تنحني لتحيته حتى تطأ جباهها الأرض. كانت ثيابه ممزقة بسبب غلظة الجنود وعمامته قد انزاحت عن مكانها الطبيعي، وحين اجتاز باب القصر السري مجرورا من طرف العساكر، نزع الحارس رزته البيضاء الرائعة، وضعها الحارس فوق رأسه، وعلى رأس الصدر الأعظم وضع شاشيته المتسخة، فحيت قهقهة مدوية فعلته (..) اقتيد الوزيران السابقان (الحاج المعطي ومحمد الصغير) إلى السجن بتطوان، وهناك كانت السلاسل مصيرهما، فَغُلاَّ في ضيافة برج الاعتقال. وبعد مرور ثلاث سنوات، وهي مدة بدت للحاج المعطي وكأنها الأبد، توفي هذا الأخير. لم يجرؤ عامل تطوان على دفن الجثة، إذ انتابه الهلع من فرضية اتهامه بمساعدة السجين على الفرار، لم يجد بديلا عن مكاتبة البلاط كي يتم تزويده بتعليمات. كان الوقت صيفا والحرارة مفرطة في حصن الاعتقال، لم يكن بالإمكان التوصل بالجواب قبل مرور 11 يوما، وطوال هذه المدة، ظل سي محمد الصغير مغلولا جنب جثة أخيه».
هذه الوقائع ترسخت في ذهن بعض السياسيين، والجيل الذي نريد الحديث عنه في هذا الملف، فتح عينيه عليها.
وزراء وعلماء حاول «جبناء» تدنيس ذكراهم بعد وفاتهم
عندما توفي ابن عرفة في فرنسا، خلال بداية سبعينيات القرن الماضي، شرع بعض قدماء المقاومة في البحث الجاد عن موضع قبره، بعدما سمح الملك الراحل الحسن الثاني للعائلة بنقل جثمانه إلى المغرب.
وصل الخبر إلى عبد الهادي بوطالب، من مدينة فاس، وأخبر الملك الراحل الحسن الثاني الذي أعطى الأمر لكي يتم دفن الجثمان في مقبرة صغيرة دُفن فيها بعض أفراد العائلة العلوية. من أبناء عمومة الملك الراحل محمد الخامس. هذه الواقعة رواها بعض قدماء المندوبية السامية للمقاومة.
لو أن هؤلاء الذين تعقبوا خبر وفاة ابن عرفة، التي لم يشر إليها في وسائل الإعلام في ذلك الوقت، كانوا يفكرون في إحياء عادة قديمة تعود إلى عصر القبلية والصراع، لربما شهدنا في التاريخ الحديث امتدادا لما كان يقع من انتقامات وتشويه لمعالم القبور. وكلما أوغلنا في التاريخ، وجدنا وقائع تجاوزت في عنفها حد الإساءة إلى شاهد القبر، بل وصلت حد إخراج صاحبه ورميه في قارعة الطريق.
عندما كانت هذه الظاهرة منتشرة، وطالت عددا ممن كان يُشهد لهم بالصلاح، كان القصر يعين حراسا على بعض القبور حتى لا تطالها أيادي من كانت لهم حسابات مع أصحابها قيد حياتهم، أو من ضحايا القوانين التي عملوا بها أو أحدثوها. وكان هذا الأمر شائعا بعد وفاة وزراء أعفوا أبناء عائلات مخزنية أو نافذة. كان الثأر ينتظرهم بعد وفاتهم، ليتم التطاول على قبورهم بعد أن عجز أولئك عن مواجهتهم سياسيا قيد حياتهم.
في عهد المولى يوسف، كان صديقه وأحد كبار مستشاريه متهما بالانتقام من بعض الوجوه المخزنية في الرباط ممن كانوا نافذين على عهد والده المولى الحسن الأول. حيث تم التخلص من مقبرة في الرباط، كانت مدفنا لعدد من الشخصيات التي اشتغلت في إدارة الأملاك المخزنية. وفي الوقت الذي كان فيه اعبابو ابن أسرة متواضعة جاء إلى فاس للعمل، كان أولئك الموظفون في قمة مجدهم في السلطة. وقوبلت محاولات اعبابو للتسلق الوظيفي والترقية بالرفض. وهكذا عندما أصبح صديقا للمولى يوسف، أصبح أول مستفيد من وصوله إلى السلطة، ليصبح مستشاره الخاص ومرافقه الدائم. وهكذا انتقم من بعض قدامى موظفي المخزن المخلصين بطمس وجودهم في مقبرة الرباط، وحولها إلى ملك خاص به، قبل أن يصادرها منه محمد الخامس خلال بداية الثلاثينيات، مباشرة بعد وصوله إلى السلطة، حيث اكتشف الملك الراحل أن صديق والده كان يجمع عددا من الملكيات بطريقة غامضة، ولم تمنعه حرمة القبور من تحويل مقبرة إلى أرض مملوكة صالحة للبناء، فوق عظام مسؤولين سابقين في الدولة، ذنبهم الوحيد أنهم لم يمنحوه ترقية قبل أن يصبح صديقا للسلطان.
علماء استنكروا الظاهرة وهؤلاء «أبدعوا» في اللجوء إليها
كان الفقيه والعلامة المختار السوسي من أشد المعارضين لبقايا العُرف القديم، الذي قضى بالانتقام من بعض المسؤولين بعد موتهم.
وبحكم أن العاصمة السياسية للمغرب تأرجحت بين فاس ومراكش، خلال القرنين 18 و19، فإن المدينتين عرفتا هذه الظاهرة، خصوصا فاس التي كان السلطان المولى الحسن الأول يتدخل مرات كثيرة إلى حدود سنة 1894، لكي يوقف عملية انتقام من أحد المعزولين أو موظفي المخزن، الذين كانت لديهم عداوات وحساد بحكم مواقع المسؤولية التي كانوا يشغلونها.
إذا تأملنا السنوات الحرجة من عهد المولى الحسن الأول وعهد ابنه من بعده، أي ما بين سنوات 1880 و1907، نجد أن الذين صنعوا العداوات السياسية هم كالآتي: عائلة الجامعي الذين أصبحوا وزراء في مناصب حساسة، وتقاسموا بريقها في ما بينهم، مما أثار حولهم غيرة عائلات مخزنية أخرى، ثم باحماد الذي انتقل من منصب الحاجب ليصبح «الكل في الكل»، ثم بعده تلميذه المهدي المنبهي الذي كان له أعداء من الوزراء والأعيان، بل ومن إخوة السلطان.
عائلة الجامعي طالها الانتقام، وبطرق بشعة لولا تدخل السلطان شخصيا لوقفها لما انتهت، فقد كان الانتقام من القبور ونبشها أبسط تلك العقوبات التي طالتهم قيد حياتهم أولا.
كان هناك صراع دموي، صحيح أنه لم يصل حد الإخراج من القبور والتنكيل بالجثث، لكنه كان دمويا وعنيفا بين الموالين لباحماد، الوزير القوي الذي كان يقترب ببطء من مظلة الحسن الأول، وبين آل الجامعي وعدد من الأسر الأخرى التي كانت ترى في وجود باحماد في حياة الحسن الأول خطرا داهما يهدد وجودها في الساحة. لم تكن تتقبل كقبائل قوية، أو عائلات عريقة، أن يأتي رجل أسمر كان والده حاجبا، ليرث الحجابة وفوقها القرب من الرجل الأول في الدولة، ويحرمها من امتياز الوقوف في الصف الثاني للسلطة في المغرب، وهكذا سعت خلفه بشتى الوسائل، والكل يعرف أن باحماد لم ينهزم في معركته ونعم بوفاة هادئة، ولم يكن أحد يجرؤ على التنكيل بجثمانه، لأنه ببساطة ترك السلطة أشهرا قبل وفاته لشاب محسوب عليه هو المنبهي.
المنبهي نفسه كان ليموت بطريقة بشعة، لولا أنه اختار طنجة ليعيش فيها أيامه الأخيرة ويحتفظ بعلاقته مع الأجانب، ويعتبر محظوظا لأنه لم يمت في فترة حساسة وإلا لكان مصير جثمانه مأساويا، لأنه كان يمثل امتدادا لباحماد وعدوا لعدد من العائلات، التي وجدت نفسها خارج السلطة لسنوات طويلة بسببه.
هؤلاء الذين ذكرناهم أعلاه، كانوا من أكبر الداعمين للتنكيل بجثامين خصومهم وأعدائهم في السياسة، وكان التدخل الملكي الحازم هو الذي ينهي تلك الممارسات. وربما من سخرية القدر أنهم نعموا بنهايات هادئة، بعيدا جدا عن فاس التي صنعوا رعبها وقصص نبش قبور وزرائها وموظفي المخزن بها. وربما لو قدر لهم أن يموتوا في فاس في الظروف نفسها التي كانوا طرفا في صناعتها، فالأكيد أن استقرارهم في قبورهم سيكون تحديا كبيرا. فقد حكي أن خبر وفاة المهدي المنبهي، بداية عهد السلطان محمد الخامس خلال الثلاثينيات، عندما وصل إلى فاس، وكانت العاصمة السياسية وقتها قد تحولت إلى الرباط، قوبل بالبصق في الأرض، خصوصا في أوساط الأعيان. فبمجرد علمهم أن المهدي المنبهي قد توفي، حتى تعالت أصوات الشامتين فيه، ممن اتهموه بسرقة أموال الفاسيين والهروب بها إلى طنجة. وبقي قبره مجهولا لسنوات طويلة، بحكم أن المنطقة كانت دولية وتسيرها تمثيليات أجنبية في المغرب.
قاض من أهل فاس نُبش قبره مرتين وأحرق جثمانه في الثالثة
يذكر المؤرخ الناصري أن عددا مهما من رجال الدولة من وزراء وقضاة، كانوا قد أقحموا أنفسهم في الصراع حول من يتولى الحكم بعد وفاة المولى الحسن الأول، وكان ثمن هذا التدخل قد كلفهم نهايتهم. إذ إنها، أي النهاية، لم تكن مشابهة للنهاية التي ينعم بها الناس العاديون بعد وفاتهم، وهكذا أصبحت قبور هؤلاء الناس مستهدفة، إلى الحد الذي أوصى معه بعض الوزراء أبناءهم أن يتكلفوا بدفنهم بعد وفاتهم في مقبرة عائلية لا يعلم مكانها أحد. بطبيعة الحال فإن الناصري لم يتعرض لكل هذه التفاصيل، لأنه كتب عن أحداث كثيرة من منظور المؤرخ الرسمي، بالرغم من أنه قدم روايات نادرة ورسم ملامح عدد من الأسماء التي صنعت تاريخ المغرب، لكنه لم يخض في عدد من الأمور التي كان من شأنها أن تعكر صفو العلاقات بين بعض العائلات المخزنية، خصوصا وأن بعض العائلات التي نُبشت قبورها، توجه الاتهام إلى عائلات أخرى يتقلد أبناؤها مناصب في السلطة الجديدة.
قصة أحد القضاة على أيام المولى الحسن الأول، كانت مثيرة للاهتمام، خصوصا أن فاس وقتها لم تكن تعرف توافد الأجانب كما كان عليه الحال أيام ابنه عبد العزيز، وهكذا فقد ضاعت قصته على عدد من الذين كانت تستهويهم قصص مماثلة.
ما وقع أن أحد القضاة، واسمه جعفر وكان محط رعاية من المولى الحسن الأول شخصيا، ما بين سنوات 1880 و1885، وكان بعض رجال الدولة معترضين على اعتماده قاضيا، لأنه لم يكن ينحدر من العائلات التي وزعت عليها مناصب القضاء في فترة من الفترات، وهكذا فقد اعترض بعض المكناسيين على إرسال قاض مغمور إليهم، وكأن الدولة لم تكن تولي لهم أي اهتمام، خصوصا أن القاضي الجديد لم يكن يقيم وزنا لأعيان مناطق مكناس وكان يجعل الجميع متساوين أمامه أثناء عرض النزاعات عليه، وهكذا فقد كان الكثيرون يكنون له عداء مبالغا فيه. وبقي العداء قائما إلى أن مات أيام المولى عبد الحفيظ، سنة 1907، وجيء به في أيامه الأخيرة إلى قرية نائية في نواحي فاس، حيث كان أجداده مدفونين في المقبرة الصغيرة للقرية. كان ينتظر الوفاة هناك وأوصى أولاده بدفنه قرب أجداده، لكن ما كان ينتظره بعد وفاته كان أسوأ من أن تتحمله القرية، حتى أن أبناءه هربوا في اتجاه طنجة. وتقول بعض المصادر التاريخية إنهم أقاموا في طنجة ولم يغادروها بعد وفاة والدهم، خوفا من أن يكون مصيرهم مشابها لمصير والدهم القاضي السابق، لأن الانتقام كان يمتد إلى الأبناء أيضا.
عندما دُفن هذا القاضي في قريته النائية شمال فاس، جاء بعض الذين حضروا الجنازة، وكانت الأنظار موجهة إليهم لأن منظرهم كان غريبا ولم يكونوا من معارف القاضي الذين كانوا يزورونه عندما اعتزل القضاء في نواحي مكناس، وحتى أبناء القاضي لم يتعرفوا عليهم. المفاجأة كانت بعد انتهاء مراسيم الدفن بساعات، إذ إن بعض الرعاة جاؤوا مسرعين في اتجاه القرية ليخبروا أبناء الفقيد أن والدهم ملقى بكفنه على قارعة الطريق المؤدية إلى المقبرة، وأن بعض الملثمين هم الذين أخرجوه من قبره ليرمى بتلك الطريقة، وهكذا هبت القرية مسرعة لتعيد القاضي إلى قبره، وظنوا أن الأمر انتهى عند ذلك الحد. في صباح اليوم الموالي استيقظ أبناء القاضي الراحل على صوت النواح والعويل، بعد أن اكتشفت نساء في طريقهن لجلب الحطب جثمان القاضي ملقى على حافة الطريق المؤدية إلى منزل العائلة، وكان واضحا أن الذين أقدموا على الأمر كرروه مرة أخرى. وبعدما قام أبناء القاضي بحراسة قبر والدهم لأيام، أخرج جثمانه ليُحرق إلى أن تفحم على قارعة الطريق بمجرد ما تخلى الأبناء عن الحراسة، بعد أن ظنوا أن المتربصين بقبر والدهم قد استسلموا. لكن النهاية كشفت عكس ذلك.
هذه القصة تزكيها بعض مراجع أخبار أهل فاس، رغم أن اسم القاضي كان موضوع خلاف، وهو ما يؤكد أن بعض القضاة والوزراء وخدام الدولة الذين كانوا مخلصين في عملهم، كانوا يتعرضون لهذا النوع من الاعتداءات على قبورهم. هذه الاعتداءات طبعا كان يحركها «العمى» والحسد، وكان يقف وراءها موظفون مخزنيون ووزراء منافسون ممن لم يصلوا إلى تلك المكانة، تماما كما في هذه القصة.
القصة الحقيقية للاعتداء على قبر الوزير عبد الكريم بن سليمان
نقلتها صحيفة «التايمز» سنة 1907:
لم يكن هناك أي اختلاف حول نزاهة عبد الكريم بن سليمان وتعففه عن المناصب والامتيازات الطائلة التي راكمها غيره. حتى أنه بعد وفاة المولى الحسن الأول الذي اشتغل لديه وزيرا للخارجية وبقي إلى عهد ابنه المولى عبد العزيز، أي ما بين سنوات 1894 و1906 تقريبا، فضل الابتعاد عن فاس بعد أن تحولت إلى حلبة صراع، بل ومذابح سياسية بين الموالين لأبناء المولى الحسن الأول مباشرة بعد وفاته.
لكن ابتعاد الوزير عبد الكريم بن سليمان عن الحياة السياسية لم يُبقه بعيدا عن أيادي الانتقام، التي تطاولت عليه بعد وفاته، سيما وأنه قيد حياته لم يكن ممكنا الوصول إليه، نظرا للمكانة الكبيرة التي حظي بها لدى القصر ولدى رجال الدولة. فقد كانت أسرته واحدة من الأسر القليلة التي راكمت تاريخا محترما في خدمة الدولة، منذ عهد المولى إسماعيل، أي قبل 400 سنة تقريبا.
مراسل صحيفة «التايمز» في فاس سنة 1907، الذي جمع مقالاته عن فترة إقامته ما بين فاس وطنجة في مذكرات بعنوان «خلف الكواليس مع المولى عبد الحفيظ»، تعرض لهذه الواقعة، ونقلها إلى القراء في لندن لكي يتابعوا تفاصيل حدث اهتز له المغرب في ذلك التاريخ، رغم أن نبش القبور كان شائعا. لكن الفاسيين لم يتوقعوا أن يكون الوزير المتقاعد عبد الكريم بن سليمان واحدا من ضحاياه.
يقول: «سي عبد الكريم بن سليمان، وزير الخارجية على عهد المولى عبد العزيز، تلقى دعوة من السلطان مولاي عبد الحفيظ كي يأتي إلى فاس، وينتظر قدومه كل يوم.
كانت له حظوة كبيرة عند الفاسيين، وخرجت مع الجماعة التي خرجت لاستقباله عند وصوله إلى فاس. عندما وصل، استقبله السلطان بشرف كبير، وكانت فاس كلها مسرورة لقدومه. لم أر في حياتي رجلا أكثر سحرا منه. ثلاثة أيام بعد قدومه، أعلن موته بطريقة غامضة. ارتعدت مرعوبا لهذا الخبر المفجع الذي انتشر في فاس. وانتشرت الإشاعات من كل جانب، لعبة قذرة أودت بحياته، والغضب العارم الذي لاحق جسده يؤكد تلك الشبهات.
لم تمض أربع وعشرون ساعة على دفن جسد الرجل المسن، حتى تم نبش القبر وأزيل رأسه ورمي للكلاب. ذهل الجميع لهذا التدنيس لقدسية الموت، كل من قطع أوصال جسد مسلم لا يمكن أن يدخل الجنة بكل حال».
انتهت القصة بترميم قبر وزير الخارجية، وتناقل الفاسيون أخبارا عن انتقام مخزنيين منه بسبب حساب قديم يعود إلى أيام اشتغاله في الوزارة إلى جانب المولى الحسن الأول، حيث عارض بعض التعيينات وبقي المعنيون بها ينتظرون وفاته لكي ينتقموا منه. وحسب المصدر نفسه، فإن تلك العقوبة كانت شائعة جدا في تلك الفترة الحرجة من التاريخ، التي حل بها في فاس لنقل أخبارها إلى العالم. حيث يعتبر هذا الصحافي، لاورنس هاريس، أول من حاور السلطان المولى عبد الحفيظ بعد وصوله إلى السلطة بأيام، وقد يكون ذلك الحوار أول حوار مع سلطان علوي في التاريخ، إذا استثنينا المقابلات المقتضبة التي أجريت مع المولى عبد العزيز بعد 1894.
سنة 1798.. القصر يحرس قبر جابي ضرائب تسبب في إفلاس خارجين عن القانون
سيرة هذا الرجل تستحق فعلا أن تُروى، وننقلها هنا لأول مرة. اسمه أحمد الغيلاسي الرومي، كان موظفا بسيطا في الأملاك المخزنية، وعين على عهد السلطان مولاي سليمان موظفا في دار المخزن مكلفا بسجلات الضرائب.
هذا الموظف المخزني لاحظ أن بعض التجار من أعيان مدن فاس والجديدة والصويرة، وبينهم يهود مغاربة لم يكونوا يؤدون كل ما في ذمتهم من ضرائب، وكتب تقاريره في الأمر، وكان المؤرخ عبد الكريم الفيلالي الذي توفي سنة 2013، قد أثار بعض الوثائق المخزنية في الموضوع والتي توثق لتاريخ التهرب الضريبي في المغرب، وكان الفيلالي قد وصل إلى تلك الوثائق عندما كلفه الملك الراحل محمد الخامس سنة 1956 بترتيب أرشيف القصر الملكي وبعض الإدارات المخزنية، التي تم نقل وثائق لها من فاس إلى الرباط. وحسب الراحل عبد الكريم الفيلالي، فإن بعض تلك الوثائق اختفت بسبب إهمال سابق أو تعرض بعضها للتلف، لكن ما بقي منها كان فعلا مرجعا تاريخيا لا ثمن له.
انتبه جابي الضرائب إلى تلك الاختلالات وعندما رفع تقاريره بشأنها، كان المولى سليمان قد بدأ سياسة استخلاص ضرائب الدولة ممن كانوا مدينين لها، وكان من بينهم نافذون مغاربة وعائلات مخزنية عريقة ألفوا البقاء «فوق القانون». لكن الإصلاحات الضريبية التي فرضها المولى سليمان جعلت تلك التقارير موضوع حملة كبيرة، سطع خلالها نجم أحمد الغيلاسي الرومي. ولا أحد يعرف السر وراء إطلاق لقب الرومي عليه.
بالمقابل، كان ذلك النجاح الإداري، والمتمثل في رصد اختلالات في سجلات تسديد العائلات الثرية من التجار والأعيان لضرائبهم، مصدرا للمتاعب.
إذ إن بعض الأعيان لم يستوعبوا أن يصدر السلطان مولاي سليمان مرسوما خاصا يفرض عليهم فيه أداء ما في ذمتهم للمخزن بشكل مستعجل دون تأخير، خصوصا وأن التقارير المرفوعة إليه رصدت أرباحا كبيرة من التجارة دون أداء الضرائب عليها، وهو ما كان يعني أنهم لم يكونوا أبدا يمرون بصعوبات مادية.
تسبب هذا الأمر بعد وفاة المولى سليمان سنة 1822، في مشاكل كبيرة لهذا الموظف المخزني الذي تقاعد مبكرا. حيث إنه استقر في مدينة مراكش التي كانت إقامة دائمة لبعض أبناء سلاطين الدولة، وكان يستقر بها عدد من الأعيان أيضا.
فور وصول خبر وفاة الموظف بعد وفاة المولى سليمان بفترة قصيرة، حتى كلف بعض أعيان فاس من التجار الأثرياء، عصابة من قطاع الطرق لكي يذهبوا إلى مراكش ويسألوا عن قبر الموظف المخزني المتوفى، ويهدموا قبره. ما وقع أن القبر هدم فعلا وترك مخربا، ليجده أهل مراكش من جيران المقابر القديمة بالمدينة، بتلك الصورة. وكان وقتها حاكم مدينة مراكش من المقربين للسلطان، وكتب رسالة اشتكى فيها للسلطان ما وقع، وعرفه بهوية صاحب القبر المعتدى عليه. فما كان من السلطان مولاي عبد الرحمان إلا أن أرسل فريقا من الحراس المخزنيين لحراسة المقبرة لفترة إلى أن نُسي الموضوع. إذ إن المعلومات التي وصلت إلى المولى عبد الرحمان، جعلته يوقن أن الأمر يتعلق بانتقام قديم يعود إلى فترة والده، خصوصا وأن فاس كانت قد تمردت على المولى سليمان في الوقت نفسه الذي شهدت فيه مدينة تطوان أيضا عصيانا كبيرا بسبب سياسة الدولة وقتها، حيث إن المولى سليمان لم يكن يتساهل في الضرائب وفي الاعتداء على اليهود المغاربة، الذين كانوا يلقبونه بالسلطان العادل، لأنه أعادهم إلى الملاح في أمان، بعد أن كانت تسجل اعتداءات كثيرة ضدهم من طرف متعصبين.