تاريخ.. هكذا حاربت الدولة مستغلي الكوارث لمراكمة الأموال
مع تيلي ماروك
«الذين يعرفون المغاربة جيدا، يُدركون إلى أي حد اختبروا المحن هم وأجدادهم. وفي كل نائبة من نوائب الدهر، كان يتم إحداث سياسة ما لاحتواء الكارثة. لكن بعض هواة اصطياد الأموال «السهلة» كانوا يتربصون بكل ما يتحرك من دعم. في هذا الملف سنرصد أكبر عمليات محاولات اخلاس الأموال من وراء الأزمات التي عرفها المغرب ونحاول البحث أيضا عن أصلها في التاريخ.
كان معروفا خلال بداية الستينات أن المغرب كان دولة في طور التأسيس الإداري مباشرة بعد الاستقلال. وفي هذا السياق، كانت الدولة المغربية تستفيد من برامج تمويلية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وأخرى يقودها الاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى برامج أخرى إنسانية تقودها الأمم المتحدة. كانت مصادر التمويل والتموين أيضا مختلفة، وكلها تصب في خزينة ومخازن الدولة ليتم تدبير احتياجات البلاد من خلالها.
اتُهم «الفديك» (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) الذي كان يتزعمه رضا اكديرة باستعمال مواد غذائية كانت مخزنة لكي تستفيد منها الأسر المغربية، لكنها بقيت مخزنة إلى حين الحملة الانتخابية حيث وزعت بإشراف من اكديرة باستعمال سيارات وزارة الداخلية، حيث كان يحث موزعوها المواطنين على التصويت للفديك في الانتخابات.
لن نُعدم أمثلة في هذا الباب، لكن المهم في هذا الملف، هو كيف كانت الدولة تتصدى فعلا لكل الذين كانوا يحاولون الاتجار في الأزمات الاجتماعية والإنسانية التي مست المغاربة».
تجار الدقيق الذين ضربت الداخلية على أيديهم قبل أزمات الجفاف
حسب أرشيف مراسلات السفارة الأمريكية في الرباط فإن إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق، قام سنة 1983 بتكليف موظفين من ديوانه بتتبع أمر التلاعب في أسعار الدقيق على إثر تكليف مباشر من الملك الراحل الحسن الثاني. الصحافة المغربية، حسب ما أشارت إليه وثيقة السفارة، تناولت الموضوع من زاوية ندوة أقامها إدريس البصري واستدعى إليها وسائل إعلام رسمية وقام بالتأكيد على أن وزارته تقوم بالواجب، وأن مادة الدقيق متوفرة بالشكل الكافي وأنه شخصيا لم يسمح بالمضاربات في أسعارها ولا بتجاوز القانون في تحديد لوائح المستفيدين.
تقول الوثيقة المرقمة بـ152BNCK، والتي صُنفت بسري للغاية، إن الأمر تجاوز الندوة الصحافية، وأن إدريس البصري قام بعدة اتصالات بجميع العمال على الأقاليم في تلك السنة وأمرهم بأن يكونوا صارمين مع جميع مراكز التوزيع لمادة الدقيق على المواطنين حتى لا تكون هناك أي تلاعبات في العملية.
لكن المحير أن بعض المسؤولين كانوا يستغلون الكواليس لعقد اتفاقات مع المستثمرين الكبار وأصحاب المخازن الكبرى الذين كانت تنسق معهم مصالح الداخلية وتمنحهم رخص تخزين واستيراد وبيع مادة القمح، لعقد صفقات في الظل أثرت سلبا على سير تلك الإجراءات. وهو ما جعل الملك الحسن الثاني، بعد اتصال بالسفير الأمريكي بشكل شخصي، لبحث موضوع مساعدات أمريكية لتجاوز أزمة الجفاف الخانقة التي أثرت سلبا بشكل كبير على المحصول الفلاحي في المغرب، يقرر أن يشدد المراقبة لضبط الأمور حتى لا يتم التلاعب بتلك المساعدات أو تعديل أسعار المخزون الذي كان متوفرا قبل وصول المساعدات الأمريكية.
كان إدريس البصري غاضبا مما كان يُكتب في الصحافة عن أزمة الدقيق، حسب ما أورده الإعلامي الراحل عبد الرحمن عشور في مذكراته، وقام باستدعاء الصحافيين ذات صباح إلى مكتبه وأخذ يخطب فيهم متوعدا وغاضبا تارة، وبنبرة معتدلة تارة أخرى، مؤكدا أن مقالاتهم حول التلاعبات بأسعار الدقيق والمخزون الذي تتوفر عليه الدولة، من شأنها خلق موجة رعب شعبية وقلق عارم في أوساط المغاربة، ودعا أولئك الصحافيين إلى عدم كتابة مقالات مماثلة في الموضوع.
كانت تلك طريقة إدريس البصري في احتواء الأزمة لأنه كان يعلم ربما أن الأمريكيين كانوا يتابعون الموضوع عن كثب وأن المساعدات التي كانت في طريقها إلى المغرب لن تأتي بشكل اعتباطي، خصوصا وأن الأمريكيين كانوا يدرسون الميدان جيدا قبل تحديد قيمة المساعدات التي تصرفها للدول الصديقة.
الأكثر من هذا أن وزارة الداخلية كانت تتوصل بتقارير مفصلة من العمالات عن احتياجات الأقاليم من مادة الدقيق بشكل دقيق. هذه التقارير كانت بالنسبة لإدريس البصري مفتاح الأمان، خصوصا وأن تهديد غلاء المعيشة من شأنه أن يجعله من جديد في مواجهة مع النقابات.
وهو ما حدث في مناسبات كثيرة، تأججت خلالها الخلافات بين إدريس البصري والمحجوب بن الصديق ونوبير الأموي، حيث إن بعض الاجتماعات بين الداخلية وممثلي المركزيات النقابية تحولت إلى معارك لتبادل الاتهامات وتهديدات بالإضرابات وشل الاقتصاد، وهو ما كان يتصدى له إدريس البصري بطريقته الخاصة.
هذا الواقع جعل الداخلية تشدد على ضرورة الحفاظ على استقرار أسعار المواد الأساسية وعلى رأسها الدقيق حتى لا تحدث إضرابات.
زلزال أكادير.. اتهامات غامضة لرجال أعمال بتكوين ثرواتهم من الأنقاض
من بين النقاط الغامضة للكوارث الإنسانية التي مرت على المغرب والتي تجاوزت خطورتها نوبات الجفاف وانعدام الأمطار وتضرر الموسم الفلاحي، نجد زلزال أكادير المدمر. هذه الواقعة التي مرت عليها الآن ستون سنة كاملة، جعلت من آخر أيام فبراير 1960، والذي استوفى 29 يوما في تلك السنة، حدثا لا يمكن أن يُمحى من التاريخ المغربي.
الغموض هنا يتجلى في ما تلا الزلزال المدمر من تحركات لإعادة إعمار المدينة. وحسب مؤرخين محليين وفاعلين جمعويين نشطوا في عملية الإعمار التي استمرت لسنوات، فإن غموضا كبيرا لف ظهور رجال أعمال جدد في المنطقة كانت ثروتهم محط تساؤلات كبيرة.
ورغم أن الملك الراحل محمد الخامس والذي زار المدينة مباشرة بعد الكارثة أكد على ضرورة تسريع عملية الإعمار والضرب على يد الذين تم اعتقالهم متلبسين بسرقة المنازل والمحلات التجارية وعدم التساهل معهم حتى لا يتم تشجيع السرقات، إلا أن سرقات كبيرة وقعت في تلك الظرفية الدقيقة من تاريخ المدينة، واتُهم بعض رجال الأعمال الذين ظهروا واختفوا بسرعة بكونهم قد استغلوا الارتباك في الليلة الأولى للزلزال قبل وصول وحدات الجيش لحراسة المدينة، وقاموا بتهريب محتويات سوق المدينة، خصوصا «قيسارية» الذهب التي كان يملك دكاكينها سوسيون أثرياء هاجروا لاحقا إلى الدار البيضاء.
حاول بعض الأكاديميين الذين تحدثت إليهم «الأخبار» التدقيق في هذه الظرفية التاريخية، لكن غياب الأرشيف وشيوع الرواية الشفهية فقط، في غياب أي دليل مادي على مأساة العائلات المغربية التي فقدت تجارتها واختفت أموالها في ظروف غامضة بعد الزلزال، كلها عوامل جعلت أمر التدقيق في شريحة الأثرياء الجدد أمرا شبه مستحيل. لكن واقع الحال رغم ذلك يؤكد أن هناك «تجار للأزمات» انتعشوا خلال تلك الكارثة الإنسانية.
كانت الدولة تضرب بيد من حديد في مرات كثيرة لردع مثل هذه التصرفات. تلاعبات الأسعار واستغلال الحاجة إلى مواد بعينها، والاحتكار الذي عرفته السوق الداخلية خلال محطات كثيرة من محطات الجفاف، كلها وقائع تؤكد أن «داء العطب قديم» كما يقال.
يقال أيضا إن أقدم صفقة مغربية للتجارة، بالمعنى المتعارف عليه للصفقة، كانت خلال القرن الثامن عشر بين الدولة المغربية والإمبراطورية البريطانية التي كانت فعلا لا تغرب عنها الشمس. خلال إبرام الاتفاق التجاري الخاص بالاستيراد الحصري من المغرب لبعض المواد الأولية، كان تجار مغاربة مقربون من القصر وقتها، يحاولون البحث عن طريق سالك يفضي إلى صداقة المسؤول البريطاني المكلف بتلك الاتفاقية. وقد كان موظف بريطاني آخر، أصبح مغربيا لكثرة مقامه في المغرب وهو السيد «ريموندهاي» هو المكلف بالوساطة بين المغرب والمسؤول المكلف بالاتفاقية. ولم يخف له أن هناك رغبات من تجار مغاربة كبار لكي يدفعوا له في الخفاء لكي يستفيدوا من «مطر» تلك الصفقة. لكن القصر قطع الطريق أمام الجميع، وحافظ على مصداقية الاتفاق مع مملكة بريطانيا بعيدا عن احتكارات التجار وصفقات الكواليس. وربما تكون هذه أول واقعة في تاريخ المغرب كان ينوي من خلالها «تجار الأزمات» التدرب على هذه الممارسات في عصر «الإدارة».
مساعدات دولية بملايين الدولارات للمغرب اختفت مباشرة بعد انتخابات 1963
كانت المعارضة المغربية، ممثلة أساسا بالمهدي بن بركة، تكتب مقالات تتهم فيها بعض الوجوه المعروفة في الدولة، باختلاس أموال بالعملة الصعبة واستعمال أموال أخرى لتمويل الحملات الانتخابية لمحسوبين على وزير الداخلية وقتها أحمد رضا اكديرة الذي كان على رأس جبهة «الفديك».
بعض الأعيان المغاربة سارعوا إلى الالتحاق بحزب اكديرة لضمان مقاعد في البرلمان المغربي الذي كان بصدد التأسيس، وهكذا ازدادت حدة الاتهامات التي وجهتها المعارضة إلى وزير الداخلية شخصيا بشأن نزاهة الانتخابات التي أشرف عليها وشارك فيها «مستعملا موارد الدولة لحسمها لصالح حزبه». هذا الاتهام الذي كُتب في صحافة الاتحاديين وبعض المنشورات الأخرى الدورية التي كان يشرف عليها المهدي بن بركة ومحمد الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، كان مزلزلا، وكشف أن بعض المسؤولين الذين كانوا يحتمون بمظلة رضا اكديرة، رجل الدولة القوي، قاموا باختلاس موارد الدولة لتمويل حملاتهم الانتخابية بأنفسهم وخطف الأصوات من الاتحاديين الذين كانوا يتمتعون بشعبية كبيرة خصوصا في المناطق التي تتوفر على قواعد كبيرة من العمال في المصانع وقدماء المقاومة الذين ساهم جلهم في تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومولوه بعد مغادرتهم «ساخطين» لحزب الاستقلال.
أما مسألة المساعدات، فقد كان معروفا خلال بداية الستينات أن المغرب كان دولة في طور التأسيس الإداري مباشرة بعد الاستقلال. وفي هذا السياق، كانت الدولة المغربية تستفيد من برامج تمويلية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وأخرى يقودها الاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى برامج أخرى إنسانية تقودها الأمم المتحدة. كانت مصادر التمويل والتموين أيضا مختلفة، وكلها تصب في خزينة ومخازن الدولة ليتم تدبير احتياجات البلاد من خلالها.
اتُهم «الفديك» (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) الذي كان يتزعمه رضا اكديرة باستعمال مواد غذائية كانت مخزنة لكي تستفيد منها الأسر المغربية، لكنها بقيت مخزنة إلى حين الحملة الانتخابية حيث وزعت بإشراف من اكديرة باستعمال سيارات وزارة الداخلية، حيث كان يحث موزعوها المواطنين على التصويت للفديك في الانتخابات. وهذا الأمر لم يمر مرور الكرام وحاول الاتحاديون فضحه بتعليمات من المهدي بن بركة الذي طعن في انتخابات 1963 وغادر المغرب بعد أن استشعر خطر مؤامرة يوليوز من نفس السنة حتى لا يتم اعتقاله مع من اعتُقل لاحقا من الاتحاديين.
كان ما وقع فضيحة بكل المقاييس. إذ أن بعض أعوان الداخلية في ذلك التاريخ، أصبحوا موضوع هجوم من المعارضة بعد تأسيس البرلمان في نفس السنة، حتى أن النواب الاتحاديين الذين نجحوا في الفوز بمقاعد في النسخة الأولى للبرلمان المغربي لم يكونوا يترددون في تحريك موضوع اختلاس المساعدات الدولية للمغرب وتوظيفها انتخابيا وتساءلوا في جلسات بُثت على الهواء، عن مصير ملايين الدولارات التي كانت مخصصة لمساعدة المغرب، فإذا بها تختفي نهائيا.
تجار استغلوا الاستعمار والحرب سنة 1943 وتاجروا بـ «جوع» المغاربة
بعد الحرب العالمية الثانية، اغتنت مجموعات من التجار الصغار المغاربة بعد احتكاكهم بمحيط القاعدة العسكرية الأمريكية في مدينة القنيطرة.
هؤلاء التجار، الذين كانوا إلى حدود سنة 1943 يعتبرون غير مؤثرين نهائيا في اقتصاد المغرب، وجلهم كانوا من صغار المتاجرين في المواد الغذائية، أعلنوا إفلاسهم في خضم أزمة «البون» عندما كانت الأسواق المغربية تعاني من غياب جميع المواد الأساسية.
بعض هؤلاء الذين أعلنوا إفلاسهم في أزمة «عام البون»، تحولوا بقدرة قادر إلى تجار أثرياء بمجرد ما توسعت أنشطة القاعدة الأمريكية. اتُهم بعضهم بالاتجار في السلاح، خصوصا منهم الذين انضموا إلى المقاومة، ووجهت لهم التهمة رسميا خلال اعتقالات يوليوز 1963، لكن حقيقة مراكمتهم للمال جاءت من خلال الاتجار في البضائع الأمريكية.
هذه التجارة كانت بطبيعة الحال غير قانونية، بحكم أن بعض الضباط الأمريكيين الذين كانوا مكلفين بالمؤونة في القاعدة، ربطوا علاقات مع صغار التجار وكانوا يفوتون لهم كميات من السلع الأمريكية التي تتراوح بين الملابس والمواد الغذائية بالإضافة إلى بعض الأغراض التي كانت تفيض عن حاجة الجنود وموظفي القاعدة، ويُضارب فيها أولئك التجار.
في غضون سنوات قليلة، ظهرت طبقة جديدة لهؤلاء الأثرياء الذين كانوا يُسمون أثرياء الحرب.
وقد كان الملك الراحل محمد الخامس قد توصل مرات كثيرة بمعلومات عن هؤلاء الأعيان الجدد الذين اشتروا عقارات كثيرة في محيط القنيطرة، وظلوا بعيدين عن الرباط، وبعضهم اتُهم من طرف الإدارة الفرنسية في المغرب بتزويد الخلايا السرية للمقاومة بالسلاح.
وهذه التهمة الثقيلة جرت بعضهم إلى المحاكمة كما وقع في أبريل 1954، عندما مثل أمام القاضي أزيد من 8 أثرياء من منطقة الغرب، اتُهموا بالتجارة في السلاح وتزويد المقاومين به سرا، وحُكم عليهم بالإعدام، لكن الحكم لم يُنفذ وظلوا في السجن العسكري إلى أن صدر عفو من المقيم العام في حقهم، ونجا 6 منهم من تنفيذ الحكم، خصوصا وأن محاميهم استغل نقطة تضارب أقوال الشهود بشأن أوصاف بعضهم وحاول إقناع القاضي بأنهم لم تكن لهم أية علاقة بالمقاومين.
وفعلا، كان جل هؤلاء التجار منقطعين تماما عن الحياة السياسية رغم أنهم راكموا الثروة، وبلغت تعاملاتهم المالية، غير النظامية طبعا، ملايين الفرنكات الفرنسية. بل وحاولوا البقاء بعيدا عن ربط أي علاقات مع المقاومة، رغم أن المقاوم الراحل مومن الديوري، الذي كانت تربطه علاقات قوية بموظفي القاعدة العسكرية الأمريكية، حاول ربط اتصال معهم قصد تمويل المقاومة قبل الاستقلال، لكن مساعيه باءت بالفشل، واعترف بنفسه أثناء اعتقالات يوليوز 1963، أنه حاول فعلا في إطار أنشطة المقاومة، البحث عن تمويل أو تبرعات مالية من هؤلاء الأثرياء الجدد الذين ظهروا في منطقة الغرب خلال بداية الخمسينيات، لكن لم يصل معهم إلى أية نتيجة. وصك الاتهام الذي وُجه له في مؤامرة يوليوز بعد الاستقلال بسبع سنوات كان واضحا بخصوص تلك العلاقة، فقد اتهم بالتعامل مع بعض قدماء المقاومة لاقتناء أسلحة من القاعدة الأمريكية في القنيطرة، لتنفيذ عمليات مسلحة واغتيالات. وهو ما أنكره مومن الديوري جملة وتفصيلا.
وبعض أولئك التجار، اتُهموا بمراكمة جزء مهم من ثروتهم «المشبوهة» ليس فقط بالاتجار في المواد الغذائية الأمريكية، وإنما في السلاح الأمريكي أيضا، وهو ما جعلهم بعيدين عن الحياة السياسية التي كان يلجها الأعيان بكثرة. وأكبر دليل على ورطة المتعاملين مع الأمريكيين، هي فضيحة زيوت مكناس المسمومة، التي انفجرت بعد تورط أثرياء وأعيان مغاربة في فضيحة شراء زيت المحركات من القاعدة الجوية الأمريكية وبيعها لاحقا في الأسواق على أنها زيت طعام صالحة للاستهلاك. وحسب بعض التقارير التي تناولت الموضوع، فإن أولئك التجار راكموا أرباحا طائلة جراء تلك العملية التي قادت البلاد إلى فضيحة أخلاقية كبيرة كتبت عنها الصحافة العالمية سنة 1956.
القصر توعّد بمعاقبة المُتاجرين بلوائح الفلاحين المغاربة المُعارين للعراق
في بداية ثمانينات القرن الماضي، كان مستشار للرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، قد زار المغرب، والتقى بالملك الراحل الحسن الثاني والمستشار عبد الهادي بوطالب، الذي زار بدوره العراق في نفس السياق والتقى صدام حسين، لبحث موضوع نقل الخبرة المغربية في المجال الفلاحي والزراعي، إلى العراق. وهي العملية التي تمت في بداية ثمانينات القرن الماضي بالضبط. وقد وعد الملك الحسن الثاني باختيار فلاحين مغاربة ممن لديهم خبرات في ممارسة الزراعة في ظروف صحراوية شبيهة بظروف المناخ العراقي.
كانت هذه الصفقة، حسب بعض أعوان إدريس البصري في الداخلية، فرصة مناسبة لتحريك ناعورة اقتصاد في الظل يكون مصدره الأساس هو الأموال التي يدفعها الراغبون في التسجيل للمسؤولين عن اللائحة. لكن المستشار الملكي أحمد رضا اكديرة، كما تنص عليه المراسلة دائما (من أرشيف مراسلات السفارة الأمريكية)، أبلغ الملك الحسن الثاني فورا بأن بعض الذين عينهم إدريس البصري مباشرة بعد انتخابات 1979 في أقسام وزارتي الداخلية، ثم المالية، قد بدؤوا يحصلون من صغار الفلاحين على رشاو متفاوتة القيمة لكي يُسجلوا أسماءهم ضمن المستفيدين.
أصبح الملك الحسن الثاني على علم بالموضوع إذن. لكن المثير أن بعض الصحف التي تابعت الموضوع مثل جريدتي العلم والاتحاد الاشتراكي، رصدتا أن هناك تجاوبا كبيرا مع اللائحة في الأقاليم الجنوبية الشرقية، وهو ما أغضب إدريس البصري الذي كان يُحاول أن يثبت العكس. وحسب الوثيقة دائما، فإن وزير الداخلية كذب ما جاء في هذه الصحف وأخبر الملك الحسن الثاني شفهيا أن المشروع مهدد بالفشل ما لم تقم الداخلية بتعبئة الفلاحين والقيام بحملات ميدانية لإقناع بعضهم على المشاركة.
انتهى مضمون الوثيقة عند هذه النقطة بالذات، لكن واقع الحال، بالعودة إلى تلك القصة، يؤكد أن مغاربة كثر رغبوا في الاستفادة من الاتفاق المغربي العراقي، وقد كتب بعض قدماء العائدين المغاربة من العراق، والذين طُردوا أثناء حرب الخليج، أشهرا فقط قبل أن يُتموا عشر سنوات من الاشتغال لتتحول الأراضي العراقية التي مُنحت لهم لممارسة الزراعة إلى ملكيتهم كما نص الاتفاق بين الملك الحسن الثاني وصدام حسين. لكن الحرب غيرت كل شيء واضطر هؤلاء الفلاحون إلى الهروب والنجاة بحياتهم تاركين خلفهم كل شيء. وفي إحدى المجموعات الخاصة بهؤلاء العائدين في مواقع التواصل الاجتماعي، كتب بعضهم بحسرة عن المعاناة التي عاشوها مقابل الذهاب إلى العراق لممارسة الفلاحة في إطار المشروع بين المغرب ووزارة الزراعة العراقية، وأكدوا في عدد من الشهادات المكتوبة، أنهم اضطروا إلى التضحية بقطع أرضية في المغرب قاموا ببيعها لكي يتمكنوا من دفع أموال لبعض المسؤولين القدامى لكي يضمنوا إلحاقهم باللائحة. وأن أحد المسؤولين في الجنوب الشرقي استطاع أن يتحول من موظف بسيط إلى رجل أعمال كبير مباشرة بعد تلك الصفقة. تم كل هذا رغم أن الملك الحسن الثاني كان قد شدد على المسؤولين الكبار لديه، حتى يُمكنوا الفلاحين الذين توفرت فيهم الشروط من الاستفادة، بدون تعقيدات.
الأحزاب تراشقت اتهامات بخلق «أثرياء» جدد من وراء صندوق دعم فلسطين
كتب المؤرخ المغربي الراحل، والمثير للجدل، الدكتور عبد الكريم الفيلالي في موسوعته تاريخ المغرب، أن صندوق دعم فلسطين الذي تم تأسيسه خلال تسعينات القرن الماضي، قسّم الأحزاب المغربية وقتها وجعل بعض قياداتها تتهم أخرى بنهب أموال صندوق دعم فلسطين الذي دعا الملك الحسن الثاني الجميع إلى التبرع من خلاله للفلسطينيين الذين كانوا يعيشون أوضاعا صعبة بسبب الحصار الإسرائيلي في غزة.
كان ياسر عرفات يعتمد بشكل أساسي على مساعدات الملك الراحل الحسن الثاني للفلسطينيين، وقد صرح للإعلام الدولي مباشرة بعد تأسيس الصندوق أنه غاية في السعادة والامتنان للملك الحسن الثاني على تلك الخطوة.
لكن تلك الفرحة في الحقيقة لم يُكتب لها أن تكون مكتملة وتامة بسبب بعض الصعوبات التي رافقت إحداث الصندوق على أرض الواقع. فقد كانت القطاعات التي دفعت تبرعات سخية ساهم فيها الموظفون من أجورهم باقتطاعات شهرية بالإضافة إلى مبالغ أخرى دفعتها شركات ومؤسسات عمومية لصالح الصندوق، قلقة بشأن بعض «الإشاعات» التي كان يلوكها جلساء صالونات الرباط بخصوص اهتمام بعض المسؤولين النافذين بذلك الصندوق.
وهو ما جعل صحيفة «العلم»، كما جاء في مذكرات المؤرخ عبد الكريم الفيلالي، تكيل اتهامات لخصوم الحزب السياسيين باختلاس أموال صندوق دعم الشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذي أحدث زلزالا حقيقيا في الأوساط السياسية، حتى أن الدكتور الخطيب، الذي كان مقربا جدا من الملك الحسن الثاني وأحد الأصدقاء الكبار للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، قد نال نصيبه من تلك الاتهامات التي كان محركها الأساس في الحقيقة هو تصفية الخلافات الانتخابية.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى محاولة إدريس البصري تحويل تقارير الداخلية إلى أداة لتصفية حساباته مع بعض خصومه ممن يحاولون قلب الطاولة عليه في الأجواء السياسية العصيبة خلال التسعينات. هذه التقارير، حسب الدكتور عبد الكريم الفيلالي، كانت تقول إن بعض مدراء مؤسسات عمومية قاموا بمواقف غير مفهومة ولم يدققوا من مسؤولي الحسابات لديهم بشأن التبرعات التي قام بها موظفو تلك القطاعات من أجورهم، والتي بُرمجت لكي تُقتطع مباشرة من الأجور وتُوجه مباشرة إلى الحساب البنكي لصندوق دعم فلسطين. وهو ما كان يعني بشكل مباشر أن هناك اتهامات باختلاس جزء من تبرعات أولئك الموظفين الذين استجابوا لدعوة الملك الحسن الثاني للجميع لكي يتبرعوا بجزء يسير من أجورهم لصالح الصندوق.
هؤلاء الذين تبادلوا اتهامات في هذه القضية، كانوا يتهمون بعضهم البعض بخلق ثروات وممتلكات بطرق ملتوية. وإحدى هذه الطرق كانت هي اختلاسات صندوق دعم فلسطين رغم أنه لم يتم رسميا تحديد أي اختلاسات به. لكن لا دخان بدون نار كما يقال. كما أن التحقيق الذي أمر الملك الحسن الثاني شخصيا بفتحه للتأكد من تقارير وزارة الداخلية وما كتبته الصحافة الحزبية، خصوصا بصحيفة «العلم»، لم تُعرف نتيجته للأسف.