هذه أغرب مواسم الدخول المدرسي التي عاشها المغرب
مع تيلي ماروك
«الدخول المدرسي لسنة 1964 كان استثنائيا، إذ في يوم 14 شتنبر سُجلت إضرابات شلت وتيرة التحاق التلاميذ بالأقسام داخل المدارس، ونفس الأمر انطبق على الجامعات.
والسبب اعتقال محمد الحلوي، الذي كان وقتها رئيسا للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، على خلفية النشاط الطلابي وأيضا أجواء الاحتقان التي كانت بين الداخلية وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
تجند الطلبة، رفاق الراحل محمد الحلوي، للدعوة إلى إضرابات في المدارس والجامعات. والنتيجة كانت عرقلة للموسم الدراسي 1964، الذي ستتلوه بعد أشهر فقط انتفاضة 1965 في مارس، حيث سيكون وزير التعليم وقتها، بلعباس التعارجي، أمام غضب شعبي كبير بسبب قرار في نفس الموسم، يمنع بموجبه الراسبين في امتحان الشهادة مرتين، من العودة إلى مقاعد الدراسة، وهو القرار الذي أصاب عشرات الآلاف من التلاميذ بخيبة كبيرة، خصوصا أن منهم متقدمين في السن لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة في السن القانوني.
قبل هذه الواقعة كان الدخول المدرسي في سنوات الحماية الفرنسية، قبل 1956، يعرف أيضا أحداثا تتأرجح بين القاسية والدامية. وبعد الاستقلال عاش المغرب أحداثا أخرى.. جعلت أيام شتنبر، عندما يلتحق أبناء المغاربة بالمدارس، استثنائية بكل المقاييس..»
يوم كانت لدينا وزارة للمعارف..
في حكومة المغرب الأولى التي ترأسها مبارك البكاي، كانت حقيبة وزارة المعارف، التي أضيفت إليها الفنون الجميلة، من نصيب الاستقلالي محمد الفاسي الذي دخل التاريخ باعتباره أول وزير للتعليم في تاريخ المغرب، ثم أصبح رئيسا لجامعة محمد الخامس بعد خروجه من الوزارة وارتبط اسمه بعدد من المخطوطات النادرة التي أعيد ترميمها في الخزانة الوطنية، وأيضا عدد من التحقيقات الأكاديمية التي أشرف عليها.
في حياة محمد الفاسي، حدث فارق يتعلق بتوشيحه سنة 1955 وزيرا للتعليم، وكانت وقتها الوزارة لم يقحم فيها اسم «التعليم» بعدُ، وسميت «المعارف» تأكيدا للنزعة المشرقية التي كانت تطغى على اختيارات الحركة الوطنية.
فقد كان علال الفاسي، من خلال مقامه في القاهرة، قد اقتبس عددا من التسميات التي كانت توظف في الإدارات لكي يساهم بها في سياسة تعريب عدد من المؤسسات والمصالح في إطار المطالبة برفع فرنسا ليدها عن المؤسسات بعد حصول المغرب رسميا على الاستقلال.
بينما مصادر أخرى ترجح أن يكون إطلاق اسم «المعارف» على التعليم، مصطلحا جامعا لا علاقة للاستقلاليين به، وكناية عن مختلف فروع التعليم في المغرب، خصوصا أن واقع التعليم وقتها كان يتأرجح بين المدارس العتيقة التي يعود تاريخها إلى مئات السنين، وبين المدارس التي أسستها الحركة الوطنية لمواجهة السياسة الفرنسية في المغرب، ثم المدارس النظامية التي تسلمها المغرب من فرنسا، والتي كان يشرف عليها أطر من فرنسا وبمقررات دراسية فرنسية أيضا، وهذه المدارس هي التي أفرزت الأجيال الأولى من المسؤولين المغاربة في كل القطاعات الحكومية، وتم إدماج مدارس الحركة الوطنية معها لاحقا لرأب الصدع إلى الأبد.
كانت المواسم الدراسية في زمن الحماية، تعرف عددا من الأحداث الدامية التي تؤدي إلى محاكمات ثم أحكام بالإعدام، حتى أن تقارير الأمن الفرنسي كانت تشير إلى أن شهر شتنبر منذ سنة 1948 إلى 1954 كان يعرف موجة اكتظاظ كل شهر شتنبر بسبب أحداث تتعلق باحتجاجات الأهالي ضد سياسة «الحاكم» الفرنسي للمنطقة بشأن تمدرس أبنائهم، أو حالات الاعتداء ضد الأطر الفرنسية المعينين حديثا في مدارس فرنسا بالمغرب.
وكانت الإدارة الفرنسية قد أضافت حراسا جددا لتغطية الخصاص الذي وقع بعد إحالة مئات المتهمين في فترة قصيرة، بينهم متهمون دخلوا السجن المركزي بدون ملفات اعتقال ولا متابعات. أي أنهم كانوا داخل السجن بشكل غير قانوني. لكن الإدارة مزجت الجميع، وأصبحت الزنازين تبلع ما يفوق طاقتها الاستيعابية القصوى بكثير.
بطبيعة الحال فإن الإدارة الفرنسية لم تشر في تقاريرها إلى أنها تخرق المواثيق الدولية وحقوق الإنسان. لكن الذين كانوا يتابعون مجريات الأمور وتطورات الأحداث لم يفتهم أن يسجلوا هذه الملاحظات للتاريخ. حتى أن الناجين أنفسهم كانوا يحاولون إسماع أصواتهم بعد الاستقلال، لتذكير فرنسا بجرائمها في المغرب.
لم يقف المقاومون ولا أعضاء الخلايا السرية التي بقيت نشيطة بقوة إلى آخر أيام الحماية الفرنسية بالمغرب، بل وبعدها أيضا لتصفية بعض «الخصوم» أو «أذناب الاستعمار» كما كانت تسميهم التقارير. كان أول رد فعل على هذا التصعيد الفرنسي وظروف الاعتقال غير الإنسانية، هو تصفية حارس من الحراس المغاربة!
العملية نُفذت في الأسبوع الأول من شتنبر. وكان التخطيط لها قد استمر لأيام لمعرفة الأماكن التي يتردد عليها الحارس، والطريق الذي يسلكه عند مغادرته لإدارة السجن بعد انتهاء دوامه أسبوعيا.
وعند حصول المغرب على الاستقلال، كان أول موسم دراسي بإشراف وزارة تعليم مغربية، تحت سلطة محمد الفاسي، الذي وضع رفقة عدد من الأطر الإدارية الفرنسية مخطط السنة الدراسية الجديدة. ورغم أن محمد الفاسي كان من بين الذين روجوا بقوة لوثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، إلا أن بعض الاستقلاليين المتحمسين قادوا ضده حملة كبيرة واتهموه بالانبطاح للسلطات الفرنسية رغم حصول المغرب على الاستقلال. والحقيقة أن الرجل كان يتوجب عليه أن يتعاون مع الأطر الفرنسية التي كانت لا تزال تشغل مناصب مهمة في قطاع التعليم العمومي الذي تسلمته وزارة «المعارف» لتوها، ولم يكن مكتب محمد الفاسي يتوفر على أية معلومات لا عن عدد المدارس التابعة للوزارة ولا لوائح الأطر المغربية التي كان مخططا إدماجها بأمر من الملك الراحل محمد الخامس، لكي تقود أول موسم دراسي مغربي بعد الاستقلال.
بعد ذلك توالت المواسم الدراسية، وكان لكل واحد منها قصة مختلفة، أدخلته التاريخ، خصوصا مواسم الستينيات والسبعينيات التي كانت دائما تتلون بألوان سنوات الرصاص القاتمة، وأصبحت فعلا مواسم لن تُنس.
هؤلاء تقاذفوا كرة «مواسم دراسية غير عادية»..
إذا كان محمد الفاسي، قد أشرف على وزارة «المعارف» فإن تلك التجربة رغم قصرها، كانت خجولة ومتواضعة. بعدها، خصوصا في ظل التعديلات الحكومية ومطالب الاستقلاليين بمزيد من الحقائب الوزارية على حساب الوزراء المستقلين الذين كانوا وقتها يُلقبون بوزراء محمد الخامس، أصبح الموسم الدراسي تحت الأعين الأمنية بعد أن كان تحت أنظار الوزارة فقط. والسبب تأثر المشرفين على القطاع بالواقع السياسي للبلاد، حيث كان الترقب والتشنج عنوانا للأحداث، خصوصا بعد انفجار ملفات أزمة جيش التحرير ورفض بعض قدماء المقاومة تسليم أسلحتهم واعتقالات 1959 ثم 1963 واعتقال أصدقاء شيخ العرب الذي كان الموسم الدراسي لسنة 1964، أياما فقط بعد سقوطه برصاص الأمن في الدار البيضاء وتعيين الجنرال أوفقير وزيرا للداخلية، موسما عصيبا بكل المقاييس. فقد كان وزير التعليم السيد بلعباس، أمام معضلة حقيقة يتعين عليه معها الخروج بخلاصة بناء على تقارير الوزير الذي كان قبله، واسمه رشيد ملين. لكن الواقع الذي كان أمامه، من الناحية الأمنية على الخصوص، كان يكبله لأن سياسته تسببت في اندلاع المظاهرات التي قادت لاحقا إلى أحداث مارس 1965 الدامية.
أثناء هذه الأحداث كان وزير التعليم هو عبد الهادي بوطالب، أستاذ الملك الراحل الحسن الثاني في المدرسة المولوية، وأحد المقربين الكبار من الملك. هذا الوزير رفض تدخل وزارة الداخلية التي كان يقودها الجنرال أوفقير، لاحتواء تلك المظاهرات إذ كان التعليم وقتها يتجه نحو إضعافه لكي يكون تحت رحمة الداخلية.
قال عبد الهادي بوطالب في مذكراته إنه تصدى للجنرال أوفقير وحال بينه وبين السيطرة على أسرة التعليم أمنيا لاحتواء تبعات تلك المظاهرات التي استُعمل فيها الرصاص الحي لقمع المتظاهرين.
بعده جاء حدو الشيكر إلى وزارة التعليم في الستينيات دائما، وهو الذي أصبح بعد وضع حقيبة التعليم وزيرا للداخلية، وكان الدخول المدرسي متأججا بسبب تداعيات الاعتقالات التي طالت أسرة التعليم والتمثيلات التلاميذية التي كان يؤطرها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
جاءت سنوات أخرى، كان فيها الدخول المدرسي بذكريات لا تُنسى وأرخت لمراحل مهمة من تاريخ المغرب، كانت المدرسة العمومية حاضرة فيها.. وبقوة.
عندما دعت الحركة الوطنية لمقاطعة المدارس احتجاجا على نفي محمد الخامس
صيف 1953 الذي كان موسم حداد عام في المغرب بسبب نفي الملك الراحل محمد الخامس، سرعان ما انتقلت حرارته إلى شهر شتنبر لكي تعم البلاد مقاطعة شاملة للمدارس الفرنسية بسبب حملة قادها أعضاء الحركة الوطنية. وأصبح شهر شتنبر لسنوات 1953 و1954 عنوانا لأحداث أثرت بشكل مباشر على الموسم الدراسي الذي كان برعاية فرنسية.
بل وفي سنة 1952 سجلت مظاهرات ضد فرنسا بسبب مضامين المقررات الدراسية التي تعتبر المغرب «مقاطعة» ترابية تابعة لفرنسا.
كان وفد مكون من ممثلي عائلات مغربية، قد تم استقبالهم فورعودة الملك محمد الخامس من المنفى في نونبر 1955، طلبوا خلال اللقاء أن يتم الكشف عن مصير مئات الشبان المغاربة الذين اختفوا في مختلف المدن المغربية، في سياق المظاهرات التي خرجت في شهر شتنبر من نفس السنة للمطالبة بعودة الملك إلى العرش.
وعد الملك محمد الخامس بالتدخل، وفعلا تم الاتصال بموظفين مرموقين في الإدارة الفرنسية والبعثة الدبلوماسية التي قامت بـ «تصريف الأعمال» بعد الاستقلال، لكن مصير أولئك الشبان بقي غامضا. وبعد تعيين الحكومة الأولى التي ترأسها امبارك البكاي، كان ملف هؤلاء الشبان من جديد فوق طاولة الوزارة الأولى، وحدث أن رتب البكاي، عن طيب خاطر، موعدا بين لجنة من ممثلي عائلات الشبان المختفين في تلك المظاهرات، واستقبلهم الملك محمد الخامس لأزيد من ساعة من الزمن، شكر لهم فيها تضحيات أبنائهم من أجل الوطن، وأخبرهم أن الفرنسيين لا يملكون جوابا بخصوص مصير أبنائهم. وانتهى اللقاء بأن وزع الملك الراحل مجموعة من الإكراميات والهدايا، ومأذونيات النقل وبعض الرخص الأخرى، على أمهات الشبان وأرامل المتزوجين منهم، وانتهى الملف.
تحركت عدد من المكونات الشبابية انطلاقا من المدراس، بتنسيق مع الحركة الوطنية، وبعض التمثيليات الشبابية التابعة لحزب الاستقلال، باعتباره الحزب المهيمن وقتها على المشهد السياسي، بالإضافة إلى تمثيليات شابة أخرى، ممن درسوا في فرنسا، وعادوا إلى المغرب ليشتغلوا على الجانب الحقوقي للمطلب المغربي المتمثل بالاستقلال عن فرنسا.
بالإضافة إلى شبان آخرين سبق لهم العمل في صفوف المقاومة والتنظيمات السرية. هؤلاء كانت قلة منهم فقط تتوفر على مستوى تعليمي جيد، فيما كانت البقية تخضع لتأطير من طرف التنظيمات السرية، بتنسيق مع بعض رموز الكفاح المسلح الذين غادروا النفوذ الفرنسي في المغرب لأسباب أمنية، حتى لا يتم اعتقالهم.
كانت بعض المظاهرات قد قوبلت بالقمع حتى قبل أن يتضح للأمن الفرنسي مدى سلميتها. فالمظاهرات التي خرجت في مدينة سلا أعادت إلى الأذهان أحداث 1952 الأليمة، والتي قتل فيها مغاربة كثر رغم أنها كانت سلمية ورفعت فيها شعارات تندد بالسياسة الاستعمارية لفرنسا. والمظاهرات التي خرجت احتجاجا على نفي الملك محمد الخامس، قوبلت بدورها بعنف مبالغ فيه من طرف البوليس الفرنسي. وكانت تلك المرة الأولى التي لجأت فيها الإقامة العامة الفرنسية إلى خدمات التدخل السريع للأمن، وهو الأمر الذي خلف ضحايا كثر.
جرت موجة من الاعتقالات، وسُحب عدد من الشبان من داخل المظاهرات، وتم اختطافهم، بتعاون مع مخبرين مغاربة، يتولون مهمة توجيه الأمنيين إلى الأشخاص المشكوك في انتمائهم إلى المجموعات المسلحة، أو تزعمهم للمظاهرات.
في السابع من شتنبر، مع تمام الساعة الحادية عشرة صباحا، تم اعتقال 12 شابا مغربيا، ووجهت لهم على الفور تهمة التحريض على العنف، وضبطت بحوزتهم منشورات تدعو إلى التظاهر.
الواضح أن التظاهر فعل مستقل تماما عن العنف، لكن فرنسا كانت تجمع كل شيء في سلة واحدة، وتشير بأصابع الاتهام إلى خلايا التنظيمات السرية للمقاومة، وتتهمها بالركوب على جميع الأحداث واستغلال جميع التجمعات لارتكاب أفعال «إجرامية» ضد المواطنين الفرنسيين أو المغاربة المندمجين في السياسة الفرنسية.
تهمة أخرى وجهت إلى هؤلاء الشباب تتمثل في نية إضرام النار في منشآت فرنسية وممتلكات لمعمرين فرنسيين مستقرين في المغرب.
من خلال المحاضر المتوفرة في الموضوع، لم يعترف أحد من أولئك الشبان بأي عملية إضرام نار، لكن التهمة بقيت تلاحقهم، بل وحوكموا بها وتمت إدانتهم بأشهر نافذة في السجن المركزي بسبب المنشورات التي ضبطت معهم، والتي كانت تدعو إلى التظاهر.
في نهاية شتنبر، سوف تجري اعتقالات واسعة في كل من الدار البيضاء، مراكش، بني ملال، وآسفي. سوف يتجاوز عدد المعتقلين أزيد من خمسين شابا لكل مدينة. بالإضافة إلى اعتقال 10 شبان في الرباط. هؤلاء جميعا سوف يحاكمون طيلة الأسبوعين الأخيرين من شهر شتنبر، مع استمرار الاعتقالات. والتهمة كانت هي استهداف أمن المواطنين الفرنسيين في المغرب، وتدمير مصالح وممتلكات عامة وخاصة. وفي الأسبوع الأول من أكتوبر، سوف تنطق المحكمة العسكرية في مراكش، بأحكام قاسية على هؤلاء الشبان، تراوحت بين الإعدام و20 سنة سجنا، تتخللها أشغال شاقة.
حين كادت أن تُغلق مدارس اليهود بالدار البيضاء
في سنة 1948 نشرت «السعادة» مقالات تتناول فيها العلاقات المتشنجة بين المغاربة مسلمين ويهود، ولم تكن فحوى المقالات صحيحة، وإنما كان الهدف منها اللعب على وتر بعض الدعوات التي أطلقها محسوبون على الحركة الوطنية بسبب موقف نخبة من اليهود المغاربة من العلاقة مع الإدارة الفرنسية خصوصا إدارة الأمن الفرنسي التي كانت تشن حملة اعتقالات واسعة ضد الوطنيين المغاربة، قبل أن يأتي زمن تأسيس الخلايا السرية المسلحة التي لم تبدأ إلا مع خمسينيات القرن الماضي.
بسبب التوتر الناجم عن تلك المناوشات، كان الدخول المدرسي لسنة 1948 في مدارس اليهود المغاربة في الدار البيضاء على وجه الخصوص، موضوع أحداث ساخنة سجلت خلالها مواجهات سرعان ما تدخل البوليس الفرنسي لاحتوائها.
على مستوى المدينة القديمة، تعرضت مدرسة اليهود، التي كانت شهيرة وقتها، لرشق بالحجارة، وهو ما جعل الجالية اليهودية تراسل القصر الملكي ويتدخل الملك الراحل محمد الخامس شخصيا لاحتواء الوضع. وقد أشار مؤرخ المملكة الراحل، عبد الكريم الفيلالي إلى هذه الواقعة، ونقل مجموعة من الوقائع المرتبطة بنفس السياق.
تخوف الآباء من إرسال أبنائهم إلى المدرسة اليهودية في المدينة القديمة بالدار البيضاء، خصوصا وأن دوريات البوليس الفرنسي نشرت معلومات مفادها أنها تتوفر على إخباريات بشأن أعمال شغب محتملة، وأنها كلفت عناصر بتأمين محيط المدرسة لأسابيع تجنبا لأي عمل من شأنه أن يتلف المؤسسة أو محتوياتها.
لكن تلك الحملة كان لها رجع سلبي على الأوساط اليهودية في الدار البيضاء، إذ امتنعوا عن إرسال أبنائهم إلى المدرسة اليهودية، خوفا من تعرضهم لأي اعتداء، رغم أن الموضوع كله كان مفتعلا وأججته الصحافة بشكل رئيسي، خصوصا صحيفة «لو كازابلونكي» التي كانت وقتها قد عادت إلى الصدور بعد انقطاع لسنوات بسبب الموارد المالية. هذه الصحيفة ذكرت أن اليهود باتوا مهددين أمنيا وأن البوليس الفرنسي هو الضامن الوحيد لسلامتهم وهو ما زاد من التخوفات، حتى أن الموسم الدراسي كان مهددا بالإلغاء. لكن الأزمة سرعان ما انتهت بتدخل من السلطان محمد بن يوسف، الذي دعا مكونات الشعب إلى التلاحم والتضافر.
المدارس اليهودية، في المغرب خلال النصف الأول من القرن الماضي، كانت تتوفر على جودة تعليم عالية ويميزها نظامها الداخلي. وهناك تقارير تتحدث عن أن أرشيف المدارس اليهودية في المغرب يعود إلى ما قبل سنة 1919 حيث كانت هذه المدارس تعمل بنظام داخلي متقدم جدا مقارنة مع نظام المدارس العتيقة المغربية، ولم تكن تضاهيها حتى المدارس الفرنسية التي بدأ تأسيسها في المغرب منذ بداية القرن، وكانت أول مدرسة تقام في وجدة، والتي تعتبر الآن أقدم مدرسة عمومية في المغرب. فقد كانت المدارس اليهودية تتميز بنظام داخلي صارم ومنظم وامتيازات اجتماعية للتلاميذ.
بسبب مطالب بانتخابات تشريعية.. موسم 1964 دُشن بالاعتقالات
الدخول المدرسي لسنة 1964 كان استثنائيا، إذ في يوم 14 شتنبر سُجلت إضرابات شلت وتيرة التحاق التلاميذ بالأقسام داخل المدارس، ونفس الأمر انطبق على الجامعات.
والسبب اعتقال محمد الحلوي، الذي كان رئيسا وقتها للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، على خلفية النشاط الطلابي وأيضا أجواء الاحتقان التي كانت بين الداخلية وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
تجند الطلبة، رفاق الراحل محمد الحلوي، للدعوة إلى إضرابات في المدارس والجامعات. والنتيجة كانت عرقلة للموسم الدراسي 1964، الذي ستتلوه بعد أشهر فقط انتفاضة 1965 في مارس، حيث سيكون وزير التعليم وقتها، بلعباس التعارجي، أمام غضب شعبي كبير بسبب قرار في نفس الموسم، يمنع بموجبه الراسبين في امتحان الشهادة مرتين، من العودة إلى مقاعد الدراسة، وهو القرار الذي أصاب عشرات الآلاف من التلاميذ بخيبة كبيرة، خصوصا وأن منهم متقدمون في السن لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة في السن القانوني.
اعتبر القرار وقتها بأنه طعن في سياسة الدولة وخطابات الملك الحسن الثاني التي كان يحث فيها المغاربة بعد الاستقلال على تسجيل أبنائهم في المدارس ومحاربة الهدر المدرسي والانتقال بالمغرب إلى مصاف الدول التي تفرض التعليم الإجباري على مواطنيها والقضاء على الأمية. كانت كل المؤشرات إذن توحي بأن الموسم سيكون استثنائيا.
كتبت الصحافة الدولية في المغرب عن الإضرابات التعليمية بسبب تردي الأوضاع السياسية وما أسمته «قمع» المطالب بانتخابات تشريعية في البلاد. بالإضافة إلى الاحتجاج على أجواء الاعتقالات السياسية التي تعرض لها آلاف المنخرطين في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
كان جل رجال التعليم وقتها منتسبين لحزب المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد، لذلك كانوا من أوائل المدافعين عن الإضراب منذ الأيام الأولى لانطلاقه.
تعرض عشرات الطلبة والتلاميذ في مدن الدار البيضاء، الرباط، مراكش وأكادير، وبني ملال ومكناس وفي فاس أيضا للاعتقال بسبب دعوتهم للإضراب تضامنا مع محمد الحلوي، الذي انتخب في مؤتمر اتحاد طلبة المغرب أيام 4 و7 شتنبر، وهو المؤتمر الذي كان شعاره المطالبة بانتخابات تشريعية احتجاجا على انتخابات 1963 التي وصفها بالمزورة والمخدومة.
بسبب تلك الإضرابات، أصبح مدراء المؤسسات التعليمية وقتها مطالبين بوضع لوائح بأسماء التلاميذ الذين قادوا تلك الاحتجاجات، ووصل الموضوع إلى البرلمان مع الدخول السياسي لتلك السنة، لكن مطالب الاتحاديين لم تجد أذانا صاغية.
كان هذا الدخول المدرسي لموسم 1964 مؤشرا قويا لوزارة الداخلية، التي وصل إليها الجنرال أوفقير للتو، إذ عين وزيرا للداخلية في غشت بعد وفاة شيخ العرب ومجموعته الذين كانوا مبحوثا عنهم أمنيا، واندلعت الإضرابات في شتنبر كامتداد لأزمة المعارضة مع الدولة.
كان الجنرال أوفقير، وهو بالكاد يتفقد ملفات وزارة الداخلية، يتوصل باللوائح بأسماء التلاميذ، حيث كان الأمنيون يربطون بين متزعمي المظاهرات والإضرابات والمُعتقلين الذين كان يتم استجوابهم، وبين نشطاء حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
الأكثر من هذا، أن الحزب وجه تهمة مباشرة للداخلية والأمن بتنفيذ اختطافات واحتجاز غير قانوني للمختطفين قبل تقديمهم للتحقيق رهن الاعتقال، وسجلت حالات اختفاء على إثر تلك الأحداث عالجتها لجنة بن زكري عندما تم تأسيس هيئة الانصاف والمصالحة، وبعض تلك الحالات بقي لغزا إلى اليوم.
هكذا كان الأساتذة يتبادلون اتهامات بـ «العلاقات» مع الداخلية
خلال الموسم الدراسي لسنة 1981، كانت أمام إدريس البصري تقارير ساخنة بشأن النشاط النقابي لعدد من الأساتذة. في تلك السنة كان الموسم الدراسي ساخنا للغاية، إذ تسببت المظاهرات في توقف الدراسة لأسابيع بل وتوقيف عشرات الأساتذة بتهمة التحريض على التظاهر وتجييش التلاميذ للمشاركة، ونطق الحكم بتسريحهم من التعليم.
وقتها كانت نقابات التعليم، تنقسم بين ساكت ومعارض لذلك القرار. حتى أن بعض مدراء المؤسسات خافوا من أن تطالهم يد إدريس البصري وسارعوا إلى التبرؤ من الأساتذة الذين تم إيقافهم، قبل أن يُتهموا بالتضامن معهم.
وقتها انتشرت صفة «خدامين مع الداخلية» لتطال عددا من مدراء المؤسسات التعليمية، بل والأساتذة الجامعيين، حيث كان الطلبة يصيحون في المدرجات بأوصاف تصنف أولئك الأساتذة في خانة المخبرين.
الموسم الدراسي لسنة 1982، عرف أيضا إضرابات موسعة ومطالب بإعادة الأساتذة المعزولين من التدريس إلى الوظيفة العمومية وطالبوا أيضا بإطلاق سراح المعتقلين على خلفية إضرابات السنة التي قبلها.
أصبحت العلاقة مع الأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية تهمة تلاحق أطر التعليم خصوصا الإداريين منهم على خلفية تلك الأحداث التي أثرت مباشرة في المواسم الدراسية للسنوات اللاحقة، وكادت بسببها أن تدخل بعض المؤسسات في سنة بيضاء. خصوصا وأن المظاهرات التي تقودها المعارضة، في التمثيليات التلاميذية والطلابية في مختلف المدن، كانت تتزامن دائما مع بداية شهر شتنبر، الذي كان دائما شهرا سياسيا بامتياز.
فبعد محاكمة مراكش الشهيرة التي بدأت أطوارها صيف سنة 1970 واستمرت لأشهر جرّب خلالها المتابعون والمحامون الوقوف في برد الشتاء وتحت لهيب الصيف الحارق، كان الموسم الدراسي لشتنبر 1971 أيضا مناسبة لتأجيج المظاهرات المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، وتزامن الدخول المدرسي في تلك السنة مع مضي الشهر الأول على انقلاب الصخيرات الذي أدخل البلاد وقتها في جو من الترقب، في انتظار محاكمة «الانقلابيين» التي انطلقت بدورها في تلك الأسابيع من شتنبر.
الأكثر من هذا أن التقارير التي رفعت عنها السرية لأرشيف مراسلات السفارة الأمريكية في الرباط، كانت تتابع دائما تداعيات المظاهرات التي نشبت في شهر شتنبر بالتزامن مع هذه الأحداث، وكانت ترفع تلك التقارير بنبرة من الترقب، في حين كان فيه المسؤولون المغاربة يضعون أيديهم على قلوبهم قلقا على مستقبل الموسم الدراسي في تلك السنوات العصيبة.