زعماء مغاربة ولدوا في دواوير منسية وانتهى بهم المطاف في دائرة الوجاهة
مع تيلي ماروك
للمغرب العميق فضل كبير على الدولة المغربية، فكثير من دواوير المملكة أنجبت شخصيات كانت لها مساهمات في بناء صرح الوطن. فليس كل شخصيات المجتمع من الأحياء الراقية ومن خريجي كبار المدارس الخصوصية وأعلى المعاهد العلمية، فكثير منهم ولدوا في دواوير تعاني من الهشاشة وتعلموا القراءة في المسيد، وتعايشوا مع الخصاص وشربوا من ثدي أمهاتهن حليب العزيمة والطموح والاعتماد على النفس. فكانت للدوار والمدشر مساهمة في بناء شخصية رجل المستقبل، خاصة وأنهم قضوا جزءا غير يسير من مشوارهم في فضاء تلفه الهشاشة والخصاص، ومنهم من لايزال يذكر نقرات الفقيه، التي تركت على الرغم من مرور الزمن حفرياتها الجميلة على الرأس، ومنهم من لايزال ينسج علاقة مع الدوار ويصر على زيارته كلما لاحت فرصة وسط أجندة مختنقة.
المتتبع لمسار العديد من مشاهير المجتمع المغربي وخدام الدولة بالخصوص، سيتوقف عند الدوار كفضاء مجالي ودوره في بناء شخصيات سرعان ما شقت طريقها نحو الشهرة، أغلبها نشأ في بيت تنعدم فيه أبسط شروط الحياة المعيشية لكنه بيت فقه ودين وعلم فكان أول الزاد التقوى.
في نبش سيرة العديد من شخصيات المجتمع المغربي في عوالم السياسة والفكر، نتوقف عند ظروف النشأة ورائحة البادية التي ميزت لحظة مسقط الرأس، قبل أن تتحقق التنشئة الاجتماعية على سكة السلف الصالح، لكن عند مفترق الطرق يتغير المسار ويصنع كل لنفسه سكة أخرى قد تسافر به إلى عوالم أخرى.
في هذا الملف نسلط الضوء على وجهاء أنجبتهم الدواوير الفقيرة، وتعرض قصص نجاح من رحم المعاناة.
البصري.. افتخار بالانتماء لدوار لمناصرة
ظل جدل الجذور العائلية لإدريس البصري، أشهر وزير في تاريخ المغرب المعاصر، حاضرا قبل وفاته وبعدها. فقد تعددت الروايات حول الأصول القبلية للعائلة، فأهل تاونات ينسبون العربي البصري، والد إدريس، لجبالة، وأهل الغرب يقولون إن أصل البصري يرجع إلى قبيلة لمناصرة نسبة إلى الولي الصالح سيدي محمد المنصور الذي يوجد ضريحه بالقنيطرة، وهو ما سبق أن أكده أخوه بوشعيب بعد وفاة الوزير، فيما يرى أبناء سطات أن جد البصري غادر لمناصرة ضواحي سطات ورحل إلى الغرب وفيه مات ودفن. كما دار جدل حول أصل والدة الوزير الحاجة إيزة التي يرجع نسبها إلى قبائل السماعلة نواحي وادي زم، فيما يرى البعض أنها تنتسب للزاوية الشرقاوية والأرجح أنها من السماعلة.
عاش البصري حياة الفقر وظل يصر على متابعة دراسته بالرغم من الحاجة، في تلك الفترة رافقه والده الذي كان سجانا وظل يتخلص كل يوم من قساوة مهنته ليهتم بتربية أسرة متعددة الأفراد، بعد أن أنجبت أحد عشر ابنا منهم ثماني بنات والباقي من الذكور، (بوشعيب، إدريس ومحمد)، ولولا وفاة أول العنقود لارتفع الرقم إلى اثني عشر ابنا، أكبرهم سنا رابحة وأصغرهم محمد. نشأ الجميع في وسط أسري عنوانه التعدد والخصاص.
أمام اتساع دائرة العائلة وتوالي الوافدين تباعا، اضطر الأب العربي إلى تغيير نمط الحياة، واتخذ قرارا بمغادرة السكن الوظيفي واقتناء سكن في حي المجازر الشعبي «الباطوار»، هناك ستنتهي معاناة أبنائه مع المدرسة، وحتى يخفف عنهم مشاق التنقل من أجل استكمال الدراسة بالثانوية الإسلامية آنذاك.
كان البصري الذي عاش في دوار لمناصرة حريصا على زيارة البادية خاصة في إجازاته، وحين توفي والده عام 1990 التحقت به زوجته بعد ثلاث سنوات، فدفنت بناء على وصيتها في مقبرة لمناصرة بجانب قبر زوجها.
ووفاء للدوار قرر الوزير بناء مسجد في دوار لمناصرة، تنزيلا لوصية أمه، في الوقت الذي صالحت فيه المقبرة والمسجد إدريس البصري مع دوار لمناصرة حيث كان يحرص على زيارة قبري والديه، قبل أن يلتحق بهما ويدفن بعيدا عنهما ضد ما كان يتمناه بالعاصمة.
رئيس الحكومة يرابط في زاوية دوار «إدا ومنو»
أشار محمد المختار السوسي في الجزء السابع عشر من كتابه «المعسول»، إلى عائلة العثماني وسلط الضوء على المناخ الديني الذي ميزها، فقال: «وبهذه المناسبة يجب علينا أن نؤدي الحق لهذه الأسرة المباركة العثمانية بجميع فروعها، حتى نؤدي ما علينا من حق أكيد لهذه الأسرة التي تسلسل فيها العلم والصلاح في سوس منذ القرن السادس إلى الآن. ولم أعرف الآن في المغرب أسرة تسلسل فيها العلم أبا عن جد في زهاء ألف سنة إلا هذه». ووصفها في «سوس العالمة» بأنها «أعظم أسرة علمية سوسية مرتبطة بالدوار».
كان محمد العثماني والد سعد الدين قيما على المدرسة القرآنية العتيقة بدوار «إداو منو» التي توجد في منطقة شتوكة أيت باها، والتي تبعد عن إنزكان بحوالي 50 كيلومترا، هناك قضى سعد الدين أربع سنوات في فضاء تنوعت تضاريسه وزادت الحاجة وضعف البنيات التحتية من قساوة العيش فيه، وحدها المدرسة العتيقة كانت ملاذا للأطفال لتعلم حفظ وتجويد القرآن ودروس الفقه والتفسير وكل العلوم الدينية. كما لعبت أسواق المنطقة متنفسا لأبناء القبيلة ولو مرة في الأسبوع.
يعد عبد الله بن محمد العثماني السوسي، من رجالات الأسرة العثمانية السوسية، كان فقيها معروفا في المنطقة، حفظ القرآن عن والده، وافتتح مبادئ العلوم على يد أبي العباس أحمد الجشتيمي الشهير بالعلم والأدب، إمام السلطان المولى الحسن الأول، وقد أمضى العثماني عبد الله حياته في الإمامة والتدريس، وهو ما جعل المختار السوسي يصفه بـ«مؤرخ الأسرة»، مضيفا أنه المؤرخ الوحيد الذي يقدر هذا الفن حق قدره، وكانت له صداقة خاصة مع المختار السوسي. كما كان ضمن الوفد من علماء سوس الذي استقبله الملك محمد الخامس في دجنبر 1955، ورفع إليه ملتمسا بإحداث عدد من الإصلاحات.
تبقى الإشارة إلى أن "إدا ومنو" هو دوار يقع بجماعة "إمي مقورن"، إقليم شتوكة آيت باها، جهة سوس ماسة وينتمي الدوار لمشيخة "إداو منو" التي تضم 17 دوارا. يقدر عدد سكانه بـ 1080 نسمة.
الراضي.. سياسي الغرب بين البادية والحاضرة
رغم أن عبد الواحد الراضي من مواليد مدينة سلا في شهر دجنبر من عام 1935، إلا أنه ينتمي للبادية الغرباوية أبا عن جد، حيث أن الفتى ظل يعيش حياة طفولته بين بيت في سانية معنينو بالمدنية القديمة وبيت في أحد دواوير قبيلة بني احسن التي حلت بالمنطقة قادمة من الشرق واستقرت في مناطق متعددة من المملكة.
كان والد عبد الواحد قائدا على قبيلة الصفافعة، أو كما يقول الراضي في أحد حواراته: «لا يمكن أن نتصور القائد في منطقة الغرب بنفس صورة القائد في الجنوب، فوالدي لم يكن يملك سلطات الكندافي أو الكلاوي أو العيادي ولا جاه وجبروت قواد تلك الفترة، لكن القاسم المشترك بينهم كونه من أعيان القبيلة ويهوى الفروسية. ونظرا للمهام المدنية والعسكرية التي كان يتحملها أسلافي لدى سلطات البلاد، قبل الحماية، كانت عائلتنا كثيرة التردد والارتباط مع مدينة فاس عاصمة المملكة».
يقول عبد الواحد في سيرته الذاتية: «المغرب الذي عشته» متحدثا عن قبيلته وعلاقة والده بالفروسية، «المعروف أن أعيان البوادي والذين كان لهم ارتباط بالإدارة أو بدار المخزن، كانوا يحرصون على ممارسة الفروسية، ولأن الوالد كان يمتلك الخيول وله شغف بها، كان يتردد على مدينة فاس لاقتناء السروج واللجامات ومقومات الفروسية، وما إلى ذلك من الحاجيات. وكانت فاس، كعاصمة آنذاك، شهيرة بصناعة هذه المقومات».
رغم أن ولادة عبد الواحد كانت في المدينة عام 1935، في بيت بسانية معنينو، في أحد الأحياء القديمة داخل السور تسمى السواني، وهي عبارة عن سواني كل واحدة في ملكية عائلة ميسورة الحال، على غرار سانية الصابونجي وسانية الصبيحي وسانية معنينو، إلا أن الرجل قضى أحسن سنوات عمره في البادية وتحديدا بتراب جماعة القصيبية معقل الراضي أحد أقدم رجال السياسة في المغرب.
الأموي.. اسم مستوحى من دفين دوار بامزاب
ولد نوبير الأموي في 21 نونبر سنة 1936 بقبيلة أولاد مراح في عمق الشاوية، وكان والده حمان فلاحا بسيطا في المنطقة يقتات من جود فرنسيين استوطنوا القبيلة. عاش الطفل في كنف والديه، وحين اشتد عوده انتقل إلى الرباط حيث دخل مدرسة المعلمين وتخرج منها معلما مع بداية عهد الاستقلال. وتعرف في العاصمة على شريكة حياته فاطمة الشاوي التي تقاسمته مهنة التعليم وتزوجها ابتداء من سنة 1961، لتصبح في ما بعد مدرسة علوم طبيعية، وحين قررت السلطات الاستعمارية العمل بدفاتر الحالة المدينة اختارت لوالده لشهب اسما عائليا مستوحى من ولي صالح غير بعيد عن الدوار، «سيدي أمية»، وأصبح بقوة الولي وسلطته الدينية يحمل اسم مية حمان، مما جعل نوبير يصارع من أجل تغيير لقب العائلة «مية» بالأموي.
منذ نشأته حرص والده حمان الملقب بلشهب، على تعليم ابنه نوبير مبادئ الدين الإسلامي وأصر على أن يضعه رهن إشارة فقيه الدوار ليعلمه القرآن، حيث كان الوالد يراهن على الاحتفال بابنه حين يستكمل حفظ 60 حزبا من كتاب الله الكريم، وهو الحلم الذي حققه نوبير لوالده، فتم الاحتفال به وفق طقوس خريجي المسيد. لكن بالرغم من حفظ نوبير للقرآن الكريم ورغبته في الاستماع إلى مجوديه، إلا أنه بالمقابل كان ولازال عاشقا لسماع أغاني أم كلثوم وكان يجد متعة في الاستماع لروائعها الخالدة في سيارته كلما قفل عائدا من الدار البيضاء إلى قريته التي لازال يسكن فيها.
يعاني نوبير الأموي الكاتب العام للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، بين الفينة والأخرى من أزمات صحية حتمت عليه في كثير من الأحيان الانتقال إلى أحد المستشفيات بباريس لتلقي العلاج، كلما تدهورت صحته، فالرجل يعاني من مضاعفات مرض الربو والدواء لا يفارقه، إضافة إلى مرض القلب، إلا أن هذا العائق الطبي لم يمنع نوبير من ممارسة عمله دون الاهتمام بنصائح رفاق دربه الذين اقترحوا عليه التقاعد النقابي والابتعاد عن صراعات النقابة. ولأن مرض الربو والرطوبة لا يلتقيان، فقد حرص الزعيم السابق للكونفدرالية على أن يظل مرتبطا بقريته التي بنى فيها مسكنا على الطراز الغربي، ولم يكن يغادره إلا لحضور اجتماعات في الدار البيضاء أو الرباط.
الجابري.. من الرعي بفكيك إلى أستاذ للأجيال بالرباط
بدأ محمد عابد الجابري حياته راعيا للغنم بواحات فيكيك بالمغرب الشرقي، ليفهم في ما بعد أنه خلق ليكون راعيا لأشياء أخرى غير قطعان الغنم، وهو الذي لا يلبث أن يجيب كلما سئل لو قدر لك أن تبدأ مسار حياتك من جديد فما كنت ستختار؟ بأنه سوف يختار نفس المسار دون تردد. «المجد وليد القراءة» مقولة طالما رددها كأهم خلاصة بإمكان تقديمها للأجيال «اقرأ ما دمت حيا تشق لنفسك مسارا قابلا للقراءة».
لقد كان استثنائيا في كل شيء، في القراءة التي لم تتعبه أبدا مادام يضج مرددا قولته «هناك كتب لم أقرأها بعد». وأيضا في الكتابة التي أعيته، بل وكانت السبب في كون أول عملية جراحية تجرى له في حياته كانت على عصب يده اليمنى التي أنهكها بكثرة الكتابة.
من خلال تفحص في مسار محمد عابد الجابري، يتبين أن الرجل بدأ قارئا جيدا للقرآن الكريم في المسيد، وانتهى مفسرا بارعا مفككا للعقل العربي، فقد درس أولى حروف الضاد في كتاب على يد زوج أمه بعد أن اختارت الارتباط بالفقيه بعد وفاة والد محمد.
محمد من مواليد سنة 1935 بمدينة فكيك التي عاش فيها حياة الرعي وعانى بها من قساوة الطبيعة، لكنه تنصل منها بعدما تلقى تعليمه الأولي وتخلص من العصا ثم غادر متوجها إلى الرباط، حيث حصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة عام 1967 ثم دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970 من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، التي عمل بها أستاذا للفلسفة والفكر العربي والإسلامي.
حسب شهادات رفاق دربه في أربعينية الراحل التي نظمها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كشفت شهادات أصدقاء الطفولة، قدرته الخارقة على الاستظهار وحفظه السريع للقرآن الكريم، وأنه كان يعامل بقساوة من طرف زوج والدته خلال تعلمه مبادئ الدين.
صقور الداخلية يسكنون مغارات تاونات
لا يمكن حصر أسماء الشخصيات التي لها جذور «تاوناتية» في قطاع معين، بل إنها حاضرة في كل المجالات خاصة السياسية، بدءا بالعربي البصري الذي رغم انتمائه الوجداني لمدينة سطات إلا أنه من مواليد تاونات التي عاش فيها طفولته قبل أن ينتقل والده إلى حاضرة الشاوية.
نبت في تربة تاونات العديد من رجالات أم الوزارات والراسخين في السلطة، الذين تكشف دفاتر الحالة المدنية عن عمق انتمائهم كوزير الداخلية أحمد الميداوي، الذي شاءت الصدف أن يخلف البصري ويتحول من تابع له إلى خصم أبدي، فضلا عن الراسخين في جهاز الداخلية أمثال طريشة والضريف.
في خريف سنة 1986، تم الاعتماد كليا على أبناء تاونات، وهو ما يرويه لحسن بروكسي، «أصبحت «مجموعة تاونات» هي البديل لفريق السبعينيات، وهي مصدر ثقة البصري بعد أن وضع جانبا رجالات الأمس، الذين كانوا يكنسون الأشواك من طريقه في بداية عهده بالسلطة، بينما بدأت أسهم طريشة والضريف ومن يدور في فلكهما ترتفع يوما بعد يوم، رغم أن هذين الأخيرين لا يتوفران على المؤهلات الفكرية والسياسية التي تبيح لهما التموقع في دائرة القرار، لأن العديد من عمال البصري كانوا يتفوقون على محيطه من حيث الكفاءة المهنية والزاد الفكري».
تسلق الضريف سلالم السلطة بسرعة، من عامل إلى مدير للأمن الوطني ومدير للوكالات الحضرية، أما ابن تاونات الهادئ محمد الميداوي الذي ينحدر من أولاد عمران، فلا تستهويه جاذبية السلطة، لذا عاش سنوات الجفاء مع ادريس بالرغم من مناصبه التي كانت تضعه تحت رحمة البصري.
عروب.. مبتكر عملية "حذر" ابن أربعاء لكفاف
في قرية أربعاء لكفاف، والتي يعرفها أبناء المنطقة بـ "لاكار الحمص» غير بعيد عن مدينة وادي زم، ولد سنة 1939 الجنرال دوكور دارمي بوشعيب عروب المفتش العام السابق للقوات المسلحة الملكية قائد منطقة الجنوب، أحد أهم ركائز المؤسسة العسكرة المغربية، في هذه البلدة الصغيرة عاش الفتى طفولته في هذه المنطقة القروية التي دخلت مبكرا عالم التمدن، فهي أول قرية تم ربطها بالكهرباء لوجود مناجم الفوسفاط بالقرب منها، تابع بوشعيب تعليمه في المسيد قبل أن يلتحق بمدرسة في خريبكة تابع فيها دراسته وبسبب نباهته انضم إلى بعض المدارس الفرنسية العسكرية في المغرب، ثم اشتغل في صفوف الجيش الفرنسي.
سطع نجم عروب حين أعفي الجنرال بلبشير مدير الأمن العسكري سابقا، وتنصيب الجنرال بوشعيب عروب خصمه اللدود منسقا عاما للمكتبين المتخصصين في جمع المعلومات المتعلقة بالجيش، ولأن ملف خلية أنصار المهدي هو الذي أطاح ببلبشير، فإن أول قرار اتخذه عروب هو منع الصلاة داخل الثكنات، كما أخضع كل جندي ثبت أنه اجتمع بأشخاص لهم انتماءات مشبوهة للعقاب.
منذ تعيينه على رأس المكتب الثالث في القيادة العامة للجيش، أثبت بوشعيب على علو كعبه وغدا واحدا من بين أهم المختصين في مجال التوثيق والبحث العسكري في القوات المسلحة الملكية، قبل أن يعينه القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة المغربية الملك محمد السادس في 13 يونيو 2014 مفتشا عاما للقوات المسلحة الملكية، وقائدا للمنطقة الجنوبية خلفا للجنرال عبد العزيز بناني، قبل أن يغادر منصبه.
عايش عروب الضباط الأوائل في القوات المسلحة الملكية، كابن عمر وأوفقير والدليمي وحسني وغيرهم من صقور المؤسسة العسكرية البعيدين عن الأضواء، رغم أنه إلى حدود منتصف الستينات كان مجرد رقيب في ثكنة بن جرير، إلا أن ميزته الأساسية الهروب من الأضواء، لكن قوته في إعداد التقارير السرية حول وضعية الجيش، إلى جانب الإشراف على الصفقات العسكرية وشراء المعدات، بل إنه هو صاحب فكرة «حذر» حين تربصت بالبلاد نوايا إرهابية.
شارك عروب في حرب الرمال سنة 1963، وحرب الصحراء منذ بدايتها سنة 1975، كما عانى من إشاعات قتلته وهو حي يرزق، لمجرد دخوله لقسم الإنعاش بالمستشفى العسكري بالرباط.
الفقيه البصري.. ولد في ربوة ودفن في ربوة
كان ميلاد محمد البصري، الملقب بالفقيه، سنة 1925 في قرية «أدوز» بمنطقة تشكل نقطة وصل بين سلسلة جبال الأطلس قرب مدينة «دمنات»، من أب ينحدر من منطقة الأطلس المتوسط التي يتكلم سكانها اللهجة الأمازيغية، وأم تنحدر من سوس.
نشأ في وسط ديني صوفي يتسم بالتنوع/ فالأب ينتمي إلى الزاوية الداودية/الكتانية، في حين كانت الأم محسوبة على الزاوية الناصرية. وهكذا لقنه والده الأمازيغي تعاليم الإسلام ومبادئ اللغة العربية إلى الحد الذي كان يمنعه من التكلم بغيرها، وكذلك علوم النحو ومتون الفقه الإسلامي في المدارس العتيقة كما جرت العادة عند القبائل الأمازيغية منذ مئات السنين.
في قرية «أدوز» التي تعني بالأمازيغية الربوة أو المكان المرتفع، عاش محمد طفولته بين الركض في المراعي والتجوال في روابي تقع على السفوح الشمالية لجبال الأطلس الكبير، وترتفع على مستوى البحر بـ850 مترا.
تبعد القرية عن مدينة أزيلال بحوالي 44 كلم، وعن دمنات بـ 28 كلم، ويعد مسقط رأس هذا الزعيم السياسي، وجهة سياحية معروفة على الصعيد الوطني والدولي على غرار قرى مجاورة كـ «امي نفري وشلالات «أوزود» الشهيرة وسد مولاي الحسن الأول وسد بين الويدان.
وكباقي سكان الأطلس ذوي الجذور الامازيغية، لم يكن بيت البصري يخلو من كرم الضيافة وحسن استقبال الضيوف وحتى الغرباء منهم وعابري سبيل، ورغم بساطة المنازل القديمة المبنية من الطين والحجر، فهذا البناء كان يضفي عليها حلة زاهية. لكن أبناء المنطقة عرفوا بحسن تحصيلهم العلمي، وإقبالهم على العلم في الكتاتيب القرآنية والمدارس العتيقة وبعدها في المدارس العصرية.
«قبل الالتحاق بمعهد ابن يوسف بمراكش ليساهم بشكل كبير في قيادة النضال ضد الباشا الكلاوي -أحد باشوات العهد الاستعماري، كان البصري معبأ بالروح الوطنية، في أجواء تعبق بأصداء ما صنعه أبطال المقاومة والجهاد المغاربة من ملاحم في مواجهة القوى الاستعمارية فرنسية كانت أو إسبانية على يد محمد عبد الكريم الخطابي في الريف، وأحمد الهيبة في الجنوب، وموحى وحمو الزياني في الأطلس.
جلال السعيد.. الوفاء لقبيلة السماعلة
منذ اعتزاله السياسة، اختار جلال السعيد الوزير السابق والأستاذ الجامعي الإقامة بين حقول قبيلة السماعلة، ظل الرجل يعبر عن اعتزازه ببدويته، ومنها تولد دفاعه المستميث عن أبناء قبيلته التابعة لدائرة وادي زم بإقليم خريبكة، بل إنها كانت الدافع الذي جعله لا يتنازل عن اللغة العربية في مداخلاته بكل المحافل، رغم أنه تربى وتعلم في الجامعات الفرنسية.
عاش الرجل حياته في صمت فقد أسره سكون البادية التي انطلق منها محتشما نحو الوجاهة وأضحى الرجل الثالث في تراتبية الدولة، في منزله القروي يعكف على كتابة مذكراته ومراجعة أوراقه والغوص في دهاليز القانون. ظل الرجل عاشقا للعلم والخيل إلى أن أسقطته قرعة ثلث المستشارين.
يقول عنه صديقه فاروق النبهان: «جلال أستاذ جامعي وسياسي قدير، ولم أعرفه من خلال عملـه الأكاديمي كأستاذ بكلية الحقوق، وإنما عرفته من خلال عملـه كوزير، ولاحظت نشاطه الواسع وتعلقه بالسياسة، وانتخب رئيسا لمجلس النواب وكان يتمتع بحكمة ودراية واسعة، ثم انتخب رئيسا لمجلس المستشارين وهي الغرفة الثانية في السلطة التشريعية بعد أن وقع تعديل الدستور وإنشاء مجلس المستشارين، وكان الحسن الثاني عندما وقع الضغط عليه لكي ينتخب مجلس النواب كله مباشرة من الشعب، وليس عن طريق انتخاب الثلث من المجالس المحلية والهيئات المهنية، أدخل تعديلا على الدستور وأقر بموجب هذا التعديل إنشاء مجلس المستشارين، وتم انتخاب الدكتور محمد جلال السعيد رئيسا وهو من الشخصيات التي تحظى بدعم من وزير الداخلية صاحب النفوذ المطلق في البلاد ادريس البصري، وكان هذا الوزير يمسك بمفاتيح السلطة كلها، ويختار الشخصيات التي يمكن لـه أن يتحكم في كل القرارات عن طريقها».
كان جلال السعيد من الشخصيات التي تملك مؤهلات واسعة وكفاءات متعددة وولاؤه مطلق للقصر، وهذه ظاهرة عامة في المغرب، ولدى كل المسؤولين، ولا تسند أية سلطة إلا لمن تقع الثقة بولائه المطلق، وينتمي الدكتور جلال إلى الحزب الدستوري.