لماذا أًقبرت روايات المخزنيين عن توقيع معاهدة الحماية؟
مع telemaroc
إذا كان يوجد موضوع محرج لمن يمكن أن نُسميهم مثقفي القرنين 19 والعشرين في المغرب، فهو بكل تأكيد موضوع توقيع معاهدة الحماية.
إذ أن توقيع المولى عبد الحفيظ على نص المعاهدة مع الفرنسيين يوم 30 مارس 1912، سبقته الكثير من الترتيبات التي جعلت موظفي المخزن وقتها ينقسمون حسب ولائهم الفكري.
المولى عبد الحفيظ، الذي جاء إلى القصر الملكي في فاس محمولا على أكتاف أنصاره من أكثر المحافظين المغاربة كرها لفرنسا والأوربيين عموما، وجد نفسه مجبرا على التوقيع، ولم يتحرك العلماء للإحاطة به لأنهم كانوا ببساطة يعرفون تقديرات المرحلة وخطورة الدخول في مواجهة مع فرنسا والبلاد تعيش أزمة خانقة وعدم استقرار سياسي وغيابا للجيش.
لهذا السبب تعامل العلماء مع المولى عبد الحفيظ بنوع من اللين مقارنة مع الطريقة التي تعاملوا بها مع أخيه قبل ست سنوات فقط، عندما طالبوا بإسقاطه عن العرش بسبب صداقته مع البريطانيين.
الجيل الذي أسس الحركة الوطنية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وُلدوا في هذه الظروف، ومنهم من قضى طفولته في مدينة فاس أو الرباط، حيث كان النقاش مستفيضا حول ملابسات وظروف توقيع معاهدة الحماية مع فرنسا.
أين هي ارتسامات عدد من المخزنيين المغاربة، بين موظفين وعلماء، ممن كانوا يرون أن توقيع معاهدة الحماية كان هو الحل الأسلم، والأقل ضررا خلال تلك الفترة؟ لا أحد يعلم تحديدا. لكن أمثال المهدي المنبهي، الوزير المغربي المخضرم المُطاح به من أكبر منصب في المغرب بسبب عدم الاستقرار السياسي وبروز حركات التمرد والعصيان والاغتيالات، والذي كان يقيم في مدينة طنجة، كان يرى أن توقيع معاهدة الحماية بالصورة التي عُرضت بها على المولى عبد الحفيظ كانت الأسلم للمغرب، خصوصا وأن فرنسا ضربت عسكريا في الدار البيضاء سنة 1907 وحولت المدينة حرفيا إلى رُكام. بالإضافة إلى ازدياد أطماع الألمان، وتخلي الإنجليز عن دعم موقف الدولة المغربية، كلها عوامل جعلت المولى عبد الحفيظ يوافق على توقيع المعاهدة التي لم تكن تلمح وقتها نهائيا إلى «الاستعمار» بقدر ما كانت تنظم علاقة بين البلدين بخصوص تقديم الحماية وتمثيل المغرب.
وليس المهدي المنبهي من كان من أنصار التوقيع، بل كان هناك علماء من القرويين كانوا يعملون بمبدأ «أخف الأضرار»، لكن مواقفهم تلك عمل منظرو الحركة الوطنية الأوائل سنة 1937 على مسحها من الذاكرة. وهؤلاء لديهم عذرهم أيضا، إذ أن فرنسا لم تلتزم بمضامين المعاهدة، وعملت بداية أربعينيات القرن الماضي على تغيير سياستها مع المغرب وحاولت تطوير المعاهدة لتصبح سيطرة اقتصادية وعسكرية على المغرب ومنع كل أشكال استقلال المغرب عن فرنسا فكريا واجتماعيا. وهو ما يفسره الخطاب الذي رفعه الملك الراحل محمد الخامس إلى الإقامة العامة سنة 1943 محتجا على تغيير فرنسا لسياستها مع المغرب وإصرار الإدارة على تمرير قوانين وإجبار القصر الملكي على قبولها، حيث طلب الملك الراحل من فرنسا مراجعة المعاهدة لأنها لم تعد تناسب المغرب ولا المغاربة.
وهكذا أصبحت بنود المعاهدة الأصلية منسية تماما. وأكبر مستفيد من إخفاء المعاهدة وطمسها هم الفرنسيون أنفسهم، ثم مؤسسو الحركة الوطنية الذين عملوا بدورهم على إقبار تلك النقطة من التاريخ، وعدم العودة إليها ولو لأخذ العبر.
اعترافات مثيرة من قلب كواليس الإعداد للتوقيع
«إن الضرورة تدعو إلى التعجيل بالإصلاحات العسكرية والضريبية، ويدخل في مصالحنا الحيوية أن تتم تلك الإصلاحات تحت إشراف منا وتوجيه. وينبغي أن نقول لأوروبا ما نريد بكل وضوح: في مقابل اعترافنا من غير أي خلفيات، بمبدأ الباب المفتوح في مجال الاقتصاد ينبغي أن تقر لنا بالحق في مساعدة السلطان على تقوية الأمن والسلم في مملكته، من غير أن نظل نلقى منها العراقيل على الدوام في هذا العمل الحضاري الذي يخدم الجميع. فلنبذل التضحيات اللازمة، ولنمض قدما على الدرب. وإلا فلنصرف نظرنا عن سياستنا في المغرب، ولنخل المجال للآخرين.. ولنختف من على الساحة».
يصعب فعلا وأنتم تتأملون هذه السطور أن تنسبوها إلى صاحبها. بل يمكن أن تختلط الأمور لولا السطر الأخير، ويعتقد البعض أن الكلام هنا لشخصية مغربية من دائرة موظفي المخزن أو أحد الأعيان. بينما الأمر في الحقيقة يتعلق بمقتطف من مذكرات «فريدريك وايسجربر».
هذه الأسطر تكشف إلى أي حد كانت فرنسا، على اعتبار أنه يتحدث بصفته مسؤولا، تعتبر الدخول إلى المغرب تحديا استراتيجيا لها، وكأن مستقبل البلاد يهمها كثيرا. بل إن مستقبل فرنسا كلها كان وقتها رهينا بمستقبل المغرب. وهذا الأمر كان واضحا جدا من خلال هذه المذكرات.
بل يضيف مواصلا، في النسخة المترجمة للباحث المغربي عبد الرحيم حزل: «.. وقد كانت لي في شهر شتنبر كذلك مشاركة في العملية التي باشرها رتل داليبي لإقامة حامية مخزنية في صفرو. ثم شاركت بصفتي طبيبا متطوعا للقوات الشريفة في العمليات التي كانت من رتل بريمون على آيت يوسي. وفي أكتوبر رجعت إلى فرنسا لأضع آخر اللمسات على خريطتي لجهة مراكش. وفي 4 نونبر وقع السيدان جول كامبون وكيديرلين فايشتر في برلين على الاتفاق الذي يقر لنا بحق في إقامة نظامنا للحماية في المغرب. وبُعيدها جاءت مصادقة السلطان على ذلك الاتفاق برسالة بعث بها إلى وزيرنا للشؤون الخارجية السيد دو سيلف. وها إننا قد خلا لنا المجال في المغرب».
لهذا السبب ربما اختلطت القبعات التي كان يضعها «فريدريك وايسجربر»، فهو مرة يتحدث عن رسالة الطب واشتغاله لمصلحة الدولة المغربية، وتارة أخرى يكشف، ربما دون أن يشعر، عن تعصبه لموقف بلاده، إلى درجة أنه اعتبر ما وقع انتصارا دبلوماسيا لفرنسا.
لكن بعض المتخصصين المغاربة، طرحوا مشكلة أخرى تتعلق بالتحوير الذي عرفته مضامين معاهدة الحماية، وكيف وضعت بطريقة سهلت تجاوزها لاحقا، لكي تتحول من معاهدة ظاهرها صداقة مع المغرب وحماية لمصالح مشتركة، إلى مخطط استعماري قاد البلاد إلى الأحداث المشحونة بعد أزيد من أربعين سنة على يوم التوقيع. وهو ما يجعل معاهدة الحماية بين المغرب وفرنسا من أكثر المعاهدات إثارة للجدل عالميا في القرن الماضي.
ما حاولت «الحماية» إقباره..
ينقل الطبيب «وايسجربر» شهادته على التمهيد لتوقيع معاهدة الحماية متحدثا عن سوء فهم بين مسؤول حكومي فرنسي والسفير، حيث اتهمه بالتقاعس وحمله مسؤولية بعض الأخطاء. ثم انتقل للحديث عن ترتيبات توقيع معاهدة الحماية متحدثا عن تجربته الشخصية. يقول في هذه المذكرات: «تركت السفارة طنجة في 16 مارس 1912، ووصلت إلى فاس في 24 منه سالكا إليها طريق القصر - قرية الحباسي – مشرع بلقصيري – سيدي کدار – باب تيوكة – بني عمار. وقد كان السلطان أرسل إليها في طنجة خفراً من بعض المخازنية يتقدمهم قايد من قياد الرحا، وخيلاً ودواب للركوب وخياما وحشيات وزرابي وأعطى أوامره إلى القبائل أن تمدها بالمونة في كل مرحلة من تلك الرحلة.
ففي المركز الأول للمنطقة التي يحتلها الجنود الإسبان بقرب سيدي اليماني، في منتصف الطريق بين طنجة والقصر أو نحوه، قدم لنا التحية خفر من أربعين فارساً من فيلق «كاثادوريس دي بيكتوريا» تحت إمرة قائد وملازم أول، ثم سار يتقدم الرتل. فلما وصلنا القصر حيتنا الجالية الفرنسية التي جاءت للقاء وزيرنا على بعد فرسخ من المدينة، وتلقاه الكولونيل سيلفستر بطل سانتياغو دي كوبا، الذي اختفى في ظروف مأساوية في أنوال، بكثير من اللطف وقدم له الحامية ثم قاده حتى اللوكوس. وسار قناصو بيكتوريا يخفروننا لبضعة كيلومترات، إلى أن جئنا الموضع حيث كان ينتظرنا طابور الخيالة الشريفة في معسكر عرباوة الذي يتولاه القائد فاري . وقد تلقى السيد رينو في أربعاء سيدي عيسى التحية من السيد بواسي وقياد الغرب وأعيانه. وقطعنا وادي سبو على متن قارب حتى مشرع بلقصيري . وفي دار الزراري وجدنا الجنرال موانيي الذي قدم من الرباط لملاقاة وزيرنا. وفي نزالة فراجي، وهي آخر مرحلة إجبارية تقطعها السفارات، على بعد أربعة كيلومترات من فاس، أرسلت الحكومة الجنرال بويو الذي كان وصل لتوه من مكناس، ليسلم إلى الجنرال موانيي حمالة وسام الشرف، والتقينا هناك قنصلنا في فاس وضباط البعثة العسكرية.
كان السيد رينو لا يفتأ أثناء تلك الرحلة يرد عليه الرقاصة بقصاصات الأحداث. وذات مساء – أظن في مرحلة الفوارات – جاء في واحدة من هذه الرسائل التي أمر السيد رينو بقراءتها على المائدة خبر بنهب قطيع خرفان في ملوية وتراشقات رصاص بين جنودنا واللصوص. فلما فرغنا من العشاء اختلى بي م. ب، وزيرنا الشرفي مطلق الصلاحية جانبا ليستشيرني في إمكانية الانعراج لتحاشي «ذلك الملوية». وما ذهب عنه تشنجه وعاد إليه هدوؤه إلا بعد أن تبين في خارطتي المسار الذي نسلكه وموضع ملوية».
ما نقله هذا الطبيب في مذكراته بخصوص الوصول إلى فاس، حيث جرى الضغط بحضور المسؤولين الذين أشار إليهم، وبحضور آخرين لاحقا، على باريس للتعجيل بالترتيبات حتى تسرع الحكومة الفرنسية في إجراءات وضع مضامين المعاهدة وتمريرها لكي يوقع عليها المسؤولون مع سلطان المغرب.
ما حاولت فرنسا إخفاءه بهذا الخصوص يتعلق تحديدا بالعمليات العسكرية التي بوشرت في تلك الفترة بالذات. ففي الوقت الذي وصف فيه هذا الطبيب، الذي يتوفر على خبرة عسكرية أيضا، مراحل الرحلة وأجواء الوصول إلى فاس، على بُعد لحظات فقط من كتابة التاريخ، كانت قوات عسكرية فرنسية ترتكب مجازر في المغرب تحت يافطة استتباب الأمن واستغلال الضعف العسكري للبلاد، حيث كان إفلاس خزينة الدولة يحول ودفع أجور الجيش المغربي، وهو ما جعل القبائل تدخل في حالة هيجان. وتدخلت فرنسا لحماية مصالحها حتى قبل توقيع معاهدة الحماية. أما بعد 30 مارس 1912، فقد أصبح الجيش الفرنسي يقوم بعمليات مُعلنة، بل ويضع خططا حربية ويبحث عن تحالفات مع القبائل لتطهير المغرب من أي تمرد تقوده القبائل، ووجد في تحالفه مع المدني الكلاوي والقياد التابعين له، خير سند لتنزيل المخطط العسكري، الذي جعل معاهدة الحماية تبدو مجرد إجراء على الورق لا يمت بصلة لما كانت تخطط له فرنسا على أرض الواقع.
لماذا انتقلت العاصمة من فاس إلى الرباط؟
من أكبر القرارات التي أربكت حسابات موظفي المخزن بعد 30 مارس 1912، القرار المتعلق بنقل عاصمة المغرب الرسمية من فاس إلى الرباط.
فهذا القرار السياسي الذي حمل في طياته الكثير من الإيحاءات، كان بمثابة قطيعة مع المرحلة التي كانت فيها فاس عاصمة للمغرب، ونُقلت إلى الرباط الوجه الجديد للسلطة ومستقبل الوجود الفرنسي في المغرب، حيث كانت الرباط وقتها تعيش على إيقاع تشييد البنايات الفرنسية، شأنها شأن الدار البيضاء.
قد يبدو أن نقل العاصمة إلى الرباط الغرض منه بدء صفحة جديدة من سلطة فرنسا في المغرب. لكن تأمل هذا التحول يفضي إلى ضرب صارخ في مضمون معاهدة الحماية التي أبرمت في فاس، ونقل العاصمة إلى الرباط يعني بشكل أو بآخر، تبرؤا مما وقع في فاس أو محاولة لطيه على الأقل.
وهذا ما وقع فعلا. إذ أن فرنسا كانت ترغب في طي المرحلة. الأزمة الداخلية قادت إلى تخلي المولى عبد الحفيظ عن السلطة حيث غادر إلى طنجة مبتعدا عن الزوبعة التي أحدثتها فرنسا في المغرب بمجرد انتهاء مراسيم التوقيع.
ومع مجيء المولى يوسف إلى السلطة، وانتقال القرار السياسي إلى الرباط، حتى ظن الفرنسيون أن القطيعة قد حدثت فعلا بين السلطة الجديدة وطبقة علماء فاس ووزرائها القدامى الذين كانوا يتقاسمون كرههم لفرنسا وجيشها ووجودها في المغرب ولو دبلوماسيا.
ما وقع أن أهل الرباط الذين وجدوا أنفسهم أصحاب العاصمة الجديدة للسلطة، كانوا أمام فرصة سانحة جدا للانتقام من زمن هيمنة الفاسيين، لكن الأمر لم يدم طويلا.
إذ أن الترتيبات الجديدة نقلت بعض الوجوه الفاسية إلى الرباط، وتم الإبقاء على عائلات رباطية قديمة في سلك المخزن مثل أسرة بركاش والصبيحي وفرج، حيث كان هؤلاء رفقة آخرين، ممن يحملون أصولا فاسية ومشرقية، فروا من فاس هربا من تصفية الحسابات وكونوا جيلا جديدا من المسؤولين لم يكونوا يتقاسمون نفس الاهتمامات مع الفاسيين.
أما فئة التجار الفاسيين بعد توقيع معاهدة الحماية، فقد فضلوا رعاية أعمالهم التجارية، ومنهم من كانوا يبرمون صفقات بآلاف الفرنكات وقتها مع شركات أجنبية، ومنهم من انتقل للعيش في أوروبا تاركين خلفهم «فوضى» شلت مدينة فاس لفترة قبل أن تستعيد نخبتها توازنها القديم مع اقتراب ميلاد الحركة الوطنية الرافضة لمعاهدة الحماية.
أما في الرباط، فقد كان وصول المولى يوسف إلى السلطة، مرحلة جديدة من الحكم في المغرب، إذ كان الظاهر أن معاهدة الحماية تؤطر علاقة المخزن بفرنسا وتحميه من محاولات دول أجنبية التدخل وتقسيم البلاد، ولكن واقع الأمر أن الجيش الفرنسي كان يقوم بعدد كبير من التجاوزات والانتهاكات، والتي لم تظهر على السطح إلا بعد ارتفاع وتيرة القمع الفرنسي لقبائل الأطلس مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي، وكان وقتها المغرب قد دخل مرحلة حكم المولى محمد بن يوسف، والذي سوف يخوض شخصيا حربا ضد معاهدة الحماية ويطالب بإلغائها.