جوانب خفية من حياة الراحل عبد الرحمان اليوسفي
مع تيلي ماروك
«في جنازة عبد الرحيم بوعبيد في يناير 1992، وقف عبد الرحمن اليوسفي حاملا مكبر الصوت ليخطب في المتجمهرين ملقيا كلمة تأبين في حق بوعبيد الذي قاد الاتحاد عبر بحر متلاطم من الأحداث. وقتها وفي تلك الجنازة، دخل الاتحاد الاشتراكي رسميا في مرحلة عبد الرحمن اليوسفي.
صعب المراس؟ نعم. كان يقسو على نفسه مرات كثيرة. حتى أنه عندما كان في قمة تعبه الجسدي في سنة 2015، بقي مصرا على ممارسة رياضة المشي الصباحية في شاطئ عين الذياب بالدار البيضاء.
وقتها التقيته في السابعة صباحا، وذكرته بنفسي على إثر لقاء سابق. أشهر يده في وجهي مُظهرا أثر مداد الجرائد على أصابعه.
لقد بقي عبد الرحمن اليوسفي وفيا للصحافة التي قادته إلى أول تجربة اعتقال سنة 1959 وأدمن الجرائد بعد أن جرّب متعة إصدارها ومطالعتها قبل أن يبرد المداد فوق بياضها.
عندما أصبح عبد الرحمن اليوسفي وزيرا أول، كان في الحقيقة يحاول الشفاء من الجروح القديمة التي خلفها النضال الطويل والطيران عبر المطارات ابتعادا من الأحكام الثقيلة.
في سنة 1980 سقطت عنه التهم وعاد إلى المغرب ليعانق والدته.. السيدة التي انتظرته أكثر من أوراقه الشخصية في المنزل، وحالت بينها وبين «زوار الليل» الذين كانوا يأتون للبحث عنه في عز سنوات الرصاص.
برحيله اليوم عن دنيا الناس هذه، يكون المغرب قد فقد واحدا من آخر من أمسكوا ثوب الذاكرة الجماعية، ليسدل الستار على تجربة تأرجحت بين الاحتجاج والمعارضة من المنافي. ست وتسعون سنة كاملة انطلقت من طنجة وانتهت في قلوب محبيه وحتى خصومه الذين ناصبوه العداء وصناديق الاقتراع..».
كان صوت عبد الواحد الراضي يصل متهدجا في الطرف الآخر من المكالمة. الرجل الذي ورث قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عن عبد الرحمن اليوسفي عندما غادر الحياة السياسية سنة 2002، منهيا تجربته الحكومية لتأتي بعدها حكومة إدريس جطو، أكّد خبر وفاة عبد الرحمن اليوسفي منذ الدقائق الأولى لتسرب الخبر قبل أن يُنشر في المواقع الإلكترونية.
ما هي أهم ذكرى تحفظها لعبد الرحمن اليوسفي الآن؟ هذا السؤال يجب طرحه على كل الذين اشتغلوا مع عبد الرحمن اليوسفي معارضا ثائرا وغاضبا ووزيرا أول. لكن عبد الواحد الراضي يرد: «في الحقيقة علاقتي بسي عبد الرحمن اختلط فيها الإنساني بالسياسي.عرفته سنة 1959، واقتربت منه أكثر سنة 1964 في البرلمان عندما قدمنا ملتمس الرقابة».
لقد كانت سنوات شائكة يتطلب فيها قول«لا» في البرلمان، الإعداد دائما للأسوأ.
الطلاق مرة فقط!
عندما بدأ عبد الرحمن اليوسفي حياته السياسية في حزب الاستقلال، كان يعكس رأي الشباب المتحمس والمثقف. فوران في دمه وهو يحاول البحث عن موضع قدم يناسبه في الدار البيضاء، من خلال الاشتغال النقابي، قادما إليها من طنجة، جعله مرات كثيرة يخرج عن الخط الذي ترسمه القيادة في الحزب. لذلك كان من أوائل من التحق بالمهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم ليكون في صف المنفصلين الأوائل عن حزب الاستقلال والمتحمسين لتجربة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
ينقل عبد الواحد الراضي في مذكراته، ولا شك أنه سيستعيد هذه اللحظة التي تعود لسنة 1959، وهو يطالع وفاة اليوسفي، موقف الأخير من تأسيس تجربة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. إذ قال وقتها اليوسفي للراضي في جلسة صفاء وهما يستعيدان محطات جمعتهما معا في الحكومة والمعارضة، إنه لم يكن ينتظر أن تأتي سنة 1959 لينفصل عن حزب الاستقلال ويلتحق بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وإنما طلّق حزب الاستقلال منذ 1956.
موقف يمكن أن يلخص لنا حياة عبد الرحمن اليوسفي، و«مراسه الصعب» الذي كان يثير إعجاب المحيطين به تارة، وغضبهم تارة أخرى. لأن هدوءه كان مزعجا، ولم يفلح كل قادة الحزب في إقناعه مرات كثيرة بالعودة إلى المغرب إن هو حزم حقيبته، احتجاجا على تزوير الانتخابات كما وقع في تجربتي 1980 و1995. لم يكن لديه موقف وسط ولا طريقة للسباحة مع التيار. كان يفضل ألا يسبح أساسا. وهذا ما جعل الملك الراحل الحسن الثاني يراهن عليه سنة 1998 ليقود تجربة التناوب. أقنعه الملك الحسن الثاني بخوض التجربة وهو خارج لتوه من عملية جراحية على مستوى الرأس.
الرقن بالرصاص في الصحف
كان يخط أسطر افتتاحية رئيس التحرير في مكتبه، وهدير المطبعة يصل إليه منتظما. بينما صوت آلة الكتابة يمزق الفضاء وكأنه رصاص يوقظ فيه حس استباق الخطر القادم. إنه عبد الرحمن اليوسفي سنة 1959. شاب في الخامسة والثلاثين. مُنعت الجريدة التي كان يديرها رفقة رفيقه محمد الفقيه البصري، «التحرير»، لسان حال حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وسُجنا بسبب المقال ووجهت إليهما معا تهمة التحريض على العنف والنيل من الأمن الوطني. رغم أن الافتتاحية كانت واضحة. تطالب بـ«الديموقراطية».
لم يُطلق عبد الرحمن اليوسفي الجرائد، بل ظلت رفيقته طيلة حياته، في منزله ومنفاه. حتى أنه خلال المرات التي اشتد فيها عليه المرض، كان مداد الصحف لا يغادر أصابعه التي بصم بها الحياة السياسية في المغرب.
طنجة..
انتهى عندها المغرب وبدأت فيها حياة عبد الرحمن اليوسفي سنة 1924، وهي اليوم مدينة تخصص لاسمه شارعا بارزا يخترق أحد أهم جهاتها وأكثرها نشاطا. قضى بها طفولة، مع أم رؤوم كانت ترى في عبد الرحمن خلاصا من نوع. اضطر، لكي يواصل دراسته، إلى الانتقال في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي إلى مدينة مراكش لكي يواصل دراسته، وهناك تعرف على امحمدبوستةومحمد بنهيمة الذي كان وزيرا للخارجية. كان كل الذين يدرسون مع اليوسفي، الذي هاله الفرق الكبير بين مراكش التي كان يسيطر عليها الباشا الكلاوي خلال الثلاثينيات، وبين طنجة التي كانت منطقة دولية منفتحة على أوربا والأوربيين والأمريكيين. لكنه رغم ذلك فضل البقاء فيها. ولأنه كان يحصل على نقط مشرفة، فقد منحه المدير فرصة الانتقال إلى الرباط، حتى يقلص المسافة بينه وبين والدته التي لم يكن يزورها إلا في العطل. لكنه اعتذر للمدير وواصل دراسته في مراكش التي يكتم الباشا على أنفاس أهلها، خصوصا الوطنيين منهم، إلى أن وصل إلى مرحلة الباكالوريا، حيث سوف ينتقل إلى ثانوية مولاي يوسف مع بداية الأربعينيات، وهناك سوف يكون له موعد مع التاريخ، ومع المهدي بن بركة.
تشرّد في شوارع الرباط
لم تكد سنة 1943 تلقي بظلالها على المغرب، حتى كان عبد الرحمن اليوسفي يحضر في الجلسات الأولى التي كان يتزعمها المهدي بن بركة. وتم استدعاؤه، أي اليوسفي، إلى منزل والدة المهدي بن بركة بحي «الكزا» في الرباط، بصفته رئيسا لجمعية قدماء الثانوية التي كان وقتها اليوسفي لا يزال تلميذا بها. تأثر اليوسفي بالمهدي بن بركة منذ البداية، كان هذا واضحا، من خلال الأسطر التي كتبها بودرقة نقلا عن اليوسفي.
أدى اليوسفي القسم على المصحف قبل الانخراط في حزب الاستقلال في دجنبر 1943، أي أياما قليلة فقط قبل إصدار عريضة المطالبة بالاستقلال، والتي كان اليوسفي قد تعرف فيها على اللحظات الأولى للفرار «النضالي» عندما حاصر البوليس الفرنسي التلاميذ الذين نزلوا إلى الشارع، وقال اليوسفي، في مذكراته التي عنونها بـ«أحاديث في ما جرى»، إنه جرب التشرد لأول مرة بعد الطرد من طرف مدير الثانوية، وكان اسمه السيد «رو»، بسبب المظاهرة التي انخرط فيها بعد إعلان عريضة المطالبة بالاستقلال.
وجد اليوسفي نفسه مرغما على مغادرة الرباط إلى أن تخلو الأجواء، ورافق ابن عائلة المقري، واسمه عباس المقري، واشتغل لاحقا بوزارة الخارجية وكان من أوائل الأطر الناطقين باللغة الإنجليزية، وهناك عاش حدثا مهما بسبب تدخل الفرنسيين لإخبار الباشا المقري، عم عباس، والذي كان باشا مدينة آسفي، أن ضيف ابنهم غير مرغوب فيه، ليعود لجمع حقيبته مرغما على المغادرة وسط إحراج كبير. وهنا سيجرب اليوسفي حياة التجول، لفترة قصيرة، ويقول إنه تلقى من أحد الذين التقاهم بالصدفة في آسفي، عرضا بالبقاء في آسفي والاستقرار بالزواج من دكالية، واحتار في قبول العرض والبقاء، أو رفضه والعودة إلى الرباط لاستكمال المسار الأكاديمي الذي رسمه لنفسه.
المرأة التي..
في حياة عبد الرحمن اليوسفي سيدتان. الأولى والدته «الطنجاوية» التي أحبته وأحب بعينيها الحياة، والثانية هي زوجته «هيلين». يعتقد الكثيرون أن اليوسفي تعرف على زوجته في فترة الدراسة بالخارج. لكن الحقيقة أن عبد الرحمن اليوسفي تعرف على «هيلين» في الدار البيضاء فقد كانت تعيش مع أسرتها في المدينة، ووالدها كان صاحب محل معروف للخياطة. كان عبد الرحمن اليوسفي مشاركا في مسرحية يقيمها التلاميذ بمناسبة نهاية السنة الدراسية سنة 1947، وكان يلزمه خياطة ثوب لدور النادل، ودلف إلى محل الخياطة لتدبر الموضوع، وهناك سوف يرى «هيلين» للمرة الأولى، وسوف يأتي إلى منزل عائلتها ليتناول معهم طعام العشاء. وهناك سوف تتوطد معرفته بالشابة «هيلين» التي سوف ترافقه منذ ذلك التاريخ خلال جميع محطات حياته السياسية منها والخاصة. رغم ألا فرق بينهما بالنسبة له، فقد كانت «حياة» واحدة أثرت فيها السياسة على كل شيء.
من السبورة إلى السياسة
المقربون فقط من عبد الرحمن اليوسفي، والذين قضوا معه مرحلة مبكرة من فترة الشباب خلال نهاية الأربعينيات، يعرفون أنه مارس التعليم لفترة قصيرة بعد حصوله على الباكالوريا. تلاميذ عبد الرحمن اليوسفي، هم أنفسهم الذين هتفوا باسمه سنة 1963، عندما اعتقل بعد مؤتمر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية حيث وجهت للجميع تهمة التخطيط لمؤامرة على النظام في المغرب، مطالبين بإطلاق سراحه.
وقد فوجئ وقتها المتتبعون للشأن الحزبي، عن سبب شعبية عبد الرحمن اليوسفي الشاب، في أوساط الشباب الذين يصغرونه بسنوات قليلة فقط. هؤلاء طبعا، لم يكونوا يدركون أن ذلك الشاب «الطنجاوي» الهادئ، كان يدرس أولئك الشباب المبادئ الأولى لممارسة المعارضة. وقد بدأ مسارهم من أمام السبورة السوداء في المدارس الحرة التي كانت تديرها الحركة الوطنية.
تجربة التدريس بالنسبة لعبد الرحمن اليوسفي توقفت في «القسم» لكنها استمرت معه طيلة سنوات ممارسته للعمل السياسي، فقد مر منها إلى تأطير جيل كامل من «الاتحاديين».
الوزير الخبير في المظاهرات
عندما عاد عبد الرحمن اليوسفي إلى الرباط، أصبحت لديه خبرة في المظاهرات، وهو ما استمر فيه حتى عندما غادر إلى فرنسا لدراسة الحقوق. فخلال المرحلة الطلابية، كان عبد الرحمن اليوسفي يحضر المظاهرات التي تحتج على السياسة الفرنسية في المغرب.
وفي بداية الخمسينيات، عاد اليوسفي إلى طنجة، حيث اشتغل محاميا بها ما بين سنوات 1952 و1960. ووقتها كان موضوع نفي الملك الراحل محمد الخامس في الواجهة. وكان على اليوسفي أن يترك مكتبه في طنجة، مرات كثيرة لكي ينزل إلى الدار البيضاء والرباط، ويشارك، ناسيا أنه صاحب بذلة لمهنة تفرض على أصحابها وقتها الكثير من الوقار، ويكون في الصف الأول لمن تأتي «هراوات» البوليس الفرنسي على ظهورهم.
حتى أنه، من خلال عضويته في حزب الاستقلال، طيلة الفترة ما بين 1943 و1959، كان يتزعم الأنشطة الطلابية والعمالية الأولى، ولم يمنعه من حضور بعض الأحداث التاريخية خلال بداية الخمسينيات، سوى التحاقه بأوروبا لدراسة القانون.
عبد الرحمن و«الآخرون»
سكان منطقة «بورغون» و«بولو» بالدار البيضاء، القدامى منهم على وجه الخصوص، لا بد وأنهم يتذكرون عبد الرحمن اليوسفي، الشاب الذي كان يتعقبه الأمن ومخبرو الأجهزة السرية ما بين سنوات 1962 و1963. إذ كان المنزل الذي تقطنه والدته يتعرض لحملات تفتيش مباغتة بحثا عن عبد الرحمن اليوسفي الذي كان مبحوثا عنه أكثر من مرة، سواء سنة 1959 بسبب افتتاحية جريدة المحرر أو خلال 1963 حيث اعتقل من داخل مقر المؤتمر الذي عقده قادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكان اليوسفي على المنصة رفقة أسماء من طينة عبد الله إبراهيم ومحمد الفقيه البصري والشيخ محمد العربي العلوي.
زوار الليل، كانوا يبحثون في أغراضه الخاصة بحثا عن الأدوات التي اتهم بأنه سوف يقلب بها النظام. وكان وقتها مسؤولا عن الجريدة، واستمرت تلك المباغتات لمنزل والدته حتى عندما غادر المغرب هربا من الحكم الغيابي الذي صدر ضده بالإعدام قبل أن يصدر عفو عنه سنة 1980.
كان معروفا عن والدة اليوسفي، أنها لم تكن تخشى البوليس السري، وكانت تحول بينهم وبين ابنها مرات كثيرة. عندما عاد إلى المغرب سنة 1980، كانت هي في استقباله، حيث قبّل رأسها في المطار، في صورة شهيرة ومؤثرة، وكأنه يعتذر منها عن السنوات التي قضتها بدونه وهي تتصدى لدوريات البوليس الذين يأتون ليلا ونهارا لتفتيش منزلها بالدار البيضاء بدون مذكرة.
تاجر السلاح
عندما تفجر الوضع بين حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والنظام، وأصبح جل قيادييه مطلوبين أمنيا بتهمة حيازة السلاح والتخطيط لانقلاب في المغرب منذ 1963، وازداد تعقيدا بعد اختفاء المهدي بن بركة سنة 1965، كان عبد الرحمن اليوسفي قد قرر بعد تجربة السجن، أن يستقر في منطقة «كان» حيث عائلة زوجته التي غادرت الدار البيضاء بعد الاستقلال. هناك كان اليوسفي يتابع أخبار المغرب، ويحل بباريس ليلتقي بالفقيه البصري وبقية الرفاق «الهاربين» من الأحكام الغيابية.
كانت الأجهزة السرية في التقارير التي ترفعها عن اليوسفي ورفاقه تصنف الرجل على أنه مسلح وخطير، رغم أنه كان في الأصل محاميا متعلما ورجل سياسة ومسؤولا عن جريدة يقارع بالأفكار وليس بالخراطيش.
تلك التقارير، تقول إن عبد الرحمن اليوسفي كان يرحل إلى سوريا والجزائر ليزور أعضاء الحزب الذين كانوا يتدربون على حمل السلاح والقيام بأعمال مسلحة في المغرب. وعندما فشلت ثورة 23 مارس 1973 واعتقل عدد من الذين شاركوا فيها وتسللوا من الجزائر حيث تدربوا فعلا على حمل السلاح، إلى المغرب، كان المحققون يسألونهم الواحد تلو الآخر، عن ضلوع عبد الرحمن اليوسفي في تلك الأحداث وما إن كان قد وجههم نحو أهداف معينة. لكن أجوبتهم كانت مخيبة لمن أراد إغراق اليوسفي وإنهاء مستقبله السياسي. فقد كانت خلايا الثورة تنسق مع تيار محمد الفقيه البصري ومحيط ثقته، ولم يستطع أغلب الشبان المشاركين تأكيد ضلوع عبد الرحمن اليوسفي في التخطيط.
لاحقا، سوف يبرز أن تيار محمد الفقيه البصري قد استقل تقريبا عن الاتحاد الذي يقوده عبد الرحيم بوعبيد داخل المغرب، ويراقبه عبد الرحمن اليوسفي بحماس من الخارج، حتى أنه في منتصف السبعينيات كان هو الممثل الرسمي لحزب الاتحاد الاشتراكي، الاسم الجديد للحزب، في الخارج.
وفي سنة 1998، عندما دخل عبد الرحمن اليوسفي تجربة التناوب وكلفه الملك الحسن الثاني بقيادة الحكومة وتشكيلها، كان يستقبله أولا بالقصر الملكي في الرباط. كان وقتها الملك الحسن الثاني يريد تذويب الجليد، وجر عبد الرحمن اليوسفي إليه ليقدمه إلى الأمير سيدي محمد، ولي العهد، وقدمه له بصفة «عمك عبد الرحمن اليوسفي»، ووصفه بتاجر السلاح ممازحا. لقد كانت تلك الصفة تلخص كل شيء، وبرأه الملك الراحل الحسن الثاني منها بتلك الدعابة.
منفى اختياري أم «انتقامي»
كان عبد الرحمن اليوسفي يعلم بعد تجربتي الاعتقال، سنة 1959 ثم 1963، أن الأجهزة السرية تتربص به. واختار أن يبتعد عن الأجواء، بتوصية من المهدي بن بركة. فقد كانت الكماشة تضيق كل يوم. لكنه سنة 1965، يوم اختطاف المهدي بن بركة، كان حائرا لا يدري ماذا يفعل. وفي 1966، عندما انطلقت المحاكمة في باريس للبت في مصير بن بركة وملابسات اختفائه، كان عبد الرحمن اليوسفي يجمع حقيبة صغيرة، ويتوجه إلى باريس، وهو مدرك أن حضوره في المحاكمة كطرف مدني شاهد على آخر ما جمعه بالمهدي بن بركة قبل اختفائه يعني أنه لن يحلم مرة أخرى بزيارة المغرب. خصوصا وأن الصحافة الدولية كانت تتابع تلك المحاكمة من باريس. وكان اليوسفي يتهم النظام بالتورط في اختطاف واختفاء أستاذه المهدي بن بركة.
خمس عشرة سنة سوف يقضيها اليوسفي بعد ذلك التاريخ في منفاه الاختياري، إلى أن صدر عفو عنه سنة 1980، وعاد إلى المغرب بنية اقتحام الانتخابات من طرف الحزب وقيادة تجربة حكومية في المغرب رفقة بوعبيد والآخرين، وهو ما لم يتم طبعا. كان اليوسفي يجمع حقيبته غاضبا في كل مرة، حتى في تجربة 1995، ويغادر صوب «كان» تاركا رفاقه في حرج مع الملك الحسن الثاني الذي يرسل لليوسفي في كل مرة من يحاول إقناعه بالعودة إلى الرباط، لبدء صفحة جديدة لم تفتح إلا في سنة 1998.
من العملية الجراحية إلى قيادة التناوب
رغم فشل المحاولات لجعل اليوسفي ينخرط في اللعبة السياسية بغير شروطه، إلا أن الرجل كان لديه دافع قوي لترك الباب مفتوحا. خصوصا وأن الملك الراحل الحسن الثاني كان يخبره بالواضح أنه يعول عليه، لقيادة تجربة التناوب وإنقاذ البلاد من السكتة القلبية.
أحد الذين قادوا الاتصال بين الملك الحسن الثاني وعبد الرحمن اليوسفي كان هو الوزير في حكومة الحسن الثاني منذ 1987، عبد الواحد الراضي، الذي بدأ بوزارة التعاون وانسحب بعدها بقرار حزبي من الحكومة، واحترم فيه الحسن الثاني وضوحه. واختاره لكي يتصل باليوسفي ويقنعه.
أرسل الملك الحسن الثاني مستشاره السلاوي إلى اليوسفي وهو يغادر للتو غرفة العمليات، ليخبره أنه يتعين عليه العودة إلى المغرب لخوض تجربة التناوب. ورد وقتها اليوسفي بأنه مريض ولا يستطيع دخول المغرب. معتذرا عن التجربة بتحفظ بسبب «تزوير» الانتخابات الذي كانت تقوده داخلية إدريس البصري. لكن الملك الحسن الثاني أرسل إليه ردا واضحا: «أنا أيضا مريض ويتعين علينا العمل من أجل مصلحة المغرب». كانت كلمة مؤثرة من الملك الراحل، اقتنع خلالها عبد الرحمن اليوسفي، بعد حديث مستفيض مع قياديي الحزب من بينهم محمد اليازغي وعبد الواحد الراضي، بالعودة إلى المغرب والشروع في تلك التجربة.
واقعة المصعد بالقصر الملكي
تحدث عبد الرحمن اليوسفي عن هذه الواقعة التي لاكتهاالألسن بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1999، وحسم فيها عندما أثارها في مذكراته «أحاديث في ما جرى» التي صدرت سنة 2018: «يقول اليوسفي، عائدا بذاكرته إلى سنة 1992، متحدثا عن واقعة المصعد الشهيرة في القصر الملكي عندما دُعي إلى ركوب المصعد نظرا لحالته الصحية: «أذكر أنه عندما تقرر استقبالنا كقادة لأحزاب الكتلة الديموقراطية بالقصر الملكي بالرباط، الذي صادف يوم فاتح ماي سنة 1992، لمناقشة إعداد لجنة التحكيم المكلفة بالتحضير لمتابعة الانتخابات، جاء مسؤول من التشريفات الملكية وأخبرهم بتعليمات صاحب الجلالة، علي وحدي أن أرافقه للصعود بالمصعد نظرا لظروفي الصحية. وأصبحت تلك عادة، كلما ذهبت إلى القصر لمقابلة جلالة الملك.
مباشرة بعد خروجي من المصعد وجدت جلالة الملك في انتظاري ودعاني لأتناول معه فنجان قهوة، وسألني عن أحوالي الصحية وسنوات الغربة التي قضيتها بالمنفى، متسائلا عن مساري الدراسي الذي تابعته بالخارج وتبادلنا ذكرياتنا ماضينا المشترك. وقال لي جلالته نحن مثل روافد النهر افترقنا ثم التقينا من جديد لنصب في نفس المجرى الأصل. لقد ترك لدي جلالته شعورا أنني أمام ملك كما لو أنني كنت قد اجتمعت به البارحة فقط خلال تلك الجلسة الأولى وجعلني أحس كما لو أنني لم تفرق بيننا السبل منذ 27 سنة. بعد ذلك قدم لي ولي العهد سيدي محمد وشقيقه مولاي رشيد قائلا لهما هذا عمكما اليوسفي. وأضاف مازحا: إنه من أكبر مهربي الأسلحة. حيث كان يخفيها حتى وهو نائم على سرير مستشفى بإسبانيا ليزود بها المقاومة وجيش التحرير بالمغرب».
الوزير الأول!
رجل بقي يحمل معه كل تلك التراكمات التاريخية، كان يصعب فعلا استفزازه بكلمة أو كلمتين من تيار إدريس البصري داخل الحكومة، خصوصا من أحزاب الإدارة التي انزوت إلى المعارضة بعد اكتساح حزب الاتحاد الاشتراكي للانتخابات. كانت نظرة إدريس البصري إلى عبد الرحمن اليوسفي تقول إن المغرب تغير، وأن زمن هيمنته هو على النتائج والتحكم في الصناديق قد انتهى، وأن تزوير 1997، لا يمكن أن يسمح به في المغرب الجديد الذي اختار له الملك الحسن الثاني عنوان «التناوب».
في مذكراته قال عبد الرحمن اليوسفي إنه فطن إلى أن إدريس البصري كان يتجسس عليه ويتابع أخبار اجتماعاته مع أعضاء حزبه. اعترف عبد الرحمن اليوسفي في مذكراته بأنه فطن إلى حيلة حاكها إدريس البصري جيدا، وتتمثل في التجسس عليه أثناء قيادته لمفاوضات حزبية داخلية إعدادا لحكومة التناوب، واكتشف رفقة اتحاديين آخرين أن المقر الذي كان يخصصه اليوسفي ورفاقه للاجتماعات، كان مزروعا عن آخره بأدوات التجسس.
لقد وجد عبد الرحمن اليوسفي نفسه بالقرب من جلاديه في اعتقالات 1959 و1963. لكنه كان يتغاضى عن إثارة الماضي معهم. كما كان آخرون منهم، من رجال إدريس البصري المقربين، ويتذكر عبد الرحمن اليوسفي كيف أنهم كانوا يغلقون المقرات ويمنعون اليوسفي من ولوجها أو تنظيم الوقفات الاحتجاجية أو مراقبة صناديق التصويت في المقرات.
عندما كان أنصار عبد الرحمن اليوسفي، خصوصا في الشبيبة وداخل جريدة حزب الاتحاد الاشتراكي، يثيرون معه هذا الموضوع، كان يضع تلك الابتسامة التي تقول كل شيء، نقطة نهاية لنقاش لم يكن يريد له أن يتطور. القيادة لا مكان فيها للانتقام والأحقاد الصغيرة.
مولاي إسماعيل العلوي يتذكر
فور التأكد من صحة خبر انتقال عبد الرحمن اليوسفي إلى الرفيق الأعلى، ركبت هاتف مولاي إسماعيل العلوي، قيادي حزب التقدم والاشتراكية، الذي رافق عبد الرحمن اليوسفي في تجربة التناوب خلال حكومتي 1998 و2002. كان التأثر يغلب على صوته الهادئ، وهو يستحضر أقوى ما جمعه بعبد الرحمن اليوسفي. كان مهما أن نستقي شهادة من لم يركب سفينة الاتحاد. كان مولاي إسماعيل العلوي في اجتماع مع أعضاء الحكومة، في منطقة الهرهورة. كان لقاء حكوميا متحررا من ربطة العنق والبلاغات. وقتها كان اليوسفي يريد الاستماع إلى الجميع ليخرج بالخلاصات. يقول مولاي إسماعيل العلوي مستحضرا هذه الذكرى التي كانت أول ما قفز إلى ذهنه عندما بلغه خبر وفاة عبد الرحمن اليوسفي: «كنا في الاجتماع. منحني الكلمة للحديث وقال لي بالحرف: تفضل يا مولاي إسماعيل العلوي من حزب التقدم والاشتراكية العتيد».
لماذا تلك العبارة بالضبط. يقول مولاي إسماعيل العلوي إنها عنت له الشيء الكثير. إذإن العمل السياسي والانتماء إلى حزبين مختلفين، لم يمنع اليوسفي من تقدير وزيره في الحكومة. لقد كانت تلك طريقة اليوسفي في رفع القبعة لمن يحترمهم، حتى وإن كانوا لا يشاركونه نفس القناعات أو المواقف.
«تعذبتو معانا»
يروي خاصة عبد الرحمن اليوسفي قصة مؤثرة جدا جمعته برجل تعليم اتحادي فصل من التدريس في سنوات الرصاص. كان قد كتب سنة 1980 رسالة مؤثرة إلى عبد الرحمن اليوسفي، والتقاه في جنازة عبد الرحيم بوعبيد في العاشر من يناير 1992، ودس في يده ورقة يخبره فيها أنه الرجل الذي راسله كاشفا عن معاناته مع المرض والإهمال بعد فصله من الوظيفة بسبب نضاله في صفوف الحزب.
كان وقتها تدبر الموضوع صعبا، خصوصا وأن حالات كثيرة مشابهة لحالته كانت كلها مطروحة كحالة إنسانية.
لكن الملفت أن عبد الرحمن اليوسفي، منذ الأسبوع الأول لجلوسه في مكتب الوزارة الأولى، أمر بالبت في ملف رجل التعليم مستحضرا صورة معطفه الرث وهو يعلق آماله عليه.
وفي لقاء حزبي حضره اليوسفي وهو وزير أول، قفز إليه رجل التعليم العجوز محاولا تقبيل جبهته عرفانا بصنيعه معه. لكن اليوسفي فاجأه باستدعائه إلى منزله بعد اللقاء، وجلس معه إلى طاولة شاي، ومنحه شيكا وأجبره على قبوله منه. يومها قال له اليوسفي: «هذا لأنك تعذبت معنا كثيرا..».
احتفظ صاحبنا بالشيك فترة طويلة قبل أن يقرر صرفه، لتسديد فاتورة علاج زوجته المريضة بمرض مزمن، فقد كان هدية من اليوسفي وبخط يده. كثيرون تعذبوا كثيرا مع محطات الاتحاد، لكن قلة فقط يدركون حجم المعاناة التي مر بها من كانوا في الصفوف الخلفية للمعركة، وهؤلاء كان عبد الرحمن اليوسفي ينصت إليهم جيدا، لأن الطعنات التي تلقاها الحزب مرات كثيرة، كانت من الخلف.