نحن وبريطانيا.. أسرار غير مروية من زمن الحرب والسلم عن الرباط ولندن
مع
كان من الممكن أن تنفجر أزمة كبيرة بين المغرب وبريطانيا بسبب نوع من الأخشاب المستعمل في صناعة السفن. فقد كتب المنصور إلى الملكة إليزابيث أنه يحتاج كمية كبيرة من الأخشاب الشهيرة لصناعة أسطول من السفن البحرية لصالح المغرب، لكن الملكة إليزابيث كانت في نفس الوقت تشرف على مشروع صناعة سفن بريطانية، ولم يكن ممكنا إرسال الكمية المطلوبة إلى المغرب مخافة أن تكون هناك عرقلة في المشروع البريطاني. حدث هذا قبل 500 سنة تقريبا.
وفي عهد محمد الثالث، قبل ثلاثة قرون تقريبا، تسبب عطل في العربة الملكية في أزمة بين المغرب وبريطانيا. لكن كل هذا لم يمنع من أن يحتفل الطرفان بالعلاقة الملكية القديمة التي تربط بين بلدين لأزيد من 5 قرون، وصولا إلى زمن الملك الراحل الحسن الثاني، إلى الزيارة الأخيرة التي قام بها حفيد الملكة إليزابيث إلى المغرب قبل أيام.
عندما وقعت الأميرة لالة عائشة اتفاقية جوية مع لندن
في يوم 22 أكتوبر 1965، كانت الأمير لالة عائشة، تحت أنظار الكاميرات، وكان اسمها موضوعا للصحافة البريطانية التي خصصت لها صفحات حتى أنها كتبت عن أزيائها المفضلة وهواياتها وعلاقتها بوالدها الراحل الملك محمد الخامس وأخيها الملك الحسن الثاني.
الأكثر من هذا، أن صحافة المشاهير في لندن حاولت تعقب جولات الأميرة في إحدى زياراتها لأوربا لكي تتعرف عن قرب على اختياراتها في الموضة ومقتنياتها، لكن الأميرة كانت تنجح دائما في الاختفاء عن أنظار هؤلاء «الباباراتزي» في جولاتها بأوربا.
لنعد إلى ما وقع يوم 22 أكتوبر إذن. كانت الأميرة لالة عائشة توقع اتفاقية مع وزير الدولة البريطاني السيد جورج طومسون في مكتب الشؤون الخارجية. الاتفاقية تتعلق بالتبادل الجوي بين الرباط ولندن، واهتم الإعلام البريطاني بها كثيرا إلى درجة أن الأميرة تلقت دعوات من مشاهير بريطانيين كانوا يلتقونها عند زياراتهم إلى المغرب. كانت الاتفاقية تتعلق بـ«الخدمات الجوية» وكان شق منها مرتبطا بالاستيراد والتصدير.
كانت الخطوة التي قام بها الملك الراحل الحسن الثاني ذكية للغاية، فقد اختار أن تتكلف أخته الأميرة بتوقيع الاتفاقية، وهو الأمر الذي جعل الرأي العام البريطاني يهتم كثيرا بموضوع الأميرة ما دامت النظرة العامة التي كونها البريطانيون عن المغرب تنظر إلينا على أننا نسخة من الشرق، حيث إقصاء المرأة، لذلك تحول وجود الأميرة لالة عائشة على صفحات الإعلام البريطاني والتلفزيون الرسمي أيضا، مثيرا لفضول البريطانيين للتعرف أكثر على المغرب.
حدث هذا في وقت كان المغرب حاضرا بقوة في ذاكرة السياسيين البريطانيين، خصوصا رئيس الوزراء المتقاعد تشرشل، الذي كانت مراكش بالنسبة له حياة ثانية أصرّ على عيشها بكل تفاصيلها، حيث كان صديقا حميما للباشا الكلاوي، وكانت الصحافة البريطانية تتطرق بين الفينة والأخرى لحياة رئيس الوزراء وسر إعجابه بمراكش والمغرب عموما، حتى أن بعض البريطانيين، خصوصا المشاهير، الذين كانوا يأتون إلى المغرب خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، كانوا يشدون الرحال إلى الرباط بناء على مقالات صحفية عن الوجهة المفضلة لرئيس الوزراء البريطاني الأشهر.
وهكذا كان موضوع الأميرة لالة عائشة على صفحات المجلات والصحف البريطانية، مثيرا بالنسبة للقراء البريطانيين لأنهم كانوا دائما يرون المغرب على الواجهة الإعلامية لبلادهم، لكن بصورة نمطية عن بلد محافظ تابع للمشرق في التوجهات والعادات التي تقتضي بإبعاد النساء عن بقعة الضوء. حتى أن الصورة الرسمية لخبر توقيع الاتفاقية، والتي نُشرت في الصحافة الرسمية البريطانية والإعلام الرسمي في الرباط أيضا، كانت ذات دلالة كبيرة، لأن الأميرة كانت تنظر إلى الكاميرا بعد التوقيع، وإلى جانبها الوزير البريطاني ومستشاروه، دون حضور لأي موظفة أو مسؤولة بريطانية.
محمد الخامس و«بي بي سي».. والحسن الثاني مع إليزابيث
كان الملك الراحل محمد الخامس مولعا كبيرا بإذاعة «بي بي سي» البريطانية. ومتابعا لنشرات الأخبار التي ينتبه إليها كلما دوى المذياع بعبارة «هنا لندن». حتى أنه كان يتابع الأخبار أولا بأول أيام المنفى خلال النصف الأول من خمسينات القرن الماضي.
وعندما تأسست الإذاعة المغربية، كان الملك الراحل بعد العودة من المنفى يتردد مرات كثيرة على مقر الإذاعة ليتفقد أحوال العاملين وطريقة اشتغال الإذاعة التي تسلمها المغاربة بعد الاستقلال بشكل رسمي ومغادرة الأطر الفرنسية. ولم يكن الملك الراحل يخفي إعجابه بتجربة الإذاعة البريطانية حتى أنه طلب وقتها من المسؤولين العمل على تأسيس تجربة مغربية على غرار تجربة الـ«بي بي سي». وهذا الأمر يؤكده قدماء الإذاعة، وأيضا الراحل المهدي المنجرة الذي كان وقتها شابا منفتحا على الثقافة الإنجليزية، وعُين على رأس الإذاعة حتى يعمل على تجربة الراديو المغربي، وجاءت عبارة: «هنا الرباط».. على غرار «هنا لندن» التي اشتهرت بها الإذاعة البريطانية.
بعيدا عن أجواء الإذاعة أو الصداقة التي ربطت الملك الراحل محمد الخامس ببعض المسؤولين البريطانيين، خصوصا تشرشل الذي أبدى إعجابه بشخصية الملك الراحل خلال لقاء آنفا في عز أزمة الحرب العالمية الثانية خلال الأربعينات. كانت العلاقة بين الملك الحسن الثاني منذ بداية الستينات، وبريطانيا امتدادا لعلاقة ضاربة في القدم.
استقبال الأميرة لالة عائشة، أعاد وقتها موضوعا لم تمض عليه في ذلك التاريخ إلا سنوات قليلة أكدت خلاله الملكة البريطانية أنها تكن اعتبارا كبيرا للعائلة الملكية في المغرب. وتعود تفاصيل الموضوع إلى ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كان الباشا الكلاوي، في عز أزمة الملك الراحل محمد الخامس، يبحث عن «تزكية» دولية لموقعه في المغرب، فالرجل لم يعد خلال بداية الخمسينات يخفي طموحه الكبير بالتحول إلى رجل دولة. وهكذا قرر أن يهدي الملكة الحالية إليزابيث هدية ثمينة. حصل على دعوة رسمية لحضور الحفل في القصر الملكي من صديقه تشرشل، لكنه أراد تقديم هدية ثمينة جدا للملكة. فوجد البروتوكول الملكي الأمر غير مناسب ولا يليق بمقام الملكة إليزابيث. وهكذا أعيدت له هديته حتى قبل انتهاء مراسيم الحفل، وغادر القصر مكسور الخاطر. والمثير أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق أرسل له برقية يطيب فيها خاطره ويخبره أن البروتوكول الملكي البريطاني صارم ولا يقبل أن تتلقى الملكة هدية إلا من الملوك من نفس درجتها. ولو أن القصر قبل هدية الباشا، لوقع حرج كبير في العلاقات بعد عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى. وهو ما بقي خالدا في ذهن الباشا الكلاوي، وأبان عن المكانة الكبيرة التي تحتلها العائلة الملكية المغربية لدى الملكة إليزابيث. فقد كانت علاقتها بالملك الراحل الحسن الثاني وطيدة، إلى درجة أنها زارت المغرب وحظيت باستقبال كبير خلال سنة 1980، رغم الانتقادات التي نشرتها الصحافة البريطانية التي تحدثت عن تضايق الملكة إليزابيث بسبب بعض المراجعات البروتوكولية من الجانب المغربي، إلا أن الملك الحسن الثاني كان صديقا كبيرا للملكة إليزابيث التي لم تتحدث بدورها بعد الزيارة عن أي شيء من شأنه تأكيد ما أثارته الصحافة البريطانية المعارضة في ذلك الوقت.
عندما اتُهم وزير الدفاع المغربي بعقد صفقات سرية مع الإنجليز
عندما نستحضر السياق التاريخي لسنوات 1890 والسنوات القليلة التي بعدها، فإننا أمام «نار» حقيقية كانت تتخبط بالمغرب. فقد كانت الأوضاع الداخلية للبلاد تشهد إيقاعا غير مسبوق. نتحدث هنا عن الفترة التي خلف فيها المولى عبد العزيز والده المولى الحسن الأول في السلطة. عيّن صديقه الحميم الجديد وزيرا للدفاع لأنه لم يكن يطمئن إلى بقية الوزراء الذين ورثهم عن والده. كان وقتها خبر تنصيب الملك إدوارد السابع قد وصل إلى المغرب، فأمر القصر فورا بإرسال وفد مغربي يرأسه «وزير الحرب» المغربي الذي كان اسمه المهدي المنبهي. ولأن الرجل كان مخزنيا بسيطا قبل أن يصبح وزيرا يتحكم في الحكومة أكثر من صديقه الوزير الأول، فقد كان يحتاج لمن يقوم بـ «المهمة الدبلوماسية» مكانه. لذلك استنجد المغرب بالأسكتلدني ماكلين، الذي كان خبيرا في أمور الجيش، واستقر في المغرب وأصبح صديقا لكبار رجال الدولة، وتمت مكافأته بمنحه لقب القايد، ليصبح اسمه في التاريخ المغربي هو «القايد ماكلين». هذا الرجل كانت مهمته هي أن يتولى الترجمة إلى الإنجليزية لصالح الوزير المهدي المنبهي، وكانت تلك المرة الأولى التي يرافق فيها أجنبي وفدا مغربيا ليتولى الترجمة. فقد كانت العادة منذ أيام المولى إسماعيل، ومنذ عهد الملكة إليزابيث الأولى، أن يكون هناك موظف في القصر يتقن اللغة العربية أو سفير لبريطانيا في إحدى دول الشرق، يتولى الترجمة دائما لصالح الوفد المغربي كما حدث مع السفير ابن عائشة وبقية المبعوثين المغاربة على مر التاريخ.
عندما قدم الوزير المنبهي التهاني وهم بالعودة إلى المغرب، أطلق بعض الوزراء والمستشارين الذين كانوا ينافسونه، خصوصا بعض أصدقاء الوزير بركاش والجامعي، إشاعات يقول مضمونها إن المبنهي يعقد في بريطانيا صفقات تجارية لصالحه باسم المملكة المغربية، وأنه يتخذ القرارات السيادية دون الرجوع إلى القصر، بل ووصلت الاتهامات إلى حد اتهامه بتهريب الأموال من المغرب إلى الخارج مستغلا البعثة الدبلوماسية التي كلفه بها المولى عبد العزيز.
وصل الخبر إلى المنبهي وهو في عرض البحر، وبإيحاء من الإنجليز الذين توصلوا برسالة من فاس جاء فيها إن وزير الدفاع المغربي بمجرد مغادرته المغرب صوب بلادهم، وُجهت إليه تهمة اختلاس أموال الدولة وإبرام صفقات في إنجلترا باسم الدولة دون أن يُكلف بهذه المهمة. تعاطف القايد ماكلين مع المهدي المنبهي وطمأن الدبلوماسيين البريطانيين إلى أن الأمر مجرد حرب بين الوزراء وأن وزير الدفاع يجتمع عليه عدد كبير من الأعداء الذين لا يريدون له أن يبقى في منصبه، وأن الاتهامات التي وجهت له لا تستند إلى أي دليل. وهكذا تم احتواء الأزمة التي كادت أن تعصف باسم وزير الدفاع المغربي وهو في قلب المملكة المتحدة.
عندما عاد المنبهي كان يعلم أن الوزراء المغاربة الذين حاربوه كانوا يعدون لاعتقاله فور دخوله إلى المغرب بحرا، لكنه غير نقطة دخوله في آخر لحظة ونزل بحماية من القايد ماكلين متنكرا ليركب الفرس ويقضي الليل كله في الطريق إلى القصر الملكي من ميناء الجديدة، في غفلة من الوزراء الذين كانوا ينتظرون وصوله ويضعون رجالهم وبعض أعوان السلطة في نقطة الوصول لاعتقاله فور نزوله من السفينة التي أقلت الوفد إلى بريطانيا.
ما وقع أن الوزير وصل متخفيا ودخل القصر بترتيب للأوضاع مع بعض مساعديه إلى أن وجد نفسه وجها لوجه مع المولى عبد العزيز ويشرح له حيثيات الواقعة وكيف أن الإشاعة التي تفيد بإبرامه صفقات مع الإنجليز انتشرت حتى قبل أن يصل هو إلى بريطانيا. وهكذا أسدل الستار على واحدة من أكثر الوقائع المرتبطة بصراعات السلطة في المغرب إثارة، لكن فوق التراب البريطاني.
أول شركة أُسّست في المغرب كانت بريطانية وسميت: «بلاد البربر»
تعود تفاصيل الموضوع إلى سنة 1585. أي إلى الفترة التي كان فيها المولى أحمد المنصور على رأس السلطة. وكانت العلاقات بين المغرب وبريطانيا متينة للغاية، حتى أن كبار رجال الأعمال الإنجليز وقتها كانوا يعقدون صفقات اقتصادية مع المغرب، بتأطير من الحكومة البريطانية التي كانت تتولى المفاوضات مع المغرب.
تقول بعض المعطيات التاريخية التي ذكرها المؤرخ البريطاني «ب.ج. روجرز» إن بعض رجال البلاط البريطانيين كانوا يستثمرون في المغرب سنة 1585.
كانت بعض الخطابات الرسمية المرسلة من المغرب إلى بريطانيا، أو العكس، تكشف إلى أي حد كان الاهتمام بالتجارة كبيرا. فبعض المراسلات كانت مخصصة لتوضيح مجريات العمليات التجارية بين مغاربة وبريطانيا، أو بين بريطانيين والدولة المغربية. ولم يكن هناك أي ذكر لشركات تشرف أو تهيمن على نوع من التجارة.
كان من الممكن أن تنفجر أزمة كبيرة بين المغرب وبريطانيا بسبب نوع من الأخشاب المستعمل في صناعة السفن. فقد كتب المنصور إلى الملكة إليزابيث أنه يحتاج كمية كبيرة من الأخشاب الشهيرة لصناعة أسطول من السفن البحرية لصالح المغرب، لكن الملكة إليزابيث كانت في نفس الوقت تشرف على مشروع صناعة سفن بريطانية، ولم يكن ممكنا إرسال الكمية المطلوبة إلى المغرب مخافة أن تكون هناك عرقلة في المشروع البريطاني.
لكن المصالح التجارية التي كانت تجمع البلدين، جعلت إمكانية الاعتذار عن توفير شحنة الخشب مستحيلة، مخافة أن يقطع المغرب علاقاته ببريطانيا، وهو ما جعل الملكة إليزابيث تكتب على الفور لتوفير الكمية التي يطلبها المغرب، من غابات منطقة «هامبشير» ببريطانيا، وشحنها فورا إلى المغرب.
أما تأسيس شركة البربر فقد جاء بناء على توافقات مغربية بريطانية، بعد أن نجح وفد بريطاني غير رسمي في حيازة صفقات تجارية مهمة مع المغرب، وهو ما جعل الملكة إليزابيث تبعث إلى المغرب سنة 1585، رسالة مفادها أنها تقترح على أحمد المنصور إقامة شركة باسم «شركة بلاد البربر»، وهي شركة بريطانية رسمية أرادت لها الملكة إليزابيث أن تتعاقد مع المغرب لمدة 12 سنة تكون خلالها الشركة هي المحتكر الوحيد لجميع الأنشطة التجارية مع المغرب. وكان الممثل الرسمي للشركة في المغرب هو البريطاني «هنري روبرتس»، وقد جاء إلى المغرب في نفس السنة، قادما من لندن بتوصية خاصة من الملكة إليزابيث لينقل أوراق الشركة وقرار اعتماده إلى قصر مراكش، حيث كان يقيم أحمد المنصور.
كان الغرض بالأساس من إنشاء الشركة هو قطع الطريق أمام بعض التجار الأجانب الذين كانوا يستغلون انفتاح بلدهم بريطانيا على المغرب، ويتاجرون في السلاح وبعض السلع التي كان وجودها بالمغرب مزعجا، مثل الأقمشة الرخيصة وبعض السلع التي يأتي بها التجار الإنجليز من آسيا، ولم تكن تلقى أي رواج في المغرب.
وهكذا كانت الشركة بوابة احتكارية للتجارة مع المغرب، وهو الأمر الذي قوى حظوظ البريطانيين لكنه طوق المغرب اقتصاديا، ولم يعد مسموحا للدولة المغربية ولا التجار المغاربة، بتوسيع نشاطهم، وإنما كانوا ملزمين باحترام العقد الاحتكاري.
لكن المغرب لم يفطن سريعا للأمر، واعتبر أن العقد الرسمي سيغلق باب المشاكل مع التجار الأجانب الذين كانوا يتهربون من أداء الضرائب للدولة المغربية. حتى أن المنصور كتب في إحدى المراسلات الرسمية التي يعود تاريخها إلى سنة 1588 أنه يتعهد بتوفير الحماية للإنجليز الوافدين على المغرب. وبقيت الأمور منسجمة إلى درجة أن «هنري روبرتس» ممثل الشركة، عندما قرر مغادرة المغرب، لحقه مبعوث مغربي خاص اسمه مرزوق الرايس ليقترح عليه العودة. وقد نقل المؤرخ البريطاني روجرز رأي السيد روبرتس في الموضوع: «استقبلنا كبار تجار شركة بلاد البربر خارج المدينة، والذين تراوح عددهم بين أربعين وخمسين، وقد امتطى كل منهم جوادا وخصصت لي أنا والسفير مركبة كبيرة وتقدم بنا الموكب لندخل المدينة يوم الأحد 12 يناير 1589». بطبيعة الحال فإنه كان يقصد التجار الأجانب، وليس المغاربة، لأن الشركة أسست أساسا لخدمة كبار التجار الإنجليز ورجال الأعمال الذين كانوا على علاقة وطيدة جدا بالقصر في لندن.
في الأخير، ساءت الأمور المادية في الشركة لأن ممثلها عاد إلى بريطانيا، لأن بريطانيا لم تكن ترى داعيا لبقائه في المغرب ما دامت الأمور كانت تجري بسلاسة كبيرة. في السنوات الأخيرة التي سبقت نهاية العقد الاحتكاري، تضررت عائدات الشركة لأن التجار الإنجليز كانوا يتخوفون من إمكانية استحالة إعادة إبرام العقد الاحتكاري من جديد مع المغرب، وهكذا انتهت بعد أن راكم أصحابها ثروات كبيرة جدا، حتى أنهم كانوا يتحكمون في أسعار السكر في بريطانيا لأنهم كانوا الوحيدين الذين يملكون حق جلبه من المغرب، وهو ما جعل «ثورة» صغيرة تقوم داخل أوساط أثرياء بريطانيا مسنودين بدعم حكومي، أنهى وجود الشركة الاحتكارية، ليكون بمقدور جميع التجار الانجليز الاستثمار في المغرب، والتعامل معه تجاريا، ويسدل الستار على قصة الشركة.
رفض لندن إصلاح كسر في العربة الملكية لمحمد الثالث تسبب في أزمة
حسب ما أورده مؤرخون بريطانيون اشتغلوا على العلاقات البريطانية المغربية خلال القرنين الأخيرين، فإن أزمة دبلوماسية كبيرة حدثت بين المغرب وبريطانيا لأن المغرب لم يتوصل بأي رد عن طلب إصلاح عربة ملكية في القرن 17، تعود قصتها إلى عهد المولى إسماعيل الذي تلقاها من الخارج بتوصية خاصة، واختلفت المصادر حول قصتها لتقول إنها كانت هدية من لويس الرابع عشر، وبين من يقول إنها كانت هدية من ملكة بريطانيا إليزابيث الأولى للمولى إسماعيل، بينما تشير بعض المعلومات رغم أنها غير دقيقة إلى أن المولى إسماعيل طلب أن تُصنع له عربة ملكية وتوصل بها لتكون هي العربة الرسمية لتنقلاته الملكية داخل مكناس وفي بعض سفرياته إلى المناطق المجاورة. وبقيت العربة رهن الاستعمال وتوارثها الملوك العلويون إلى أن أصيبت بكسر وتعطلت ليتم توقيفها في مدخل القصر الملكي، لسنوات، دون أن يتم إصلاحها. وفي عهد المولى محمد الثالث بن عبد الله (1710-1790) عزم القائمون على البروتوكول السلطاني، وكانوا من العائلات العريقة في المخزن، على إعداد العربة الملكية بتوصية من المولى محمد بن عبد الله، وتمت مراسلة الفرنسيين والبريطانيين في الموضوع، لكن الأمر عرف مماطلة كبيرة، أثارت غضب المولى محمد الثالث في الأخير.
لم يتفصل أحد في الكواليس الحقيقية للموضوع، حتى أن القصر وقتها توصل بتطمينات مقتضبة لقرب إصلاح العربة الملكية، وقدمت وعود إما باستعادة العربة لإصلاحها في الخارج أو إرسال عمال خاصين إلى المغرب لإصلاحها داخل القصر الملكي. لكن الأكيد أن العربة الملكية لعبت دورا كبيرا في الأزمة والفتور الذي عرفته العلاقات المغربية مع كل من فرنسا وبريطانيا في عهد المولى محمد بن عبد الله، حتى أن بعض تجار مدينة الصويرة وقتها باتوا يتحسرون على تراجع العلاقات وعدم تجديد بعض الاتفاقيات بين تجار أجانب وبين الدولة، وهو ما أثّر سلبا على أرباح تجار مدينة الصويرة الذين كان جلهم من اليهود المغاربة. هؤلاء تأثروا كثيرا بتراجع العلاقات المغربية البريطانية في فترة المولى محمد بن عبد الله، وبدا لهم أن عهد الاتفاقيات الاحتكارية لاستيراد وتصدير بعض السلع من وإلى المغرب، قد أصبح مجرد ذكرى ماتت مع أثرياء لندن ومانشستر الذين كانوا يضغطون على التاج البريطاني لكي يمكنهم من عقود احتكارية تضمن لهم مراكمة الثروة داخل المغرب وفي بريطانيا أيضا.
هذه العلاقة الاقتصادية بين المغرب وبريطانيا جعلت عددا من اليهود المغاربة يهاجرون سرا إلى لندن، وهو الأمر الذي تسبب في أزمة كبيرة مع المغرب، خصوصا في أيام المولى الحسن الأول، وبقي بعض التجار المغاربة مطلوبين من طرف المخزن إلى حدود سنة 1896، وهو التاريخ الذي صدر فيه عفو على بعضهم، خصوصا وأنهم حصلوا بموجب إقامتهم في بريطانيا على الجواز البريطاني وفضّل المخزن أن يحرص على علاقة طيبة مع بعضهم لكي يكونوا مدافعين عن المصالح المغربية لدى الانجليز، خصوصا عندما بدأت فرنسا في نشر قواتها العسكرية داخل المغرب تمهيدا للاستعمار، وهو الأمر الذي كان مقلقا داخل المغرب. لكن هؤلاء التجار السابقين الذين راهن عليهم المغرب، لم يقدموا له أي شيء للأسف، وشهدوا جميعا كيف أن العلاقات المغربية البريطانية عرفت منعرجا حاسما سنة 1912، عندما تم توقيع معاهدة الحماية مع فرنسا.
مغاربة حصلوا على الجنسية واشتغلوا لصالح «برمنغهام»
تعرض المغرب للنصب من طرف بعض المواطنين المغاربة الأثرياء في عهد المولى الحسن الأول. وكان القصر غاضبا بشدة من الخيانة التي تتعرض لها الدولة على يد أبنائها، خصوصا سنة 1880إلى وفاة المولى الحسم الأول سنة 1894، لكن الحالة لم تستمر طويلا، فقد تم احتواء الأمر
دبلوماسيا وعاد بعض هؤلاء التجار إلى حظيرة الدولة، وتم تجنيدهم لكي يدافعوا عن القضية المغربية لدى الإنجليز، رغم أن العلاقات المغربية البريطانية كانت متينة للغاية في ذلك الوقت، وكانت المملكة المتحدة ترسل هدايا إلى المغرب، رغم أنه في عهد المولى الحسن الأول لم يكن مألوفا خلاله أن يتردد الإنجليز بكثرة على القصر. لكن آخر عهد المولى الحسن الأول عرف بداية صداقات متينة بين الحاجب الملكي القوي باحماد، وبين بعض المؤثرين الإنجليز في السياسة والاقتصاد. وفور وفاة المولى الحسن الأول سنة 1894، بدأ هؤلاء الإنجليز في زيارة باحماد وهو على فراش المرض، خصوصا في الأشهر الأخيرة من حياته، حيث كان يستقبل داخل إقامته في فاس، والتي لم تكن تبعد عن القصر الملكي إلا بأمتار قليلة، بعض الدبلوماسيين الإنجليز وعلى رأسهم القنصل البريطاني ورؤساء المفوضيات الإنجليزية في المغرب، والذين كانوا يعرضون عليه السفر معهم للعلاج في بريطانيا، لكنه كان يقول لهم: «أريد أن أموت بسلام فوق هذا الفراش». ولم يكن ذلك الفراش سوى جلد خروف، كان يداعب صوفه بيد مرتعشة وهو يستقبل هؤلاء الدبلوماسيين في بيته، بينما يتولى القايد ماكلين الترجمة.
في ذلك الوقت استفاد أحد الأثرياء الإنجليز، بفضل باحماد، من صفقة مهمة تتمثل في إعداد زي للمخازنية والحرس الملكي المنتشرين داخل القصر الملكي وخارجه. هذا الزي الرسمي تم اقتراحه على باحماد ووافق عليه فورا، ليتم إعداد ملابس تكفي كل المخازنية، وأبرم صاحب معمل إعداد تلك الملابس صفقة مع المغرب وهو ما أثار موجة سخرية في أوساط الفرنسيين الذين اتهموا رجل الأعمال البريطاني بالنصب والاحتيال.
كانت العلاقات المغربية البريطانية إذن أكبر من علاقة قديمة بين مملكتين. فقد عرفت محطات كانت خلالها بريطانيا تتودد إلى المغرب قبل قرون لكي يبرم صفقات مع تجار محسوبين على المملكة المتحدة، وفي أوقات أخرى كان المغرب يبعث وزراءه لكي يلطفوا الأجواء كلما تلاطم الموج في المحيط أو البحر المتوسط.