هكذا أنقذت حملات التلقيح المغاربة من الأوبئة
مع تيلي ماروك
هذا التقرير، حسب الدكتور «ديلافا»، والذي عنونه بـ«كشف للحالة الصحية والوبائية في شمال إفريقيا»، جاء فيه أن هيئة الأطباء توصي بالقيام بعملية تلقيح واسعة للمغاربة في الدار البيضاء ونواحيها، وتلقيح إجباري لكل الوافدين إلى المدينة ضد أمراض الطاعون و«التيفويد» والطفح الجلدي، وكلها حسب التقرير أمراض متنقلة لن تنجح فرنسا في السيطرة عليها، ولو لقحت كل رعاياها إجباريا قبل التوجه إلى المغرب، لأنها أمراض قد تنتقل في الهواء أو مياه الشرب وقد تكون مضاعفاتها خطيرة على الأجانب، ولذلك يتعين تلقيح كل السكان بغض النظر عن أصولهم.
وجدت فرنسا سنة 1910 أن القيام بعملية مشابهة يتطلب إمكانيات كبيرة على المستوى الطبي والعسكري، وتبخرت المبادرة بانطلاق عمليات إعادة بناء الدار البيضاء بعد القصف، وهكذا أقبرت أول عملية تلقيح جماعي في المغرب، ولم تطلق مبادرات تلقيح المغاربة ضد الأمراض المعدية والوباء إلا في ثلاثينيات القرن الماضي، بعد أن أصبح المغرب في نطاق «الحماية» الفرنسية.
هذه إذن بداية قصص المغاربة مع حملات التلقيح.
كيف كان المغرب قبل حملات التطعيم؟
في نهاية سنة 1920 حل فريق طبي بالمغرب، زار مدنا مغربية عديدة من بينها الصويرة، الجديدة، الدار البيضاء، وصولا إلى فاس وانتهاء بمدينة تازة. هذا الفريق كان يتكون من 20 فردا جلهم أطباء، بينما البقية كانوا مساعدين وموظفين يتولون مهمة كتابة التقارير المفصلة عن المشاهدات والمعطيات، التي تم جمعها في كل مدينة.
تبقى مدينة فاس القديمة، أهم منطقة استأثرت باهتمام أربعة أطباء فرنسيين، وكتب الموظفون في تقاريرهم أن المنابع التي يعتمد عليها «أجدادنا» الفاسيون كانت عتيقة «وغير صحية بالمرة»، بل وصفها التقرير بأنها تهدد حياة البشر، لأنهم عاينوا وجود حيوانات ميتة في بعض مجاري المياه. والأكثر من هذا أن الجولة التي قاموا بها في دجنبر من سنة 1920، في البوادي المجاورة لمدينة فاس، جعلتهم يصابون بالدهشة عندما اكتشفوا أن بعض المجاري الحيوية للمياه كانت ملوثة بسبب سوء استخدام السكان لها، وعدم الحرص على نظافتها، رغم أنها المغذي الأول لمدينة فاس بالمياه.
تزامن مرور الوفد الفرنسي من الجهة الشرقية لمدينة فاس، مع وجود جماعة من الناس كانوا يهمون برمي بقرة ميتة في مجرى الوادي، وهم أحد أولئك الأطباء بمنعهم، لولا أن عون سلطة كان مكلفا بمرافقة الوفد الطبي تدخل في اللحظة المناسبة ونصح الطبيب بالتراجع. وأورد الموظف الفرنسي «فيليكس»، الذي رافق المجموعة بصفته مقررا، في تقريره الذي جُمع سنة 1923، وطبعته دار نشر فرنسية ملخصا طريفا للواقعة. يقول: «كنا بصدد عبور الوادي بعد يوم مضن. كل ما أحتاجه وسادة وثيرة، لكي أنسى هذا التعب. بينما كنت منهمكا في تدوين بعض النقاط لكي أضمنها في التقرير الذي يجب أن يكون جاهزا في اليوم الموالي، إذا بي أسمع صوت صراخ على يسارنا. التفت، فإذا بنا أمام تجمع بشري كبير لمجوعة من الفلاحين. كانت جلابيبهم ممزقة ورثة. كانوا يهمون بإلقاء دابة الواضح أنها ميتة، في مجرى المياه. أخرج مرافقنا بندقيته تحسبا لأي أمر طارئ، فوجود فرنسيين على مقربة من هؤلاء المواطنين الغاضبين، يبقى وضعا محفوفا بالمخاطر. حاولت التدخل، وهممت بالنزول من فرسي للاقتراب منهم، لكن صياح مرافقنا فهمت منه أنه يتعين علي الركوب فورا فوق ظهر الفرس وأن أتجنب الاحتكاك بهؤلاء الناس. إنه أمر مرعب بالفعل. هناك إمكانية كبيرة في أن تتحول مياه الوادي إلى مصدر كبير للوباء القاتل. هنا يمكن لجميع الأمراض الفتاكة أن تنتشر بسهولة. إذا تدحرجت البقرة الميتة وصولا إلى المصب، فإن إمكانية انتشار الوباء لا تزال واردة. أما إذا اصطدمت بمانع في مجرى المياه وبقيت إلى أن تتحلل في بركة من الماء الراكد مثلا، فإن انتشار وباء قاتل سيكون مضمونا».
خلص التقرير في الأخير إلى أن انتشار أوبئة قاتلة مثل الكوليرا، يبقى أمرا غاية في السهولة في مغرب العشرينيات، ما دامت وضعية المرافق الصحية للمغاربة كارثية إلى هذا الحد، حتى أن كاتب التقرير لم يفته أن يشير إلى أن هناك إمكانية كبيرة في نشر الوباء بسهولة عن طريق الإبقاء فقط على الوضعية الكارثية لمعظم المجاري المائية في ذلك الوقت، وأكد أن محاصرة القرى الممانعة، سيكون أصعب بكثير من ترك المغاربة يستهلكون مياه الشرب التي تتسمم بسهولة بسبب التلوث. وهكذا يكون التقرير قد لوح فعلا بخطة عسكرية تجعل أمر تسميم المغاربة أو نشر الوباء بينهم بشكل مدبر واردا جدا.
الأكثر من هذا أن تقارير ومقالات وصفت حالة المجاري في مدن فاس ومكناس ومراكش سنة 1910، بالكارثية والمميتة، حيث عاينت فرق طبية استكشافية وجود حيوانات نافقة في عدد من قنوات تزويد التجمعات السكانية بمياه الشرب، وهو ما كان يفتح المجال أمام انتشار أمراض قاتلة حصت ملايين الأرواح في فترات قصيرة، خلال النصف الأول من القرن العشرين.
التاريخ المنسي لـ«الشوكة» الإجبارية..
بعكس حملات تسجيل الأبناء في لوائح الحالة المدنية بعد حصول المغرب على الاستقلال، لم تشارك الأحزاب الوطنية في حملات الدعوة إلى التلقيح الإجباري. فقد تكلفت الدولة بالموضوع ممثلة في وزارة الداخلية، حيث جندت بعد 1956 كل الوسائل المتاحة من منشورات دعائية وصور ملونة لعملية التلقيح، بالإضافة إلى الوصلات الإعلانية في الراديو المغربي، لكي تضمن الدولة على عهد الملك الراحل محمد الخامس نجاح توعية جماعية للمغاربة، ليتوجهوا إلى المراكز التي بدأت حملات لتلقيح المغاربة ضد الأمراض الموسمية والمتنقلة، من بينها الكوليرا و«التيفويد» والكساح والسل.
يبقى المرض الأخير، أي السل، أخطر وباء حاربه مغرب الاستقلال، حيث تركت الإدارة الفرنسية منشآت صحية لإيواء واستقبال مرضى السل تم استغلالها من طرف الحكومة المغربية سنة 1956 وصولا إلى 1962، تاريخ إغلاق بعضها أو تحويلها إلى إدارات عمومية بعد نجاح عمليات اللقاح.
لكن ما وقع أن حاجة الدولة إلى المستشفيات، خصوصا في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بسبب الانفجار الديموغرافي الكبير في المغرب، أظهرت أن قرار التخلي عن المراكز الصحية التي تركتها فرنسا وتحويلها إلى إدارات عمومية كان قرارا غير صائب.
السياق الذي تخلت فيه الدولة عن بعض مراكز العلاج من السل التي تركتها فرنسا بعد الاستقلال، كان سببه نجاح عمليات التلقيح واعتقاد الدولة أنها لن تكون في حاجة إلى المراكز مستقبلا.
لكن ما وقع أن وزارة الصحة رصدت خلال العشرين سنة الأخيرة عودة لائحة من الأمراض المميتة، بسبب التهميش الذي طال سكان القرى، لتعود الأوبئة إلى الظهور في أوساطهم مجددا، والسبب غياب الخدمات والبنيات التحتية الصحية.
كان الشارع المغربي يطلق على عمليات التلقيح تسمية تلخص المنظور العام لحملات التلقيح «الشوكة»، حيث إن الإبر الطبية التي تحقن أجساد المغاربة باللقاح كانت أهم من محتوى الحقنة. والمثير أن الأسئلة التي وضعتها المعارضة في البرلمان المغربي سنة 1963، والتي تطرقت إلى عمليات التلقيح الإجباري في المدارس والإدارات العمومية، كانت تدقق في تكلفة تلك الحملات وما إن تم تسجيل خروقات بها، ولم يكن مصدرها مهما بالنسبة إلى الرأي العام ولا المتابعين من نواب ووزراء وسياسيين، لأن المغرب كان يحصل عليها من الصليب الأحمر، أو على شكل مساعدات من دول صديقة أولها الولايات المتحدة ثم فرنسا.
قصة فكرة أول عملية تلقيح لم تر النور سنة 1910
حسب مذكرات صدرت لشخصيات عملت في السلك الدبلوماسي والعسكري في المغرب، قبيل فرض معاهدة الحماية على المغرب سنة 1912، فإن البلاد عرفت تحديا كبيرا لاستقطاب الأجانب لتكوين نواة حياة مدنية في المغرب، بعد اتفاقيات بين إسبانيا، فرنسا وبريطانيا.
كانت المشاكل الصحية في المغرب أكبر تحد أمام التمثيليات الأجنبية، لإقناع مواطنيها بالاستقرار بين المغاربة. سيما وأن هذه المذكرات التي تصنف بالمئات، ما بين مقالات صحافية وكتب سير ذاتية وأخرى في صنف المغامرات، تحدثت عن واقع صحي «أسود» في المغرب.
وهكذا جاءت فكرة عملية أول تلقيح عام في المغرب قادها القنصل الفرنسي في طنجة، بمساعدة من القنصلين الألماني والإيطالي، لضمان حماية قصوى لصحة رعاياهم في مدينة طنجة الدولية. وفعلا نجح هؤلاء في تلقيح رعاياهم في طنجة ومحيطها، بينما كان اهتمام فرنسا الأكبر هو التحدي الذي يفرضه الواقع الصحي في مدن أخرى، خصوصا الدار البيضاء التي كانت مدمرة بالكامل بسبب قصف سنة 1907 المدمر. إذ إن التقارير العسكرية القادمة من هناك وقتها، والتي خطها مرافقون عسكريون، تؤكد وجود حالات كثيرة للإصابة بالكوليرا والطاعون بسبب المياه الراكدة والجثث المتحللة أسفل أنقاض المنازل، التي أصابتها المدفعية الفرنسية الثقيلة.
وهو ما حول المدينة سنة 1908 إلى بؤرة كبيرة للإصابة بالوباء، خصوصا وأن بنية الصرف الصحي والمياه الصالحة للشرب قد تضررت، وأصبح المجال خصبا للإصابة بالأمراض المتنقلة بمياه الشرب وروائح الصرف الصحي.
هذا الواقع جعل فرنسا تفكر في القيام بحملة تلقيح واسعة لرعاياها الفرنسيين والإسبان، سواء منهم الذين تضررت ممتلكاتهم بسبب القصف، أو الذين شكلوا الوفادة الجديدة على الدار البيضاء بهدف إعادة إعمارها.
الحكومة الفرنسية سنة 1910 قدمت تسهيلات كثيرة للفرنسيين الراغبين في الاستقرار بالمغرب، ووعدت بضمان حد أقصى من السلامة الجسدية لهم، وهكذا تعين تجنيد وحدات من الجيش الفرنسي لتوفير الرعاية الصحية للفرنسيين في المغرب.
التقارير الطبية كما صنفها الباحث «فرانسوا ديلافا»، والذي ألف سنة 1932 ما يشبه موسوعة طبية لعمليات الإغاثة التي نفذها الجيش الفرنسي قبل الحرب العالمية الأولى وأثناءها، ذكر أن الجيش الفرنسي سنة 1910 تلقى تقريرا شارك فيه أطباء فرنسيون وإسبان زاروا الدار البيضاء، للخروج بتوصيات تعتمد عليها الحكومة الفرنسية، لجعل الدار البيضاء خالية تماما من الأمراض والأوبئة التي تهدد حياة الفرنسيين الجدد في المغرب.
هذا التقرير، حسب الدكتور «ديلافا»، والذي عنونه بـ«كشف للحالة الصحية والوبائية في شمال إفريقيا»، جاء فيه أن هيئة الأطباء توصي بالقيام بعملية تلقيح واسعة للمغاربة في الدار البيضاء ونواحيها، وتلقيح إجباري لكل الوافدين إلى المدينة ضد أمراض الطاعون و«التيفويد» والطفح الجلدي، وكلها حسب التقرير أمراض متنقلة لن تنجح فرنسا في السيطرة عليها، ولو لقحت كل رعاياها إجباريا قبل التوجه إلى المغرب، لأنها أمراض قد تنتقل في الهواء أو مياه الشرب وقد تكون مضاعفاتها خطيرة على الأجانب، ولذلك يتعين تلقيح كل السكان بغض النظر عن أصولهم.
وجدت فرنسا سنة 1910 أن القيام بعملية مشابهة يتطلب إمكانيات كبيرة على المستوى الطبي والعسكري، وتبخرت المبادرة بانطلاق عمليات إعادة بناء الدار البيضاء بعد القصف، وهكذا أقبرت أول عملية تلقيح جماعي في المغرب، ولم تطلق مبادرات تلقيح المغاربة ضد الأمراض المعدية والوباء إلا في ثلاثينيات القرن الماضي، بعد أن أصبح المغرب في نطاق «الحماية» الفرنسية.
تقارير عسكرية عن تطعيم إجباري لـ«كوم» مغاربة حاربوا بإيطاليا سنة 1944
رغم أن العالم قد طوى صفحات الحرب العالمية الثانية، إلا أن المغاربة «الكوم» لا يزالون بين الفينة والأخرى يخلقون الحدث. إذ إن المذكرات التي صدرت عن قادة عسكريين فرنسيين وإيطاليين وألمان، تطرقوا فيها إلى فرق «الموت» المغربية التي كان لها الفضل الأكبر في استرجاع فرنسا لباريس من قبضة النازية، ذكرت تفاصيل عن المعاملة التي تلقاها المجندون المغاربة، قبل اقتيادهم إلى ساحة الحرب في آسيا، ثم في أوربا.
كان مشكل الفيتنام بالنسبة إلى الفرنسيين عدم وجود ضمانات لسلامة الجنود الفرنسيين، خصوصا في المناطق التي توجد بها غابات واسعة ومستنقعات، ولذلك تم تقديم المغاربة في خط الدفاع الأول.
تقول بعض الأنباء التي سبق لمجلة «ميليتاري هيستوري»، المهتمة بتاريخ الجيوش الأوربية ومشاركتها في الحربين العالميتين تحديدا أن أوردتها في أرشيفها، إن الجنود المغاربة كانوا موضوع تجارب سريرية لبعض الأدوية العسكرية التي لم يكن الجيش الفرنسي قد جمع عنها لائحة بالأعراض الجانبية المترتبة عن حقنها في أجساد الجنود. وهكذا استُعمل المغاربة لتجربة تلك اللقاحات عليهم، قبل أن يتم استعمالها في الميدان لعلاج الجنود الفرنسيين المصابين.
والأمر نفسه ينطبق على حملات التطعيم التي قادتها فرنسا في أوساط المتطوعين المغاربة في الجيش، إذ كانت هناك مخاوف من انتشار الأمراض وسط وحدات الجيش الفرنسي الذي كان يضم فرقا من الضباط الفرنسيين، تحت إمرة كل واحد منهم فريق من المجندين المغاربة، مهمتهم تأمين خطوط دفاعية جنوب «هانوي» في الفيتنام.
ومخافة أن يتعرض هؤلاء الضباط للإصابة بأوبئة، فقد تم تطعيم المجندين المغاربة بلقاحات إضافية، بعد أن تم حقنهم في مرحلة التكوين العسكري القصيرة في الدار البيضاء، وهو ما كان يشكل خطورة على حياتهم، سيما وأن بعض اللقاحات التي تم حقنهم بها لم تكن أعراضها الجانبية معروفة بعد في المجال الطبي، وما زاد من خطورتها على حياتهم أنهم تلقوها مجتمعة خلال فترة قصيرة ما بين سنتي 1942 و1944.
ورغم أن فرنسا خلال سنة 1910 كما سبق ذكره، رأت أنه من المستحيل شن حملة تطعيم إجباري ضد الأمراض القاتلة، رغم أن العدد الإجمالي للمغاربة وقتها لم يكن يشهد انفجارا ديموغرافيا كبيرا، وكان من الممكن احتواؤه، خصوصا وأن الإمكانيات العسكرية والطبية الفرنسية كانت متقدمة، كما لو أن الأمر يتعلق بتلقيح مقاطعة فرنسية صغيرة. إلا أن الاهتمامات السياسية والعسكرية لفرنسا، لم يكن من أولولياتها وقتها النظر في الملف «الصحي» للمغاربة بشكل عام.
حملات 1956.. عندما أمر محمد الخامس بإنقاذ المغاربة من الوباء
منذ نونبر 1955، تاريخ عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، والمعطيات التي تُجمع على مكتبه بشأن الأوضاع العامة في المغرب تدق ناقوس الخطر وتصف الهشاشة الشديدة التي تغرق فيها البلاد، ضريبة لسنوات الحماية الفرنسية التي همشت المصالح المغربية في البلاد.
وهكذا أطلق الملك الراحل حملة تلقيح، حتى قبل أن يتم تأسيس وزارة الصحة المغربية. حيث تم الاعتماد على أطر فرنسية وأخرى من الصليب الأسود، حيث كانت هذه المنظمة الدولية تتوفر على مكاتب لها في المغرب لرعاية القرويين وسكان المناطق المعزولة، والقيام بحملات تحسيسية لصالحهم.
وهكذا تم إطلاق مبادرة تلقيح، بمساعدة أمريكية. وحسب أرشيف سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في الرباط، فإن أمريكا عرضت على المغرب مساعدة سخية سنة 1956، حيث باشرت في شتنبر حملة تلقيح واسعة بعد وصول اللقاح من الولايات المتحدة، وتجندت له أطر الصحة الفرنسية، بمساعدة من الصليب الأحمر، وشمل مناطق مختلفة من شمال المغرب إلى أقصى الجنوب، حيث تم انتقاء أكثر المناطق التي تشهد تجمعات سكانية كبرى، لكي يكونوا على رأس لوائح المستفيدين من اللقاح المجاني.
استعملت لوائح المستفيدين لاحقا في إعداد سجلات الحالة المدنية، وإحصاء عام للسكان كان الأول من نوعه. كما استعملت لوائح التلقيح أيضا لإزالة البناء العشوائي والأحياء الصفيحية، وأحيلت تلك اللوائح على وزارة الداخلية المغربية أيام الوزير اليوسي، أول وزير للداخلية في مغرب الاستقلال.
ولولا حملة التلقيح الواسعة لتأخر إعداد الحكومة المغربية للوائح إحصاء عام للمغاربة، للوقوف عند حجم التحديات التي تنتظر أول حكومة مغربية.
هذا اللقاح كان لمواجهة الأمراض المعدية التي كانت تحصد أرواح الآلاف سنويا. وللإشارة فإن المغاربة وقتها كانوا قد بدؤوا يألفون حملات التلقيح، خصوصا في الحواضر والمناطق القروية التابعة لها، أما في المناطق المنسية والجبال والنطاقات المعزولة فقد احتاج الأمر مجهودات أكبر للوصول إلى هذه الشرائح المهمشة، وتنظيم حملات تلقيح لصالحها.
بالنسبة إلى سكان الحواضر والمناطق القروية التابعة لها، فقد كان التلقيح في المدارس إجراء رائجا منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي إلى حدود سنة 1951، حيث صكت الإقامة العامة الفرنسية قانونا يجبر التلاميذ على تلقي حقنة لقاح قبل دخولهم إلى المدارس النظامية التابعة للإقامة العامة الفرنسية.
كانت فرنسا من خلال هذا الإجراء تريد تعزيز حظوظ مواطنيها، لكي لا يصابوا بالأمراض المعدية في حياتهم اليومية بين المغاربة. وبدأت الحملة في المدارس لتشمل الأحياء السكنية، سيما «كاريان سنطرال» والمدينة القديمة بالدار البيضاء، ثم الرباط، فالمدن المغربية الكبرى الأخرى.
أما في القرى فقد كانت الأسواق الأسبوعية تُستغل لإجبار الفلاحين وسكان القرى على تلقي اللقاح. وحسب الدكتور «فيليب دولاكروا»، الذي كان مرافقا عسكريا في مقر الإقامة العامة بالرباط ما بين سنتي 1949 و1951، فإن المقيم العام عمم نشرة على جميع «الحكام» العسكريين، الذين توزعوا على المناطق القروية المغربية لمراقبة أمن فرنسا فوق التراب المغربي. وكانت المذكرة المعممة تشدد على ضرورة إجراء تلقيح إجباري للمغاربة في الأسواق الأسبوعية، خصوصا وأن بداية الخمسينيات كانت سنوات جفاف لم تشهد فيها البلاد ما يكفي من الأمطار لازدهار الموسم الفلاحي، وهو ما زاد من مخاوف انتشار الأمراض الناتجة عن الجفاف، أو ما يعرف بالعدوى الموسمية، التي كانت تتطور إلى حمى قاتلة، بحكم أن أغلب المغاربة لم يكونوا يستفيدون من أي حقن وقائية لمواجهة الأمراض الموسمية.
وهكذا تم تعميم اللقاح الإجباري في تلك السنوات، وسرعان ما ألف المغاربة تلك الحملات حتى بعد حصول البلاد على الاستقلال، وانتشار حملات التوعية في الراديو والمنشورات الدعائية، التي شجعت المغاربة على تسجيل أبنائهم وعائلاتهم في تلك اللوائح. بعد أن كان أغلب المغاربة يتخوفون من حملات التلقيح ويعتبرونها فصلا من فصول حرب فرنسا العسكرية ضد المغاربة، ولم يكن أغلبهم يتردد في إخفاء أبنائه أو إرسالهم سرا إلى القرى البعيدة إلى أن تمر حملات التلقيح.
الحسن الثاني اعتبر وزراء الصحة أهم من وزراء «السيادة»
في سنة 1963، بعد الزيارة التاريخية للملك الحسن الثاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية، استفاد المغرب من برامج مساعدات كانت تضعها الولايات المتحدة لدعم الدول الصديقة. برنامج المساعدات كان يشمل مساعدات غذائية في فترة الجفاف، وُجهت إلى الطبقات المعوزة ومطاعم وزارة التربية والتعليم، لكي يستفيد منها التلاميذ وأسرهم بشكل مباشر.
كما برمجت مساعدات طبية للمغرب في الفترة نفسها. ورغم أن حملات التلقيح لم تكن ضمن البرنامج، إلا أن المغرب استطاع بفضل الصداقة مع أمريكا أن يستفيد من برامج لمنظمات دولية، أبرزها الصليب الأحمر.
إذ بعد زلزال أكادير في فبراير 1960، أصبح لمنظمة الصليب الأحمر عدد من المراكز في المغرب، والتي تابع موظفو المنظمة منها الحالة الصحية في المغرب، بعد رفع الأنقاض وانطلاق عمليات البناء. كما كان الصليب الأحمر يتابع باهتمام تداعيات ملف التسمم الجماعي في مدينة مكناس سنة 1959، على خلفية ملف الزيوت المسمومة.
هذان الملفان تحديدا جعلا الملك الراحل الحسن الثاني يولي اهتماما كبيرا لقطاع الصحة، خصوصا وأن المغرب ورث منظومة فرنسية ضعيفة في القطاع، حيث كان هدفها الأول رعاية الفرنسيين في المغرب، بينما كان المغرب المستقل أمام رهان تأمين صحة سكان المغرب جميعا بإمكانيات محدود جدا.
ومما زاد من خطورة الوضع، مرور المغرب بأزمتين خانقتين تتمثلان في الملفين المذكورين، زلزال أكادير وفضيحة الزيوت المسمومة، وكلا الملفين مس حياة عشرات آلاف المغاربة بين قتلى في الزلزال وجرحى، ومصابين بعاهات دائمة في ملف زيوت مكناس.
كان الملك الحسن الثاني يعرف أن الدعم الدولي المتمثل في الصليب الأحمر (حلت فروعه التي تمثلها دول أوربية، بالإضافة إلى كندا والولايات المتحدة في أكثر من مدينة مغربية) يبقى برنامجا محدودا محكوما بمدة زمنية محددة، وأنه لن يستمر طويلا. وفعلا ففي سنة 1963 رفعت المنظمة يدها عن الملفات، وأصبحت صحة مئات آلاف المغاربة على عاتق وزارة الصحة المغربية التي كانت في طور التأسيس.
وهكذا انطلق فعليا في المغرب برنامج تلقيح مغربي مائة في المائة، حيث تم إشراك وزارة التربية الوطنية في الموضوع، وأصبحت أقسام المدارس مستوصفات مؤقتة لاستقبال سكان المناطق للاستفادة من التلقيح، ووضعت وزارة الصحة بأمر من الملك الحسن الثاني والأميرة لالة مليكة، ثم الأميرة لالة عائشة في ما بعد، برنامجا لتلقيح المواليد الجدد، ليصبح التلقيح إجباريا في أواسط ستينيات القرن الماضي، إلى أن تحرر المغرب من التبعات القديمة لغياب برامج تلقيح عام في المغرب.
وهكذا تم تسجيل انخفاض كبير في الوفيات مع نهاية ستينيات القرن الماضي وتراجع كبير لحالات الإصابة بالأمراض المعدية، إلى أن اختفت أمراض العصر الوسيط، التي كانت تعصف بحياة الآلاف سنويا.
وعندما فرضت حالة الاستثناء، حيث حل الملك الحسن الثاني البرلمان والحكومة ما بين 1965 و1970، وتولى بنفسه النزول طيلة تلك الفترة إلى مقرات الإدارات العمومية في الرباط لمتابعة الملفات، كان يولي اهتماما كبيرا لوزارة الصحة، حيث كان يقوم بزيارات تفقدية إلى مديريات الصحة التابعة للوزارة، دون تعيين وزير وصي على القطاع، حيث أصبح ديوان الملك الراحل يتواصل بشكل مباشر مع مديريات الصحة، ليتابع الملك بنفسه عمليات التلقيح وإنشاء المستشفيات وإطلاق الحملات التحسيسية في المغرب.
وما نقله محيط الملك الحسن الثاني عن أنه كان يولي اهتماما كبيرا لأولى عمليات التلقيح في مغرب الاستقلال، تترجمه خطب ملكية قديمة في الموضوع، حيث كان الملك الراحل يخاطب المغاربة البسطاء عبر الراديو، متعمدا الحديث إليهم بالدارجة، مستحضرا ارتفاع نسبة الأمية في صفوف المغاربة في ذلك التاريخ، لحثهم على التوجه إلى «خيام» التلقيح داخل الإدارات.