الصندوق الأسود للأحداث الدامية للمقاومة وجيش التحرير
مع Télé Maroc
«كان لا بد من سحب سلاح المقاومة بأي ثمن، خصوصا وأنهم كانوا يخططون للتوجه إلى الصحراء للدخول في مواجهات مع إسبانيا، رغم أن الملك الراحل محمد الخامس، أعلى سلطة في البلاد، كان متمسكا بخيار الحوار أولا مع الإسبان والوصول معهم إلى اتفاق للانسحاب من الأقاليم الصحراوية. المثير أن قدماء المقاومة وجيش التحرير شنوا فعلا حربا ضد إسبانيا، وغردوا لوحدهم مؤمنين ألا علاقة لهم بالعمل السياسي. هل أخطأوا عندما دخلوا حربا مسلحة ضد دولة أخرى؟ الواضح أنهم فعلا أربكوا حسابات المغرب الذي حصل لتوه على الاستقلال. والنتيجة كانت استعانة إسبانيا بالجيش الفرنسي، حليفها القديم، حيث نفذت عمليات قصف واسعة في الصحراء لضرب مواقع جيش التحرير المغربي. بينما الوضع في الرباط كان شديد الغليان. جيش التحرير أدخل البلاد في مواجهة كان النظام في غنى عنها. لكن هل استحق قدماء المقاومة،فعلا،أن يُنعتوا بالخونة رغم أن أغلبهم كانوا مخلصين للعرش؟ لنتابع
شهادة تُنشر لأول مرة:
هل كان جيش التحرير المغربي ضد استقلال موريتانيا؟
بما أن قدماء جيش التحرير المغربي، ببذلتهم الداكنة التي رفضوا خلعها في أكثر من مناسبة رغم حصول البلاد رسميا على الاستقلال، رفضوا العرض الذي قدم لهم للانضمام إلى الجيش الملكي، حيث استنكروا وجود مغاربة في الجيش المغربي كانوا قد خدموا في صفوف الجيش الفرنسي سابقا، وعلى رأسهم الجنرال أوفقير والكتاني وأمزيانوآخرون.. فإن مسألة استقلال موريتانيا عن المغرب لم تكن موضوعا سهل الهضم بالنسبة إليهم.
وبما أن نسبة كبيرة من قدماء جيش التحرير المغربي رفضوا أن يضعوا سلاحهم ويسلموه للدولة، فقد كان متوقعا أن يكون لديهم موقف متطرف من الشأن الموريتاني..، خصوصا وأنهم،سنة 1956، كانوا قد شنوا حملات عسكرية ضد وحدات الجيش الإسباني في الأقاليم الجنوبية، وهو ما كان يتعارض مع السياسة التي أطلقها الملك الراحل محمد الخامس. وفعلا، وقع ما كان يخشاه الجانب الرسمي، استعانت إسبانيا بالقوات الفرنسية، وقصفوا مواقع في الصحراء لإنهاء تحركات جيش التحرير المغربي، ودخل المغرب أول أزمة دبلوماسية له بعد الحصول رسميا على الاستقلال، وزاد من حدتها اختطاف قدماء جيش التحرير والمقاومة لضابط فرنسي، حيث وقعت أزمة أخرى بين المغرب وفرنسا هذه المرة، وعمل ولي العهد على خلق لجنة للتحقيق في الموضوع. ووقتها أصبح وقف عمليات جيش التحرير المتمردة ضرورة ملحة.
كيف تعامل أعضاء جيش التحرير،إذن،مع ملف استقلال موريتانيا؟
يقول إبراهيم النوحي، وهو أحد قدماء أعضاء جيش التحرير في الصحراء، الذي كان في قلب العمليات المسلحة، حيث خص «الأخبار»بسرد للوقائع. يقول: « في الشهور الأولى من سنة 1956 وصل الى المغرب الزعيم الموريتاني حرمة ولد بابانا،النائب الموريتاني في الجمعية الوطنية الفرنسية وعضو المجلس الأعلى لإفريقيا الغربية، كما التحق بالمغرب الأمير زكريا بن خينو، الكاتب العام للحركة الوطنية لتحرير موريتانيا وهو من أمراء السكان السود بجنوب موريتانيا.ووصلتأيضامجموعةمنقادةحزبالنهضةالموريتاني،فيمقدمتهممحمدولدجدو،وأحمدبابامسكيي،وأحمدبازيد،وماءالعينينولدالنوروغيرهممنالوطنيينالموريتانيين،وهمطليعةالوطنيينالذينقاوموامحاولةالسلطاتالاستعماريةالفرنسيةإلحاقموريتانيابالترابالوطنيالفرنسي،وكانفيمقدمتهمالصحفيالمغربيالمشهورمحمدباهيالذيوصلرأسامنإذاعةدكارإلىقيادةجيشالتحريربكلميم،وقدتكلمهؤلاءباسمالوطنيينرؤساءالقبائلالتيكانتتمثلآنذاكالرأيالعامالوطنيبموريتانيا،وطرحوامشروعامتكاملالتحريربلادهممنالاستعمارالفرنسيوانضمامهاالىالوطنالأم،ووضعواأنفسهمرهنإشارةحركةالتحريرالمغربية.
وفي أكتوبر 1956 غادرت فرقة من جيش التحرير مدينة كلميم متجهة نحو موريتانيا عبر منطقة طرفاية والساقية الحمراء ووادي الذهب، وذلك بعد أن تمت الاتصالات اللازمة مع القبائل الصحراوية وتطوع عدد من أفرادها في صفوف جيش التحرير، وبعد أن أنهت قيادة جيش التحرير اتصالات تمهيدية مع الإسبانيين والاتفاق معهم على استعمال منطقة الصحراء الإسبانية نقطة مرور ولطمأنتهم على احترام مصالحهم بالمنطقة، انطلقت هذه الفرقة وقطعت وادي درعة تحت مسؤولية قيادة محمد بن حمو ولم تمض إلا أيام معدودة حتى التحقت بها جماعات أخرى من جيش التحرير، وفي طريقها الى موريتانيا شرعت فرق جيش التحرير في انشاء مواقع لها بمناطق استراتيجية على طول الصحراء الفرنسية بموريتانيا، وكان الغرض من المراكز الجديدة هو تنظيم الاتصالات المستمرة بالمواطنين الصحراويين والذين لهم رغبة للتطوع في صفوف جيش التحرير وإيجاد مواقع يستعملها الجيش للتموين وتأمين المواصلات مع المراكز أو مع القبائل بالصحراء الجنوبية أو الشرقية. في هذه المسيرة الجديدة إلى موريتانيا كانت أمام قيادة جيش التحرير مهام مزدوجة، فمن جهة كان يهيئ نفسه لمواجهة الاستعمار الفرنسي بالصحراء،ومن جهة أخرى كان يقوم بالتعبئة الشاملة والتوعية بهذه المهمة وسط المواطنين بالصحراء الإسبانية. وكان من الضروري حماية المراكز الخلفية لهذه الحركة والتي ستقبل على مهمة اتضح أنها لم تكن سهلة. فالطريق المؤدية إلى موريتانيا طويلة، ووسائل الكفاح التي كانت تملكها قوات جيش التحرير محدودة، أسلحة خفيفة وذخيرة متواضعة لم تكن لها أهمية كبيرة، ولكن هنا كان الارتكاز على دور المواطنين بموريتانيا وبالصحراء المغربية.وحسب ما أكده الزعيم حرمة ولد بابانا والمواطنون الموريتانيون الذين التحقوا بصفوف جيش التحرير، فإن هناك استعدادا تاما للكفاح من أجل تحرير بلادهم من الاستعمار. ودعم دخول الموريتانيين الحماس الذي استقبل به جيش التحرير في طانطان وعيون الساقية الحمراء، واتسع انخراط أبناء المنطقة في صفوف جيش التحرير وجرى تزويده بالجمال والمواد التي كان في حاجة إليها. ومن موريتانيا نفسها وصل الدعم المادي من طرف تجار نواديبو والكويرة إلى قيادة جيش التحرير وطالت مسيرة جيش التحرير إلى حوالي شهرين ونصف منذ مغادرته لمدينة كلميم إلى حدود موريتانيا بتيكلت، وهناك احتفل المواطنون بهؤلاء المجاهدين الذين وفدوا للمرة الأولى من الشمال إلى الجنوب في معركة التحرير ــ في الوقت الذي كانت قوافل التحرير تنطلق دائما من الجنوب إلى الشمال».
هل انقرض شهود أسرار حل جيش التحرير؟
توفي قبل أيام أحد الذين حملوا السلاح باسم جيش التحرير وقدماء المقاومة في الجنوب. يتعلق الأمر بالهاشمي ناضل، وهو أحد الذين اعتبروا ذاكرة حية لوقائع هُمشت من التاريخ الجماعي للمغاربة، نظرا للإحراج الذي كانت تسببه لعدد من الأشخاص لم يكونوا يريدون تسجيل وقائع اختلطت فيها الأمور حد تبادل الاتهامات بمحاولات قلب النظام في المغرب واستهداف حياة الملك الراحل الحسن الثاني وإدخال السلاح إلى المغرب.
لكن المثير أن أكثر الشخصيات التي واجهت قدماء جيش التحرير، وهما الجنرالان أوفقير والدليمي، في فترتين متفرقتين، ووجها لأعضائه اتهامات بالخيانة والعمالة للخارج وتهديد أمن المغاربة، قد أنهيا حياتهما بمحاولة قلب النظام. الجنرال أوفقير، الذي طالما لاحق قدماء جيش التحرير باعتباره وزيرا للداخلية ثم مديرا عاما للأمن الوطني وجنرالا في الجيش، ووجه لهم تهمة الخيانة ومحاولة اغتيال الملك الحسن الثاني، قام بنفسه بمحاولة صريحة سنة 1972 لضرب طائرة الملك الحسن الثاني وهي تدخل الأجواء المغربية، بينما بقي أغلب قدماء المقاومة وجيش التحرير راسخين على موقفهم محتفلين بذكرى عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، معلنين ولاءهم الدائم للعرش. بينما الجنرال الدليمي خاض سنة 1983حربا ضروسا ضد قدماء جيش التحرير في الصحراء حيث حاول بكل الطرق منعهم من لقاء الملك الراحل الحسن الثاني، بصفته المسؤول العسكري الأول عن عمليات الصحراء ضد البوليساريو، واتهمهم بالخيانة مذكرا إياهم بالحرب التي خاضها ضدهم سنة 1964 وبفضلها أصبح مديرا عاما للأمن الوطني ومسؤولا عن المخابرات الخارجية حيث كان مهتما بملفات المقاومين المنفيين في الخارج وعلى رأسهم الفقيه البصري. فيالسنةنفسهاماتالدليمي في ظروف غامضة وتحدثت تقارير المخابرات الفرنسية عن محاولة الجنرال الدليمي الانقلاب وقلب الموازين في المنطقة وعقد صفقة مع الجزائر لاقتسام الصحراء المغربية.
ذهب الرجلان اللذان شنا حربا ضد قدماء المقاومة وجيش التحرير، لكن ظل قدماء هذا التنظيم المسلح الذي ساهم في استقلال البلاد، يطالبون بإعادة الاعتبار رافضين تهما من قبيل قيادة عمليات مسلحة في المغرب وشن حرب العصابات حتى بعد حصول البلاد على الاستقلال. تضاربت الحقائق بهذا الخصوص، وظل ملف هذه الشريحة من المغاربة هامدا بين رفوف الذاكرة الجماعية.
أعضاء اليد السوداء.. المقاومة على طريقة «آسيا»
في ستينيات القرن الماضي، ظهرت أطروحة في فرنسا مفادها أن المقاومة المغربية للقوات الفرنسية خلال الخمسينيات، كانت مُستلهمة من المقاومة الآسيوية للاستعمار وربطت بين أفواج المجندين المغاربة إلى «هانوي» في الفيتنام، وبين ظهور العمليات المسلحة ضد الفرنسيين في المغرب.
بينما ذهب آخرون إلى القول إن المغاربة تدربوا على شن حرب العصابات والاغتيالات، من أشخاص مغاربة عائدين من القتال في الحرب العالمية الثانية في صفوف الجيش الفرنسي.
وفي غياب أي توثيق جاد في الموضوع، فإنه يصعب فعلا الحسم في مصدر استلهام المغاربة لطرق حرب العصابات وتنفيذ اغتيالات شخصيات فرنسية مدنية وعسكرية في المغرب.
هذه العمليات وصلت ذروتها بعد نفي الملك الراحل محمد الخامس في غشت 1953.
ورغم أن عددا من الأطراف، بعضها من داخل جسم المقاومة وجيش التحرير، دخلوا في نقاشات حامية حول المنفذين الحقيقيين لعدد من العمليات التي نفذتها الخلايا السرية، والتي أصبح أفرادها أعضاء في جيش التحرير المغربي واستمر نضالهم المسلح إلى ما بعد 1956 حيث ذهبوا إلى الصحراء للمشاركة في نداء تحريرها من الاستعمار الإسباني، مخالفين بذلك توجه الملك الراحل محمد الخامس الذي كان يؤمن بضرورة التفاوض مع الإسبان لاستعادة الأقاليم الجنوبية.
نعود هنا إلى أرشيف البوليس الفرنسي في المغرب، حيث يتطرق لواقعة كان لها أثر كبير على مستقبل المقاومة في المغرب، حيث أدين منفذوها بالإعدام، وظهر لاحقا آخرون أكدوا أنهم كانوا من النواة التي خططت للعملية، وأصروا على استكمال مسيرة العمليات الفدائية، وأصبحوا من نواة جيش التحرير المغربي.
سبق أن تناولنا في «الأخبار» مجموعة من أوراق أرشيف الشرطة الفرنسية، والتي أشرف أفرادها على التحقيق في العمليات التي اعتبروها «إرهابية» وجاء فيها ما يلي:
«باب مراكش. في قلب مدينة الدار البيضاء. كانت مصابيح الإنارة العمومية تتراقص على طول الشارع الذي يصل قلب المدينة بالمعلمة. كل شيء هادئ في ذلك المساء، الرابع من يناير سنة 1955. إلى أن سُمع دوي انفجار قوي هز المكان. القنبلة استهدفت محلا لبيع الأحذية الجلدية. لكن بدل أن تستهدف القنبلة المحل، فقد أودت أيضا بحياة عدد من المارة، وأصيب الآخرون بجروح. وكلهم مغاربة.
رغم أن الانفجار حدث لم يكن ممكنا للأمن الفرنسي التغاضي عنه، إلا أنهم في الدائرة الأمنية القريبة تنفسوا الصعداء عندما سقط ضحايا مغاربة في الأخير. فمنذ أيام، والحوادث تتلاحق في تصعيد غير مسبوق، سببه الأحداث الدولية التي يعيشها المغرب على إيقاع من التوتر وانتظار انفراج أزمة العرش، أشهرا قبل عودة الملك محمد الخامس من المنفى».
لنعد إلى ما قبل الانفجار بقليل. في ذلك اليوم، فإن سجالا كبيرا وقع بين أصدقاء المقاوم إبراهيم الروداني، أو ما تبقى منهم بعد وفاته ووفاة الزرقطوني أيضا، حول ظروف صناعة بعض القنابل اليدوية. فقد اشتكى بعض المقاومين من عدم فاعلية عدد من القنابل المحلية التي صنعوها بأنفسهم، خصوصا وأن بعضها تسبب في سقوط ضحايا مغاربة أكثر مما استهدف من رجال الأمن الفرنسيين. واستعادوا في أذهانهم ما وقع للقنبلة التي لم يُكتب لها الانفجار لنسف التمثال الشهير الذي أقيم في قلب الدار البيضاء سنة 1953 إكراما لذكرى أصدقاء الماريشالليوطي. ولم تنفجر القنبلة بسبب الأمطار، وأيضا لكونها بدائية الصنع.
هذا السجال عاد بقوة بين مختلف التنظيمات السرية التي كانت تنشط في المغرب، خصوصا في الدار البيضاء، بخصوص جدوى تفجير المحلات التجارية. في وقت كان فيه آخرون، خصوصا في الهلال الأسود، يستهدفون حياة الفرنسيين والمخبرين، ويرمونهم بالرصاص في الأزقة الضيقة أو أمام الإدارات التي يشتغلون بها، لبث الرعب في نفوس الموظفين الآخرين.
المحاضر المتوفرة في الأرشيف تكشف أن عددا من العمليات لم تكن مجرد إشاعات بل كانت أقرب منها إلى البطولات. الواقفون وراء تلك العمليات، نتحدث هنا عن الذين نجوا من أحكام الإعدام أو أطلق سراحهم قبيل عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى في نونبر 1955، كانوا هم النواة الأولى لجيش التحرير المغربي، وبقي جلهم بعد استقلال المغرب محافظين على ذكرى أصدقائهم الذين وهبوا حياتهم من أجل استقلال المغرب. فهل سقط الناجون في فخ حرب العصابات،خصوصا بعد 1963؟
الاجتماعات السريةقبل «عصيان» جيش التحرير
لا أحد يستطيع الآن أن يطعن في وطنية مؤسسي جيش التحرير المغربي، رغم أنهم اتهموا سنة 1956 بتهم قادت جلهم بسهولة إلى حبل المشنقة بعد الاستقلال بل حكم عليهم غيابيا بحكم أنهم كانوا قد هربوا من المغرب خصوصا سنة 1963.
سوف نعود إلى تفاصيل هذه المحطة السوداء، لكن بعد أن نفصّل أولا في الطريقة التي وُلد بها نضال جيش التحرير بعد استقلال البلاد.
هناك شهادات كثيرة لمقاومين سابقين، بالعشرات، يؤكدون جميعا أن الملك الراحل محمد الخامس ومعه ولي العهد الأمير مولاي الحسن قضيا أسابيع طويلة في استقبال أكبر عدد ممكن من المقاومين أعضاء جيش التحرير المغربي، حتى قبل أن يتم التوقيع رسميا على استقلال المغرب عن فرنسا وإنهاء عقد الحماية. بدأت تشتد حرارة سنة 1956، منذ شهر مارس على الخصوص. والسبب أن تصدعات كثيرة بدأت تظهر في جسم المقاومة. عملية جمع سلاح المقاومين أعضاء الخلايا السرية لم تجر كما يجب. وبدأ القلق يدب في الأرجاء.
نعود هنا إلى ذاكرة أحد الفاعلين الكبار في جيش التحرير المغربي. يتعلق الأمر بآيتإيدر، الذي يبقى اليوم أحد أقدم الذين عاشوا تلك الكواليس. جاء في مذكراته التي صدرت في أواخر سنة 2018، ما يلي: «تكلفت بمهمة إخراج الفقيه البصري وحسن صفي الدين وبونعيلات من الدار البيضاء بما في ذلك تهييء جوازات سفر خاصة وتعيين الطائرة التي سيغادرون على متنها إلى مدريد. كان اللقاء في العاصمة الإسبانية بدار الكبير الفاسي. بحضور المهدي بن بركة وعلال الفاسي والدكتور الخطيب والحسين برادة وعباس المسعدي وآخرين من بينهم كاتب هذه السطور. كان الغرض من هذا الاجتماع تقييم الأوضاع السياسية والعسكرية واستشراف الآفاق المستقبلية المطروحة أمام المغرب. مع التنسيق مع قيادة حزب الاستقلال وجيش التحرير.
(..) تمخض الاجتماع عن مجموعة من الاتفاقات صادقنا عليها بالإجماع. من بينها عدم تجريد جيشالتحرير من سلاحه. مع جعله النواة الأولى للجيش الوطني في وقت لم يكن فيه الجيش الملكي قد رأى النور بعدُ. ومحاكمة الخونة الذين تعاملوا مع سلطات الاحتلال. واستمرار الكفاح المسلح».
تفاجأ الحاضرون، كما يقول آيت إيدر، بكون أحد الحاضرين اتصل بوزير الداخلية وقتها، حسن اليوسي، وأخبره بأن جيش التحرير سوف يسلم سلاحه. وهو الأمر الذي أربك القيادة لاحقا. وحتى لا تضيع التفاصيل، سنمر إلى ما قاله آيت إيدر عن اغتيال عباس في منطقة أكنول وعلاقة المهدي بن بركة بمقتله، وإثارة اسم عبد الكريم الخطيب في الموضوع: «كان المقصود هو تشويه صورة المهدي. فالرجل كان يمثل الوجه الأبرز للحداثة في المغرب غداة الاستقلال وهو الحامل لمشروع دولة عصرية ديموقراطية محصنة ومستقلة تنتمي إلى العصر بكل معنى الكلمة. (..) بن بركة كان أكبر من عباس المسعدي ولم يكن يحتاج إلى تصفية أي كان. لأن الاغتيال أو القتل كان أبعد ما يكون عن شخصيته. وله من القوة والإرادة والذكاء ما يجعله يبلغ أهدافه التي لم يحد أي منها عن القيم الإنسانية الكبرى التي كان يحملها. لكن مع الأسف استغلت الدولة اغتيال المسعدي لمحاولة خدش صورة المهدي».
هذه المعطيات تكشف إلى أي حد كانت هناك حسابات سياسية وراء عملية جمع سلاح المقاومة، وتداعيات قضية اغتيال عباس المساعدي كانت أحدها. كان لا بد من سحب سلاح المقاومة بأي ثمن، خصوصا وأنهم كانوا يخططون للتوجه إلى الصحراء للدخول في مواجهات مع إسبانيا، رغم أن الملك الراحل محمد الخامس، أعلى سلطة في البلاد، كان متمسكا بخيار الحوار أولا مع الإسبان والوصول معهم إلى اتفاق للانسحاب من الأقاليم الصحراوية.
كيف ظهرت تُهمة حمل السلاح سنة 1963
منذ سنة 1955، والفاعلون السياسيون أمثال علال الفاسي والمهدي بن بركة، والدكتور الخطيب والمحجوبي أحرضان، كانوا في قلب ملف تسليم سلاح المقاومة وجمعه.
لكن تداعيات اغتيال عباس المساعدي وتمرد قدماء المقاومة على الشخصيات المدنية التي كانت مكلفة بالملف، مثل وزير الداخلية إدريس المحمدي والمدير العام للأمن الوطني الغزاوي، كلها جعلت المهمة صعبة للغاية.
بدأ الأمر بمؤامرة 1960 التي اتهم فيها مقاومون قدامى من بينهم سعيد بونعيلات بمحاولة اغتيال ولي العهد والتي طويت لعدم وجود أدلة كافية لإدانة المشتبه فيهم، والذين كانت أعدادهم بالعشرات. إذ إن الملك الراحل محمد الخامس أمر بوقف كل التحريات وإطلاق سراح المتابعين.
في تلك اللحظة بدأت الاغتيالات التي نفذها منتسبون سابقون إلى المقاومة، واتُهموا بأنهم كانوا يعملون في صفوف البوليس السياسي التابع للمدير العام للأمن الوطني محمد الغزاوي.
تورط أسماء من حزب الاستقلال في هذه الحرب جعل قدماء المقاومة وجيش التحرير يعتقدون، بدون أي شك، أن حزب الاستقلال مسؤول عن مشاكلهم مع الدولة. في حين أن بعض التقارير أشارت إلى أن المشكل يكمن أيضا في حالة العصيان التي خاضها بعض قدماء المقاومة بعد رفضهم تسليم أسلحتهم للدولة وإصرارهم على حمل السلاح في الشارع العام.
وهو ما جعل حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1959 تخوض حملة إعلامية لإقناع هؤلاء الناس بتسليم سلاحهم للدولة. وهو ما تم ولو بشكل جزئي. خصوصا بعد إنهاء تحركات جيش التحرير في الصحراء، إذ إن جل الذين شاركوا في حرب ضد الجيش الإسباني، عادوا إلى منازلهم.
لكن بمجيء سنة 1963 وتضييق الخناق على عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري، الذي كان اسما وازنا جدا في المقاومة وجيش التحرير، جعل الشرارة تشتعل من جديد بين الدولة وقدماء المقاومة.
مؤامرة يوليوز 1963 كانت محطة مهمة في تلك الحرب. إذإن شيخ العرب، أحد قدماء المقاومة المتهمين بالعصيان، كان أيضا مبحوثا عنه، وجرت اغتيالات كثيرة في صفوف المقاومين.
بعد المحاكمة الشهيرة للمتهمين في هذه المؤامرة، فر عدد هائل من المتابعين غيابيا إلى الجزائر برا ومنهم من توجه إلى فرنسا بينما اختار آخرون المضي في اتجاه سوريا، بحكم أن الموجة وقتها كانت تتجه صوب خطاب القومية الذي قاده جمال عبد الناصر في مصر.
وهكذا أصبح المغرب يتوفر على عدد من الهاربين المتابعين غيابيا، أغلبهم إن لم نقل كلهم من قدماء المقاومة وجيش التحرير.
سوء فهم كبير بينهم وبين الدولة زاد حدة عندما تم تنفيذ أحكام الإعدام في حق مطلوبين مثل بنحمو الفاخري وبعض قدماء المقاومة الملتفين حوله. ثم ازداد الوضع تأزما بعد نشر خبر مقتل شيخ العرب، أحد رموز المقاومة الكبار الذي التف حوله قدماء جيش التحرير في الجنوب باعتباره ثائرا على الحالة التي وصل إليها قدماء المقاومة بعد الاستقلال. سوء الفهم هذا قاد إلى إصدار مذكرة بحث وطنية في حقه اعتبرته مجرما خطيرا، بينما أصدقاؤه ومحبوه كانوا يرون فيه ثائرا على الذين اغتالوا حقوق المقاومين. وهكذا عندما قتل في الدار البيضاء بعد مواجهات مع الأمن سنة 1964، عاش أصدقاؤه صيفا ساخنا تلك السنة في محاولة للانتقام لصديقهم.
لكن كل تلك الملفات طويت في الأخير، خصوصا بعد عودة أعداد من أعضاء المقاومة وجيش التحرير، أبرزهم محمد الفقيه البصري، إلى البلاد بعد سنوات من المنفى، وعاد من تبقى بعد وصول عبد الرحمن اليوسفي إلى الوزارة الأولى في تجربة التناوب سنة 1998. بينما بقي فريق آخر من قدماء المقاومة ممن شهدوا تلك المواجهات الدامية، في الذاكرة فقط.
المنسيون.. ضحايا حروب جيش التحرير والسياسيين
عندما بدأت هيئة الإنصاف والمصالحة فتح ملفات سنوات الرصاص، كان من بين الضحايا وعائلاتهم، فئة تحمل قضايا لم تكن معروفة في ذلك الوقت، وتتعلق بملف عائلات حملات جمع سلاح المقاومة.
إذ إن هؤلاء كانوا قد أدوا ثمن انضمام أسرهم إلى المقاومة وجيش التحرير، وعاشوا أياما رهيبة بسبب تلك التوترات.
هنا نورد بعض ما جاء في تقارير هيئة الإنصاف والمصالحة والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والمستخلصة من ساعات جلسات الاستماع لعائلات ضحايا تلك الأحداث. المتحدث هنا رجل فقد ابنه الذي كان من بين نشطاء المقاومة وجيش التحرير: «ابني اسمه امبارك بن قدور. كان هو ووالده يشتغلان مع المقاومة، وكانا فارين لسنتين من البوليس الفرنسي الذي كان يقلب المدينة القديمة للبحث عنهما على خلفية تهمة قتل شرطي فرنسي بزيه الأمني في وسط المارشيسنطرال لأنهما رفضا أن يفتشهما. وبعد الحادث أصبحا يشتغلان مع المقاومة، وسلمهما المقاوم المعروف الزرقطوني مسدسين وكلفهما بإخفائهما بإحكام وألا يسقطا أبدا في أيدي الفرنسيين.
كانا يشاركان رفقة عدد من المقاومين من المدينة القديمة في عمليات ضد الفرنسيين خصوصا في الفترات التي تشتد فيها حملات التفتيش للمنازل، وإحراق الدكاكين، وكانا يعتبران ما يقومان به انتقاما من الفرنسيين.
اعتُقل الوالد على خلفية واحدة من تلك العمليات وتم التحقيق معه وأعدمه الفرنسيون رميا بالرصاص لأنهم اعتبروه إرهابيا وعنصرا خطيرا، ومن يومها وابني يخطط لأخذ ثأر أبيه وعاش لسنوات متخفيا إلى أن حصل المغرب على الاستقلال. وجاء بعض المخبرين للبحث عنه، وقالوا له إنهم يشتغلون مع المقاومة وأنه يتعين عليه أن يسلمهم السلاح الذي بحوزته، وعند رفضه تسليم المسدس لهم، أطلقوا عليه النار لكنه لاذ بالفرار، وبحثوا عنه في كل المنازل التي يتردد عليها وفتشوا منزلنا لكنهم لم يعثروا له على أثر، إلى أن وصلتني أخبار أنه مات متأثرا بجروحه في كوخ صغير قرب واد المالح في طريق المحمدية».
هؤلاء، إذن، كانوا منسيين تماما، إلى أن جاء عبد الرحمن اليوسفي الذي سبق له أن وعد مئات العائلات بإنصافها، وفعلا تم إدماج أبناء المقاومين الذين قتلوا بعد الاستقلال أو أصبح مصيرهم مجهولا بعد سنة 1956، أو الذين قضوا بعد محاكمات 1963 التي كان اليوسفي نفسه من بين ضحاياها. حيث أفادت الشهادات بأن بعض المقاومين ماتوا في الحدود المغربية- الجزائرية أو في ليبيا، أو في جبهات القتال مع جبهة التحرير الفلسطينية بعد أن وهبوا حياتهم للسلاح عندما صدرت في حقهم أحكام غيابية بالإعدام في المغرب، لأنهم كانوا من قدماء المقاومة وجيش التحرير، حيث وجدوا أنفسهم في وسط التوتر بين قيادييهم وبين الدولة ممثلة في تيار شخصيات مثل الجنرالين أوفقير والدليمي، وهما الرجلان العسكريان اللذان كان قدماء جيش التحرير يكنون لهما كراهية من نوع خاص. حتى أن بعض قدماء المقاومة المتبقين اليوم على قيد الحياة، لازالوايتشاءمون من اسمي الجنرالين، واصفين إياهما بالمسؤولين الأولين عن الحرب الأمنية ضد قدماء المقاومة في الفترة ما بين 1963 و1970. إذ إن هذه السنة كانت موعدا لآخر مواجهات النظام مع قدماء المقاومة بعد محاكمة مراكش الشهيرة سنة 1970، حيث اتهم أعضاء المقاومة السابقون بالتخطيط لمؤامرة مسلحة في المغرب، جاءت بعدها محاولة مارس 1973 التي كانت المسمار الأخير في نعش محاولات قدماء المقاومة. إذ بعدها بقي ملف المنفيين معلقا إلى منتصف التسعينيات، حيث كانت عودتهم إلى المغرب بدون متابعات شرطا لدخول عبد الرحمن اليوسفي في تجربة التناوب الأولى سنة 1998.