للبلد رب يحميه 2.1
مع
طبيعي أن تكون الذكرى العشرون لاعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية مناسبة لدى البعض لكي يرسموا صورة سوداوية عن الأوضاع بالبلد.
والملك ليس لديه أدنى مشكل مع هذه العادة، خصوصا كلما اقترب موعد عيد العرش السنوي، حين يخرج نوع من الصحافة الأجنبية أسلحته المعهودة لضرب المؤسسات، والدليل على أن الملك لا يعير اهتماما لهذه العادة هو أنه دعا الله أن يكثر حُساد المغرب في خطاب رسمي، مما يفيد بأن كل الألوان الداكنة والرمادية التي ترسم بها بعض الجهات ملامح المملكة لا تشكل بالنسبة للملكية أية عقدة.
والواقع أن العقدة الحقيقية هي تلك التي لدى البعض من المغرب، فقط لأنه الدولة الوحيدة المستقرة والآمنة في منطقة جغرافية ملتهبة تتساقط فيها الأنظمة مثل أوراق الخريف، وتغير فيها المؤسسات العسكرية أسماء الحاكمين مثلما يغير الجندي البندقية من كتف إلى كتف.
وقد اقتضت العادة أن تأتي الضربات من صحافة معينة في فرنسا وإسبانيا، لكن هذه المرة انضافت مؤسسة إعلامية إنجليزية عريقة إلى الكتيبة.
وقد كانت مثيرة للاستغراب قراءة تغريدات للسفير البريطاني في الرباط وهو يشكو، لمرتين متتاليتين، من خدمات الخطوط الجوية الملكية المغربية بسبب تأخر تسلمه لحقائبه، وهو الملزم بواجب التحفظ، خصوصا في انتقاد شركة عمومية مغربية.
ولعل السفير طوماس رايلي، الذي كان يشغل منصب السفير البريطاني بمصر والذي كان متحمسا للثورة المصرية، يعرف أكثر من غيره أن أفراد السلك الدبلوماسي عندما يطلع لأحدهم «الغاز» إلى الرأس فإنهم يلجؤون إلى الطرق الدبلوماسية للتعبير عن هذا الضرر وليس اللجوء إلى التغريد على تويتر.
والإنجليز عادة دمهم بارد ولا يتفاعلون بحرارة سريعة مع استطلاعات الرأي العربية، لذلك وجدت من المستغرب أن تعتمد منصة BBC الرقمية بالإنجليزية والعربية على إحصائيات «شبكة البارومتر العربي» للبحوث والتي يوجد مقرها في القدس بفلسطين.
حسب هذه «الشبكة» فالمغاربة يوجدون على رأس الشعوب المطالبة بالتغيير، وذلك بنسبة 49 بالمائة، متجاوزين اليمن التي تشتعل منذ سنوات والسودان التي سقط فيها النظام وبقية الدول العربية الأخرى التي ليس فيها ثمن ما في المغرب من تعددية حزبية ونقابية وسياسية.
وقد اعتمدت BBC على إحصائيات هذه الشبكة لكي تخلص إلى سؤال ماكر يقول «هل يتجه المغرب نحو «حراك شعبي» بعد السودان والجزائر؟»، ولم تكتف BBC بهذا السؤال الاستنكاري بل أضافت إليه سؤالا ثانيا أقرب إلى الاستنتاج منه إلى السؤال يقول «فهل يتجه المغرب نحو ثورة؟».
وشخصيا ما أثارني في مقال الـBBC هو تصديقهم لما جاء في الاستفتاء الذي تقول الشبكة إنها أنجزته، عندما يقول «في معظم المناطق، هناك وجود لرغبة في الإصلاح المتدرج والسلس، إلا المغرب، فنصف المغاربة المستطلعة آراؤهم قالوا إنهم يريدون تغييرا سياسيا فوريا».
وبناء على نتائج هذا «الاستفتاء»، وبناء على آراء مهاجر سري سابق فشل في البقاء في أوربا وتمت إعادته، واستنادا إلى تكهنات ناشط معارض، فإن المؤسسة البريطانية العريقة خلصت إلى أن ثمة مؤشرات على أن المغرب سيعرف مصير السودان والجزائر.
وشخصيا دائما ما كنت متأكدا من أن المغاربة عندما تسألهم عن الأوضاع في البلد، وخصوصا إذا كانت الجهة السائلة أجنبية، فإنهم يلبسون جبة الثوار ويشرعون في التحدث بحرقة عن الأوضاع السلبية للبلد معتقدين، بحسن نية، أن الأجنبي هو المنقذ والمخلص الذي على يديه سيأتي التغيير.
والسائل الأجنبي من جانبه يعتقد أن كل ما يسمعه من أجوبة صحيح وأن هناك إجماعا حول ضرورة الانخراط العملي في تغيير الأوضاع، لكن عندما يبحث قليلا يكتشف أن كلام جلسات المقاهي والفيسبوك وحماسة التدوينات والتصريحات لا أثر لها على أرض الواقع وأن أكثر من 70 في المائة ممن هم دون الـ30 سنة يحلمون بتحقيق مشروع واحد ووحيد هو الهجرة.
أضف إلى ذلك استحالة إنجاز استطلاع بكل ما تحمله الكلمة من معنى في المغرب، فالمستجوبون يستطيعون دون شعور بالذنب، وفِي جملة واحدة، أن يقولوا الشيء ونقيضه.
والواقع أن تقرير BBC يطرح الأسئلة دون أن يجيب عنها، ويبدو أن محرري التقرير كان هدفهم هو هذا بالضبط، طرح أسئلة حول وفاء الجيش للملكية، وحول إجماع الشعب حول شخص الملك، للوصول إلى الخلاصة التالية «خلاصة القول إن المغرب إن لم يكن يقف على حافة الهاوية فإنه يقف عند مفترق طرق. ويتوقف الكثير الآن على ما تريده الأغلبية الشابة من الملك وحكومته الفاقدة للشعبية».
من يقرأ تاريخ المغرب جيدا، منذ ما قبل الحماية وإلى اليوم، يكون قد قرأ عبارة «المغرب في مفترق طرق» آلاف المرات في كتب وتقارير المخبرين والرحالة والمغامرين والدبلوماسيين، مثلها مثل عبارة «المغرب على حافة الإفلاس»، أو «المغرب على حافة الانفجار».
أما الملكية كنظام فقد أصدر بشأنها المنجمون وقراء الطالع السياسي عشرات التوقعات على شكل كتب كلها توقعت نهايتها وسقوطها منذ عشرات السنين، وها نحن نرى كيف أنه رغم كل هذه التكهنات فلازالت الملكية قائمة بالطقوس نفسها التي ظلت تُمارس منذ ما يزيد عن 12 قرنا، فالملكية المغربية هي ثاني أقدم ملكية في العالم بعد الملكية اليابانية، وهي ثاني أقدم نظام ملكي في التاريخ دون انقطاع.
ومن يعود لكتب التاريخ سيجد أن الحرس الملكي المغربي هو أقدم حرس في العالم حيث تأسس سنة 1088 على عهد السلطان الموحدي يوسف بن تاشفين وما زال هذا الحرس موجودا إلى اليوم.
إذن نحن بصدد نظام عريق وممتد في الزمن ومتجذر في المجتمع، ولسنا بصدد نظام عمره خمسون أو ستون سنة مثلما هو الحال مع أنظمة الجوار التي تتهاوى مع أول هبة ريح.
وما يميز المغرب عن بقية جيرانه هو أنه ظل متمنعا عن النفوذ العثماني مثلما هو شأن بقية البلدان العربية التي لم يحكم أغلبها نفسه إلا قبل الستين سنة الأخيرة.
والمغرب طوال 1200 سنة من وجوده لم يعرف سوى مناسبتين للتدخل الخارجي، إحداها فترة فاطمية قصيرة أثناء مقام الفاطميين بتونس، وفترة الحماية الإسبانية والفرنسية على أراضيه واجهتها مقاومة شرسة وظل خلالها سلاطين المغرب رؤساء للدولة.
وما يميز المغرب، ويمده بالحماية الربانية، هو كونه أرض الأولياء الصالحين، وموطن المتصوفين، ومركز الزهاد المتعبدين في الزوايا المنتشرة في كل ربوع المملكة.
وقد يقول قائل إنني أبالغ في دفاعي عن الملكية بالمغرب، وجوابي بسيط وهو أن الملكية ليست بحاجة إليّ لكي أدافع عنها، وهنا تحضرني واقعة تاريخية حكاها لي أحد أقطاب حزب الاستقلال في بيته مؤداها أن الحسن الثاني رحمه الله استقبل زعماء الكتلة في قصره للتشاور معهم حول تشكيل الحكومة، فأخذ امحمد بوستة رحمه الله الكلمة وقال للحسن الثاني إن الأحزاب الوطنية تحمي الملكية، فنظر إليه الحسن الثاني مليا وأجابه بهدوء قائلا إن الملكية يحميها الجيش والأمن والشعب بطبيعة الحال، ففهم أقطاب الأحزاب الوطنية أن محاولتهم فرض الوصاية على الملكية بدعوى حمايتها لن تنطلي على الملك.
واليوم يحاول بنكيران وحزب العدالة والتنمية استعادة نفس الدور بدعوى حماية الملكية، والحال أن الملكية التي عمرها 1200 سنة لن تنتظر من حزب عمره أقل من ثلاثين سنة أن يحميها.