مسعودة هي السبب
مع
يتعب الباحثون الاجتماعيون أنفسهم في البحث عن جذور العنف الذي يعشش في المجتمع المغربي، ويتمدد عميقا داخل الأسر، في مؤسسات التربية والتعليم، في الشارع، وحتى داخل المؤسسات السجنية.
والواقع أن السبب يوجد في الضرب والعقوبات الجسدية التي تعرضنا لها خلال الطفولة جيلا بعد جيل، سواء في البيوت أو في أقسام الدراسة التي كان بعضها غرف تعذيب حقيقية.
في تلك السنوات البعيدة كانت للمعلمين وسيلة إيضاح أساسية يستعينون بها على شرح دروسهم، وهي العصا. كانوا يضعونها فوق المكتب، وكان أحد معلمينا من شدة حبه لها يسميها مسعودة، وكان يقول ساخرا لكل من يتعثر في شكل قطعة في السبورة أو ينسيه الشيطان آية قرآنية، وهو يلوح بالعصا: “مسعودة تحيد البرودة”.
وفعلا فقد كانت مسعودة تزيل البرودة عن أرجلنا الصغيرة المتجمدة من البرد، فتصبح حمراء وساخنة. وكان بيننا من يصير عاجزا عن إدخال قدميه في حذائه بسبب انتفاخهما من شدة الضرب فيحمل حذاءه في يده ويغادر إلى بيته متكئا على أكتاف زملائه كمعطوب عائد من الحرب.
وكم تغيرت الأزمنة اليوم كثيرا، فيكفي اليوم أن يعود الطفل منكسر الخاطر من المدرسة حتى تثور ثائرة والديه ويقصدا المدرسة لكي يصبا غضبهما على المعلم والمدير. أما في زمن مضى فقد كان الطفل يعود إلى البيت من المدرسة وهو لا يستطيع حتى المشي على قدميه من شدة الفلقة، وعندما يصل يأخذه والده إلى المدرسة ويقول للمعلم :
“نتا قتل وأنا ندفن”.
وفي ذلك الزمن كان كل شيء يتحرك بالضرب، فقد كانت السنوات رصاصية في كل المجالات، حتى التلفزيون عندما كان يصاب بعطب مفاجئ وتختفي الصورة والصوت تاركة المجال لذلك «التشاش» الذي كنا نكرهه، خصوصا عندما يصادف بث الرسوم المتحركة، تسمع من يقول «نوض ضربو»، وبمجرد ما يأخذ التلفزيون ضربة على رأسه حتى تعود الصورة والصوت إلى حالهما السابق.
وهناك من أبدع في هذا الاجتهاد التقني بحيث لا يكلف نفسه القيام لضرب التلفزيون بل يرميه بفردة حذاء من «السداري» الذي ينشر فوقه جسده وكفى الله المؤمنين شر القتال.
غريب أمرنا نحن المغاربة، نضرب الراديو عندما يتعطل، ونضرب ساعة المعصم عندما تتوقف، وهكذا فهمنا منذ تلك الطفولة المبكرة أن الضرب هو الحل، فكبرنا “مضاربين” مع كل شيء ومضروبين من طرف كل شيء.
وكم آلمونا وهم يضربوننا أمام باب السينما ونحن ننتظر «الأونطراكت». ضربونا ونحن ننتظر «العباسية» خلال الربع ساعة الأخير من الشوط الثاني لندخل إلى ملعب “الحسنية”. ضربونا ونحن نتزاحم أمام باب المسبح البلدي بانتظار أن يمنحنا الحارس عشر دقائق الأخيرة لنغطس في مياهه التي نصفها بول ونصفها الآخر «جافيل» و«كلور»، أجسادنا الملتهبة بسبب الحر.
كبرنا هكذا، بقسوة كبيرة وبحنان أقل. لكن كان علينا أن نكبر رغم ذلك، مثل نباتات وحشية تكبر بين الصخر في غابة بأشجار ضخمة تحجب عنها ضوء الشمس. تشبثنا بالأمل، ورفعنا رؤوسنا نحو الأعلى لنحصل على حصتنا من الضوء. وعندما أخرجنا رؤوسنا إلى العالم وجدنا الأسياد مرة أخرى واقفين بسياطهم بانتظارنا. بابتسامتهم الشامتة ونظراتهم الساخرة التي تستكثر علينا أننا كبرنا نحن أيضا مثل أبنائهم، رغم السعال الديكي و«بوحمرون» و«العواية» والسل و«بوصفير».
كبرنا بفضل حقن منظمة الصحة العالمية و«البي سي جي» و«البوماضا» الشبيهة ببزاق الدجاجة والتي كانوا يلطخون بها عيوننا الصغيرة والمعمشة.
وعادوا إلى ضربنا من جديد، كما ظلوا يفعلون دائما معنا. طردونا عندما كبرنا وحصلنا على الشهادات ووقفنا أمام أبواب مكاتبهم في العمالات وجئنا نطلب جوازات سفر لنتابع دراستنا في الخارج، أريناهم شهادات تسجيلنا في جامعات ونقطنا الجيدة التي حصلنا عليها بسهرنا الطويل، أريناها للبلداء الذين لا شهادات لهم، فأخرجونا من مكاتبهم وطردونا بعد أن تذكروا نقط أبنائهم المدللين ورتبهم المخجلة.
ولكي يريحوا ضمائرهم الميتة نصحونا بالتعرف إلى بلادنا جيدا قبل الذهاب إلى بلدان الناس. الأنذال، ضيعوا مستقبل الآلاف منا بجرة قلم.
ثم ضربونا عندما جئنا نطالبهم بشغل. أرسلوا نصفنا إلى المستعجلات والنصف الآخر إلى بيوتهم محطمي الأضلع والأحلام. رفسونا في الشوارع بأحذيتهم الثقيلة، وداسوا شهاداتنا العليا التي لم تعد تصلح سوى لرفعها في المسيرات الاحتجاجية.
بقينا أخيرا هنا كما أرادوا، وفجأة فهمنا لماذا أرادونا أن نبقى معهم، لأنهم كانوا محتاجين لجيل كامل يجربون فيه حقدهم. حقنونا كل مساء بالمهدئات في نشرات الأخبار لكي لا ننفجر في وجوههم، وشرعوا يكذبون علينا في الحكومة والبرلمان. تناوبوا علينا مثلما تتناوب عصابة من المنحرفين في مكان مظلم على امرأة وحيدة تعود إلى البيت بعد يوم عمل شاق. وعندما تعبوا منا رموا بنا إلى الشوارع وتركونا نقطع الطريق على بعضنا البعض بالسيوف الطويلة وشفرات الحلاقة وقنينات الماء الحارق.
تمنينا أن نصدقهم ذات يوم وهم يتحدثون عن مصلحتنا ومستقبلنا. تمنينا أن نصدقهم ذات يوم وهم يتحدثون باسمنا في كل مكان. تمنينا أن نصدقهم ذات يوم وهم يعترفون لنا بالحب كلما اقتربت الانتخابات. الكذابون المحتالون المنافقون. شخنا قبل الأوان بسببهم ونخرتنا الأمراض المزمنة. كرهونا في البلاد حتى أصبحنا نرى أن الحل الوحيد لكي لا نصاب بالجنون هو أن نجمع حقائبنا ونغادر، مثلما تغادر امرأة تعيسة بيت زوجها السكير الذي يحطم أضلاعها كل ليلة. نغادر كلنا ونترك هؤلاء المحتالين وحدهم يكذبون ويصدقون أكاذيبهم.
والنتيجة هي ما نراه الآن في الشوارع والمدارس والجامعات والساحات العامة والأسواق، جيل معطوب يسير نحو المستقبل بخطوات سكير ضائع يريدون إقناعه بأهمية التشبث بالأمل والتفاؤل، أن يكون سعيدا مثلما هم سعداء ونظرته للمستقبل مشرقة مثلما هي نظرتهم.
وهكذا فبالإضافة إلى سرقة أحلامه ومستقبله يدعونه لكي يحتفل بهذه السرقة ويعتبرها وساما يعلقه على صدره فوق الحلبة التي سقط جسده فيها بالضربة القاضية.