القصة الحقيقية لبيع «الزليج» المغربي إلى الخارج
مع Télé Maroc
قد تكون هذه الشركة بدأت نشاطها في ثلاثينيات القرن الماضي، لكن أول توثيق لها في السجل التجاري الذي أعدته فرنسا عن المغرب يعود إلى نهاية أربعينيات القرن الماضي.
والمثير أن صاحب هذه الشركة هو الباشا التهامي الكلاوي.
أما تخصص الشركة فهو ترميم القصور، وتشييد بنايات على الطريقة المغربية.
إذ إن الباشا لمس اهتماما كبيرا لدى أصدقائه الأجانب بالطراز المغربي في البناء، ومنهم من عبر له عن غيرته بشكل مباشر، أثناء جولة من الجولات التي ينظمها للأجانب في قصره الفخم بمراكش. وهؤلاء الأجانب، الأثرياء منهم طبعا، عبروا له مرارا عن رغبتهم في تشييد قصور وفيلات على طراز قصر الكلاوي.
الشركة اسمها «زليجة»، وقصتها تستحق فعلا أن تُروى..
قصة بيع الزليج المغربي إلى الخارج..
سبق أن تناولنا في ملف سابق موضوع «الماركة» المغربية. هذا «البراند» الذي باع كل ما هو مغربي في الخارج، وسُجل إقبال كبير عليه، خصوصا لدى الأجانب الذين كانوا يعتبرون أن «الشرق» كله بسحره الذي تنقله لهم الكتب والصحف والسينما في بداياتها، يتلخص بشكل جلي في «المغرب»، الذي نُسجت عنه حكايات كثيرة.
وهكذا أصبح المعمار المغربي والذوق المغربي في اللباس والبناء واختيار الألوان، أحد «الستايلات» الأكثر طلبا في العالم.
ومع مجيء مجلات الموضة التي اختارت المغرب منذ وقت مبكر، مسرحا لالتقاط صور العارضين ومشاهير الأزياء، ازداد الإقبال على كل ما هو مغربي.
لكن بالعودة إلى موضوع أوائل المغاربة الذين اشتغلوا في بيع «الماركة» المغربية إلى الخارج، نُذكر أولا بالذين جمعت لوائح الأرشيف الفرنسي في هذا المجال أسماءهم. أحد هؤلاء هو صهر وزير الدفاع المغربي الأسبق المهدي المنبهي الذي غادر الوزارة سنة 1907، وهرب من فاس إلى طنجة خوفا على حياته، لكنه مع تغير الأوضاع السياسية في البلاد ومجيء المولى يوسف إلى الحكم سنة 1912، ثم من بعده الملك الراحل محمد الخامس سنة 1927، عاد إلى مراسلة السلطانين إلى حدود أربعينيات القرن الماضي، محاولا استعادة الدور الذي كان يلعبه في دار المخزن.
يشير أرشيف فرنسا الرسمي، المتعلق بميناء الدار البيضاء منذ إعادة بنائه بعد القصف الحربي لسنة 1907، إلى بروز عائلات مغربية نافست المستثمرين الفرنسيين الكبار، الذين كانوا يستفيدون من معاملات تفضيلية وتشجيع من الحكومة الفرنسية على الاستثمار في المغرب.
نبدأ مثلا بعائلة مسجلة باسم آل التركي، حيث اشتغل جيلان من العائلة في قطاع تصدير الزليج المغربي. وكانوا يستقرون في الرباط قادمين إليها من فاس، حيث انتقلوا إلى الاستقرار بها مع انتقال السلطة من فاس إلى الرباط في عهد المولى يوسف، ابتداء من سنة 1912، وربطوا علاقة وطيدة مع القصر الملكي. هذه العائلة حققت أرباحا بمئات آلاف الفرنكات من خلال تصدير الزليج المغربي من مدينة فاس، واقتنى أفرادها أسطولا كاملا من الشاحنات، واضطروا إلى انتظار موافقة الإقامة العامة الفرنسية وتدخل السلطان مولاي يوسف لأجلهم سنة 1915، لكي يقنع الإقامة العامة الفرنسية بالترخيص لهم باستيراد الشاحنات لنقل الزليج «الحر» بكميات كبيرة إلى ميناء الدار البيضاء، ومن ثمة بيعه في كل من إيطاليا وإيرلندا. أما في فرنسا فقد صادفتهم صعوبات كثيرة في السنوات الخمس الأولى، ثم استطاعوا اقتحام السوق الفرنسي متأخرين، لكن لم تكن حجم معاملاتهم بالقوة نفسها التي وصلوا إليها في بريطانيا وإيرلندا. وكان عمال الشركة البريطانية يقومون بطبع شعار «Made in Morocco» على صناديق شحنات الزليج المغربي لآل التركي، ولاحظ موظفو الميناء في الدار البيضاء، وكانوا جميعا فرنسيين، ذلك الشعار على الزليج، وحاولوا منع عمال الشركة من ختمه، لكن بحكم استقلالية الشركة البريطانية عن إدارة الميناء وعن الإقامة العامة الفرنسية، فقد واصلوا طبع «صنع في المغرب» باللغة الإنجليزية على كل الصناديق.
يرجح أن تكون عائلات أخرى، خصوصا يهود الصويرة، قد أوصلوا المنتوج المغربي إلى أوروبا والعالم منذ عهد المولى الحسن الأول، أي قبل سنة 1894 بكثير، لكن الهيكلة الإدارية بالصورة المتعارف عليها، أي العصرية، للتصدير المغربي لم تقم إلا بعد إحياء ميناء الدار البيضاء، عقب انتقال العاصمة إلى الرباط، في إطار خطة المقيم العام ليوطي مباشرة بعد توقيع معاهدة الحماية مع المغرب.
بالعودة إلى أسرة آل التركي، فإن وساطة مهمة بينها وبين اعبابو، وهو رجل دولة نافذ جدا، كان بمثابة مستشار خاص، بل وصديق فوق العادة للسلطان مولاي يوسف، حيث كان أقوى من وزراء الدولة وأعضاء المجلس الاستشاري، بل ومنحه المولى يوسف سلطة تعيين وعزل أعضاء في الوزارة والدواوين. هذا الرجل الذي جاء مع المولى يوسف إلى الرباط، واستقر لفترة في حي الأحباس بالدار البيضاء، حيث منحه السلطان سكنا بقرب القصر الملكي، كان صديقا لأب عائلة «آل التركي»، وساعد هذه العائلة على الوصول السريع والقفز على تعليمات الإدارة الفرنسية، وهو الذي توسط لها لدى المولى يوسف. اشترط اعبابو الحصول على أموال من وراء تلك الوساطة، وكان له ما أراد.
هؤلاء إذن، رغم أنهم انتهوا نهايات عجيبة تستحق أن تُستخلص منها عِبر التاريخ، إلا أنهم ليسوا إلا الجيل الأول الذين اشتغلوا في «البيزنس» العصري ولم يكن لديهم ما يبيعونه إلى الخارج، سوى الرصيد الثقافي لبلدهم الأم.
من يحمي «الماركة» المغربية؟
على خلفية موضوع توثيق الهوية الثقافية المغربية، خصوصا في مجال الزخرفة على الزليج والنقوش والألوان، يبرز من جديد موضوع الماركة المغربية الضاربة في القدم، سيما وأن المغرب أول دولة في القارة الإفريقية تقام فيها شركة بالمعنى الكامل لـ«الشركة».
كيف إذن تطورت هذه الشركة لتتفرع منها شركات أخرى، تخصصت في تصدير ما هو مغربي إلى الخارج؟
هذا التطور جاء مع التوغل الأجنبي في المغرب واندماج رجال الأعمال المغاربة الجدد، خصوصا بعد سنة 1912، لكي يصبح لديهم حس استثماري.
أول مجال نشط فيه هؤلاء المغاربة، هو البناء وتصدير المواد المغربية. لكن ما الذي جعل الأجانب يُقبلون على الطراز المغربي في ذلك الوقت المبكر؟ الجواب أن أثرياء في أوروبا كانوا يرغبون في تشييد قصورهم وفيلاتهم على الطراز الأندلسي، وكانوا يعرفون أن أحفاد الحرفيين والصناع المسلمين الذين نزحوا من الأندلس، استقروا جميعا في المغرب، وكانوا أصلا يتقنون فنون المعمار المغربي وهم الذين أوصلوه إلى إسبانيا.
وسرعان ما أصبح الأمر موضة في أوروبا، خصوصا خلال أربعينيات القرن الماضي. كما أن صورة السينما الأجنبية عن المغرب رسخت لصورة المعمار المغربي، لكي يزداد عليه الطلب.
أحد أوائل الذين انتبهوا إلى الإقبال الأجنبي على المغرب، كان هو التهامي الكلاوي، إذ لاحظ أن زواره الأجانب، أمريكيين وفرنسيين خصوصا، كانوا يعبرون عن دهشتهم وإعجابهم بالمعمار والزخارف والنقوش التي تزين جنبات قصر الكلاوي، الذي كان مضرب المثل في الفخامة. وعبروا عن رغبتهم في تشييد قصور وفيلات بالطراز المغربي نفسه في بلدان إقامتهم، وهو ما جعل الكلاوي يرغب في الاستثمار في هذا السوق الجديد، وأنشأ شركة أطلق عليها اسم «زليجة»، لكن لا توجد معلومات كافية عن حجم معاملاتها في ذلك الوقت ولا كشفا بالأسواق التي اشتغلت فيها، ولا حتى كيف انتهت على وجه التحديد، رغم انتشار روايات كثيرة حول الموضوع.
انفتاح الماركة المغربية على الخارج، جعل دولا كثيرة تنسخ المعمار المغربي، سيما في الشرق، وأصبح اللباس المغربي التقليدي بدوره موضوع تقليد أجنبي. ومرة أخرى كانت السينما ومجلات الموضة، خصوصا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، قد روجت بقوة للباس المغربي، سيما مع ظهور السيدة الأمريكية الأولى، زوجة الرئيس الأمريكي الأسبق كينيدي، بالقفطان المغربي، وهو ما شكل وقتها دعاية كبيرة للخصوصية المغربية في اللباس. وما زاد من توسيع دائرة الدعاية للمغرب، اختيار المشاهير في السينما المغرب وجهة لقضاء عطلهم، منذ الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
هذا الانفتاح نسخ البصمة المغربية لكي تطال عددا من التصاميم التي تبنتها كبريات دور الموضة العالمية، خصوصا في لندن وباريس. لنصبح اليوم أمام محاولات لـ«اختطاف» اللمسة المغربية ونسبها إلى دول أخرى. ويبدو أن الأمر أكبر من قرصنة، بل سرقة ممنهجة لتراث عَمرَ قرونا طويلة.
ميناء البيضاء.. المنعطف الذي خرجت منه «شركات المغرب»
رغم أن ميناء مدينة الدار البيضاء يبقى أحد أقدم الموانئ في القارة الإفريقية، إلا أن أرشيفه الخاص لا يزال موضوع كثير من التساؤلات.
انطلقت أشغال تشييده بطريقة عصرية على يد الفرنسيين، قبل حتى أن يتم توقيع معاهدة الحماية سنة 1912. بل كان هذا الميناء أول ما بدأ العمل به، بعد قصف 1907 الشهير الذي حول الدار البيضاء إلى ركام. وعندما انبعثت المدينة من رمادها وبدأت تظهر فيها بنايات فرنسية، كان الميناء يتجه نحو اكتمال الأشغال، ليصبح أول معلمة عصرية في المغرب بمعايير دولية.
كان أثرياء المغرب، خصوصا بعد مجيء المقيم العام ليوطي، ينظرون إلى ميناء الدار البيضاء بكثير من الاهتمام. أغلب هؤلاء كانوا في حُكم «المحميين»، ولديهم امتيازات في بلدهم تجعلهم غير تابعين لسلطات «المخزن». لذلك لم يستغرق اندماجهم في الدار البيضاء فترة طويلة، وبدأت عائلات كانت إلى وقت قريب على رأس أعيان مدن مثل فاس ومراكش والصويرة وآسفي، تحج إلى الدار البيضاء واقتنت أراض شيدت فوقها إقامات وبدأت تتعامل مع شركات فرنسية كبرى، عبر ميناء الدار البيضاء دائما، واشتغل أفرادها في الاستيراد والتصدير.
إحدى أوائل هذه الأسر، أسرة التازي التي استطاعت إنشاء إمبراطورية مالية في حدود سنة 1919، كانت تنافس كبريات الشركات الفرنسية. وحسب الأرشيف الفرنسي، فإن التازي الابن استطاع فعلا الاندماج مع الفرنسيين، وأصبح يقضي عطله في فرنسا، ويرتدي البذلة الفرنسية، وهو ما كان وقتها «ثوريا».
من بين الأنشطة التي مارسها التازي الابن، الاشتغال في مجال البناء، إذ إن بعض الأثرياء الفرنسيين الذين انتقلوا إلى المغرب كانوا يرغبون في تشييد عمارات على الطراز الفرنسي، ومنهم من نقلوا البلاط وأدوات الزينة من قصورهم في فرنسا إلى الدار البيضاء. وبما أن التازي كان يستثمر في مجال النقل البحري، فقد استطاع فعلا مراكمة ثروة كبيرة، مكنته من الفوز بسهولة بعضوية مجلس اقتصادي استشاري أسسته الحماية الفرنسية في المغرب، وكان التازي أحد أوائل أعضائه المغاربة، بمعية شخصيات مغربية أخرى كانوا نواة أوائل «رجال الأعمال» المغاربة على الطريقة العصرية، وأغلبهم كانوا ورثة عائلات التجار المغاربة الكبار. بينما بعضهم، مثل محمد الأغزاوي، انطلقوا من الصفر وأسسوا إمبراطوريات مالية ضخمة، بفضل الأنشطة الاقتصادية الكبيرة التي برزت مع انطلاق ميناء الدار البيضاء العصري.
واستثمر الأغزاوي في مجال النقل البحري، وأسس شركات في فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية. حتى أنه كان يصدر بعض مواد البناء المغربية إلى الخارج، لاستعمالها في بناء القصور، سيما في إيطاليا التي كان لديه فيها أصدقاء كثر من رجال الأعمال.
وهكذا، يمكن القول فعلا إن الأغزاوي يبقى فعلا أحد أوائل الذين صدروا «الماركة» المغربية إلى الخارج، فقد كان الطلب كبيرا على الطراز المغربي في بناء القصور ونقوش الزليج، بالإضافة إلى النافورات والأقواس.
في المقابل، كان الأغزاوي من أوائل الأثرياء المغاربة الذين شيدوا الفيلات الفخمة. ففي الوقت الذي كان فيه الأجانب يرغبون في الحصول على الزخرفة المغربية، لتأثيث إقاماتهم الفخمة في ضواحي المدن الإيطالية المطلة على المتوسط، كان الأغزاوي في الضفة الأخرى أحد أوائل من شيدوا الفيلات العصرية في المغرب، مستعملا شركاته المتخصصة في النقل البحري لنقل شحنات مهمة من الديكور والأثاث العصري، وكان الأثرياء المغاربة أكبر زبائنه.
قصة شركة «زليجة» المنسية..
قد تكون هذه الشركة بدأت نشاطها في ثلاثينيات القرن الماضي، لكن أول توثيق لها في السجل التجاري الذي أعدته فرنسا عن المغرب يعود إلى نهاية أربعينيات القرن المنصرم.
والمثير أن صاحب هذه الشركة هو الباشا التهامي الكلاوي.
أما تخصص الشركة فهو ترميم القصور، وتشييد بنايات على الطريقة المغربية.
إذ إن الباشا لمس اهتماما كبيرا لدى أصدقائه الأجانب بالطراز المغربي في البناء، ومنهم من عبر له عن غيرته بشكل مباشر، أثناء جولة من الجولات التي ينظمها للأجانب في قصره الفخم بمراكش. وهؤلاء الأجانب، الأثرياء منهم طبعا، عبروا له مرارا عن رغبتهم في تشييد قصور وفيلات على طراز قصر الكلاوي.
ربما يكون هناك من وشوش له في أذنه، لكي يؤسس شركة تشتغل في هذا المجال بالضبط. لكن تجب الإشارة أيضا إلى أن الكلاوي كان محاطا بمستشارين محليين، من أعيان مراكش وتجارها وحتى فقهائها، كان لديهم من الدهاء والذكاء ما يكفي لكي يوحوا إليه بهذه الفكرة الثورية، تأسيس شركة مغربية لبيع الطراز المغربي في البناء إلى الأجانب.
اختار الكلاوي أن يُسمي شركته «زليجة»، وهو اسم مغربي خالص، يعكس نشاط الشركة بسهولة دون الحاجة إلى مزيد من التنقيب في أرشيف السجل التجاري الفرنسي.
كان الكلاوي ينوي السيطرة على سوق مواد البناء في المغرب، مستغلا صداقاته الواسعة مع شخصيات سياسية ومشاهير من عالم السينما.
وبعض الروايات التي توضح حجم شركة «زليجة»، تؤكد أن التهامي الكلاوي كان قد عرض على الملك الراحل محمد الخامس في بداية الخمسينيات، أن يمنحه صفقة ترميم بعض الإقامات التابعة للقصر الملكي في مكناس، والذي يعود إلى فترة حكم السلطان مولاي إسماعيل.
إذ وصل إلى علم الكلاوي أن مهندسين فرنسيين حلوا في الرباط سنة 1951، وأرادوا أن يقترحوا على السلطان صفقة لترميم القصر والبنايات القديمة التابعة له بطريقة عصرية، وهو ما جعل الباشا يفكر في دخول المجال أيضا، خصوصا عندما سمع القيمة المالية التي وضعها هؤلاء الفرنسيون لإنجاز المهمة.
لكن ما وقع أن الشركات الفرنسية كان لديها دعم من الإقامة العامة، لكي تشتغل في مجال بناء الفيلات والأحياء الجديدة في بعض المدن المغربية، وهو ما جعل حظوظ الباشا قليلة.
لكنه فكر، حسب ما وثقه أرشيف السجلات التجارية، في بيع بعض الأسهم إلى شركاء أجانب، فرنسيين خصوصا، لكي يتم توسيع نطاق أنشطة «زليجة».
لا أحد يعلم كيف انتهت هذه الشركة المغربية، التي يمكن اعتبارها اليوم أول شركة في المغرب باعت «الماركة» أو «البراند» المغربي إلى الأجانب بطريقة ذكية.
هناك تبريرات كثيرة للغموض الذي لف قضية هذه الشركة، أحدها أن الباشا صفاها كما صفى شركات أخرى، أو أن اسمها تغير عند نقلها إلى ورثته. بينما تبرير آخر يذهب إلى أن الباشا عمد إلى طمس أسماء بعض شركاته، حتى لا يطالها التخريب على يد الوطنيين، الذين كانوا يعبرون علانية عن معاداتهم للباشا بسبب صداقته مع فرنسا، واعتقاله لأعضاء الحركة الوطنية.
شركات أجنبية باعت للمغاربة ثقافتهم المحلية
منذ أن انتقل رجال الأعمال الفرنسيون إلى المغرب، أدركوا أن جزءا مهما من أرباحهم ونجاحهم المالي سوف يكون مرتبطا بالمغاربة، وليس بأشقائهم الفرنسيين.
وهكذا، أصبحت الصناعة التقليدية المغربية المتضرر الأول من الحماية الفرنسية. إذ إن شركات فرنسية حاولت تقليد الصناعة المغربية، خصوصا مجال صناعة الأغراض الجلدية وسلال القصب. إذ إن الأجانب الذين انتقلوا إلى المغرب، أو جاؤوا إليه للسياحة، أقبلوا عليها بكثرة، وأصبحت مجالات اتجهت نحوها شركات فرنسية أيضا، بل منها من استعانت بحرفيين مغاربة، لكي يعملوا لصالحها. وطبعا لم يكن أحد يتساءل عن مصير كل تلك المنتجات المغربية المحلية، ولا الوجهة التي تُشحن إليها.
كانت تلك أول ممارسات الحماية الفرنسية لـ«قرصنة» ملكية فكرية مغربية بامتياز.
وبعض تلك الشركات الأجنبية في المغرب، والتي باعت إلى المغاربة بعضا من منتجاتهم المحلية، سيما منها المصنوعة من المواد الطبيعية كالخشب والقصب والقش والجلد وغيرها، بقيت تشتغل في المغرب إلى حدود منتصف الخمسينيات، لكي يرحل أصاحبها ويتركوا مقراتها وراءهم، بنايات مجهولة.
سبق أن أثرنا موضوع الشركات المتخلى عنها، والتي ما زالت موضوعا شائكا جدا في المغرب. إذ إنه إلى حدود اليوم، ما زالت مقرات كثيرة لشركات قديمة مهجورة، دون أن تتم تصفية العقارات التي شيدت فوقها، خصوصا في الدار البيضاء والقنيطرة، اللتين كانتا معا تتوفران على ميناءين بمعايير عصرية ذلك الوقت، وهو ما جعلهما قبلة للمستثمرين وأصحاب الشركات.
هذه الشركات التي أسسها فرنسيون في المغرب، وغادروا في ظروف خاصة اختلفت من حالة إلى أخرى، ما نتج عنه إخلاء عاجل لتلك المقرات التي تحولت في ما بعد إما إلى مقرات لاجتماعات النقابة، أو تحايل بعض المغاربة للحصول عليها في ظروف غامضة وأصبحت في ملكيتهم بطرق ملتوية، بينما بقيت شركات أخرى مهجورة، بعد أن استعصى على المتربصين بها عقب الاستقلال الحصول على أصولها التجارية وبالتالي امتلاكها، وهؤلاء بالضبط وقعوا في إحراج كبير، بعد عودة أبناء الملاكين الفرنسيين السابقين إلى المغرب للبحث عن ممتلكات عائلاتهم.
لقد كانت تلك الشركات عبارة عن قنبلة عقارية موقوتة طيلة سنوات السبعينيات، ووضع ملفها مرات كثيرة فوق مكتب الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان يعلم أن حقوق عدد من المواطنين الفرنسيين في المغرب قد تضررت على إثر تلك الفوضى، وتدخل فرنسيون نافذون لديه للوساطة لأبناء وأحفاد أولئك الملاكين، فيما كان مصير آخرين مجهولا ولم يظهر لهم أي أثر.
ولعل جدران مدن كثيرة، أبرزها الدار البيضاء، ما زالت تحمل «أوشاما» كثيرة على الجدران القديمة، بأسماء شركات انقرضت تماما، لكن أطلالها لا تزال واقفة، يتأملها المتربصون بالعقار لإقامة عمارات سكنية على أنقاضها في أية لحظة، متغافلين عن أنها تعتبر اليوم الدليل الوحيد على وجود أقدم الشركات في المغرب، والتي لا يتوفر أحد إلى اليوم على أرقام معاملاتها الحقيقية، ولا أعداد المغاربة الذين وظفتهم في تلك الظروف.
هذه الشركات التي باعت إلى المغاربة ثقافتهم المحلية، بقيت عالقة مثل «وشم» في كثير من الأحياء، وهو ما يكشف البُعد الاستغلالي الذي اعتمده أصحابها، إلى درجة أنهم أخذوا أرباحهم وتركوا وراءهم العقارات التي شيدوا فوقها تلك المعامل، رغم أن العقار الواحد منها يساوي اليوم ملايير السنتيمات.
«بلاد البربر».. أول شركة صدرت أغراضا مغربية إلى أوروبا
هذه الشركة أسست سنة 1585، وقد اكتشفها المؤرخ البريطاني السيد د. روجر، في كتابه «العلاقات المغربية البريطانية»، وعرض أرشيفا مهما اطلع عليه بنفسه في بريطانيا، ويوثق لمراسلات بريطانية مغربية، بقصد تأسيس هذه الشركة التي كان الغرض الأساس منها، احتكار الأنشطة التجارية مع المغرب لمدة 12 سنة كاملة.
هذا الاحتكار كان الغرض منه أن تقطع بريطانيا الطريق على منافسيها الأوروبيين، وتنفرد بالتعامل التجاري مع المغرب.
ومن بين الأنشطة التي مارستها هذه الشركة مزدوجة الجنسية، أنها فازت بأحقية نقل كل ما ينتجه الحرفيون المغاربة، خصوصا في مدينة الصويرة التي كانت مقرا لفرع الشركة. وهكذا كانت الصناعات المغربية التقليدية تجد سوقا كبيرا لها، وهو ما جعل الحرفيين المغاربة يصبحون عصب اقتصاد المغرب.
أما الكواليس المرتبطة بتأسيس هذه الشركة فهي توافقات مغربية بريطانية، حيث إن وفدا بريطانيا غير رسمي نجح في حيازة صفقات تجارية مهمة مع المغرب، وهو ما جعل الملكة إليزابيث تبعث إلى المغرب سنة 1585 رسالة مفادها أنها تقترح على أحمد المنصور الذهبي إقامة شركة باسم «شركة بلاد البربر»، وهي شركة بريطانية رسمية أرادت لها الملكة إليزابيث أن تتعاقد مع المغرب لمدة 12 سنة، تكون خلالها الشركة هي المحتكر الوحيد لجميع الأنشطة التجارية مع المغرب. وكان الممثل الرسمي للشركة في المغرب هو البريطاني «هنري روبرتس»، وقد جاء إلى المغرب في السنة نفسها، قادما من لندن بتوصية خاصة من الملكة إليزابيث لينقل أوراق الشركة وقرار اعتماده إلى قصر مراكش، حيث كان يقيم أحمد المنصور.
كان الغرض بالأساس من إنشاء الشركة هو قطع الطريق أمام بعض التجار الأجانب، الذين كانوا يستغلون انفتاح بلدهم بريطانيا على المغرب، ويتاجرون في السلاح وبعض السلع التي كان وجودها بالمغرب مزعجا، مثل الأقمشة الرخيصة وبعض السلع التي يأتي بها التجار الإنجليز من آسيا، ولم تكن تلقى أي رواج في المغرب.
وهكذا تبقى هذه الشركة أول إطار تجاري وصناعي جعل الصناعات المغربية تنتشر في الخارج، بعد أن كان الأجانب في السابق يكتفون باستيراد المواد الأولية من المغرب، في إطار صفقات تجارية بين تجار أجانب ومغاربة، مثل تصدير الجلود والمعادن وبعض أنواع النباتات. والمثير أن «الحِبال» المغربية المصنوعة محليا من جذور بعض النباتات، كانت تلقى إقبالا كبيرا من طرف شركات أوروبية، خصوصا التي تنشط في مجال صناعة السفن، إذ كانت تلجأ إلى المغرب، منذ عهد الاستكشافات البرتغالية والإسبانية، أي قبل اكتشاف القارة الأمريكية، للحصول على الحبال، واستطاعت خزينة الدولة المغربية مراكمة أموال طائلة من وراء تلك التجارة. أي أن «الحبال» المغربية كانت أيضا من أوائل الأغراض التقليدية التي غادرت المغرب بحرا نحو وجهات أخرى، وسهل تقليدها وتصنيعها خارج المغرب.