باينة للعمى
مع
بسبب الملل ورتابة الزمن بعد الإحالة على المعاش، أصبح رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران مثل ذلك العجوز المتقاعد الذي لا يفعل شيئا في بيته غير الطواف بين الغرف وإطفاء الأضواء.
وبين أسبوع وآخر يستقبل في صالون بيته زوارا من حزبه يأتون لكي ينصتوا إليه يدخل ويخرج في الكلام.
لكن بنكيران لم يصل درجة الخرف بعد، بل إن المثل المغربي «حمق وحاضي حوايجو» يكاد ينطبق عليه، لذلك فهو يستغل زيارات هؤلاء الناس إلى بيته لكي يوجه رسائله إلى من يهمهم أمره.
ولأن الإعفاء الذي نزل على بنكيران بسبب البلوكاج الذي تسبب فيه وعرقل تشكيل الحكومة لم تزل مرارته عالقة في حلقه، فقد عرج على الموضوع مرة أخرى بشكل ساخر عندما شبه ما وقع لحزبه خلال تلك الفترة بما وقع لفريق الوداد البيضاوي، قائلا: «شي مرات كايوقع لينا البلوكاج بحال للي وقع للوداد، غير حنا ما عندناش الفار كون كان كون تفضحات القضية».
والواقع أنه كون كان عندنا الفار كون ما تشدش سبعة المليون تقاعد، وكون كان الفار كون المغاربة عاقو بيكم النهار الأول وما تقولبوش فيكم هاد السنوات كاملة».
ومن خلال المرارة التي كان يتحدث بها بنكيران وادعائه الخلود والاستمرار في إزعاج خصومه حتى بعد الموت من داخل قبره، وإصراره على تذكير ضيوفه بأنه هو من فعل كذا وكذا «أنا اللي درت أنا اللي عتقت أنا اللي وقفت... إلخ إلخ»، يظهر فعلا أن الرجل مضرور، فهو يعتقد أنه اشتغل لحساب الدولة قرابة أربعين سنة من عمره وفِي الأخير خرج من المولد بسبعة ملايين في الشهر كمعاش، طارحا السؤال الغريب «هاد ربعين عام على من غادي نحسبوها؟».
وفِي نظري، وهذا رأي شخصي، فالظهور الأخير لبنكيران كانت وراءه رسالة واحدة وهي موجهة إلى الدولة عندما خاطبها بتهديد مبطن «مغاديش نديرو راسنا فالدولة إلى ما بغاتناش، ولكن عليها تحمل مسؤوليتها، بمعنى أن الدولة إذا لم تختر العدالة والتنمية في 2021 فإنها سترتكب خطأ «وديك الساعة ذنوبها على راسها»، وعليها تحمل تبعات هذا الخطأ.
ما قاله بنكيران يفترض أن الدولة «كاتشير بالحجر» وأنها لا تعرف أين توجد مصلحتها، وأن حزب العدالة والتنمية، «مول لعقل، مغاديش يدير فيها راسو» إذا ما قررت أن تقلب عليه وجهها.
لماذا يريد بنكيران أن يستبق انتخابات 2021 وأن يعطي الانطباع بأن حزبه سيمنى بهزيمة انتخابية؟
هل فعلا يتمنى بنكيران «السقوط» لحزب العدالة والتنمية في نسخته العثمانية في الانتخابات المقبلة حتى يقتنع خصومه وإخوانه بأن الحزب بدونه لا يمكن أن يربح الانتخابات، وحتى تمهد هذه الهزيمة الطريق نحو عودته للأمانة العامة وبالتالي عودته في الانتخابات المقبلة لرئاسة الحكومة؟ أم أن حزب العدالة والتنمية في نسخته العثمانية سيحافظ على رتبته وسيقود حكومة 2021؟
لنتأمل الوضع السياسي الراهن قبل الإجابة عن هذا السؤال.
بالنسبة إلى البعض داخل طبقة أصحاب المصالح فالعدالة والتنمية في الحكم هو الحزب المثالي الذي يجب أن يظل في السلطة لوقت أطول، لماذا؟ ببساطة لأنه يسمح لأصحاب المصالح هؤلاء بأن يحلبوا البقرة في وضع مريح فيما الحزب الحاكم يمسك بقرنيها معيقا أي حركة احتجاجية من طرفها ضد من يحلبها.
وعبقرية هذه المهمة التي يقوم بها العدالة والتنمية، بحماس منقطع النظير، لا تتوقف فقط على منع البقرة الحلوب من الحركة بل إنها تمتد لسن القوانين التي تبيح هذا الحلب الأليم وتشريعها والتصويت عليها بل وتحمل فاتورة الدفاع عنها أمام الرأي العام.
ولقد رأينا هذا في قوانين الداودي حول التعليم الخصوصي العالي، وأيضا في قطاع المحروقات عندما جاء الوزير وقال بدون حياء في البرلمان إن قرار تسقيف الأسعار الذي وعد بتطبيقه لِلَجْم جشع لوبي المحروقات وكفهم عن حلب جيوب المواطنين لم يكن سوى فزاعة أراد أن يخيف بها شركات المحروقات.
والسؤال الْيَوْمَ بعد اعتراف الوزير بنصبه للكاميرا الخفية للشعب هو مم كان الوزير يريد تخويف أصحاب هذه الشركات؟ وأخطر من ذلك ما هو المقابل الذي دفعوه له حتى يزول عنهم الخوف الذي تسببت لهم فيه تلك الفزاعة التي نصبها لهم الوزير؟
وبالنسبة لحلفاء العدالة والتنمية خارج المغرب فهذا الحزب هو الوحيد الذي باستطاعته أن يوفر الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتردية لإجبار الدولة على بيع ممتلكاتها والتخلي عن حصصها داخل المؤسسات العمومية الكبرى لصالح الرأسمال الخاص، لتحقيق الليبرالية المتوحشة التي يحلم الغرب بتطبيقها في المغرب.
وطيلة ثماني سنوات في السلطة ها نحن نرى كيف انتهت الدولة مجبرة على بيع جواهرها الأكثر لمعانا، آخرها بيع حصة 8 بالمائة من أسهم الدولة في اتصالات المغرب التي تبلغ 30 بالمائة لكي توفر 5 ملايير درهم، وبيع حصة الدولة من أسهم فندق المامونية ومحطة تاهدارت لإنتاج الكهرباء.
وتبيع الدولة مضطرة «ذهبها» لتوفير أكثر من 5 ملايير درهم في الميزانية العامة لخفض العجز، الذي يتوقع أن يصل 3,7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنة الجارية.
ولعل خطورة العدالة والتنمية، بالنسبة للذين يعتقدون أنه حليفهم السري الذي يصلح لهم مرحليا، هي أنه يقتات على الشرعية الدينية التي هي أيضا الشرعية التي يقوم عليها النظام، وسيأتي الْيَوْم الذي يصبح فيه هذا الحزب متخما بهذه الشرعية التي تعطي صاحبها كل الحظوظ للبقاء في السلطة، فالمغاربة حساسون جدا تجاه الخطاب الديني ولديهم استعداد فطري لوضع ثقتهم في كل من يجيد استعماله.
لذلك فالسؤال الكبير الذي يطرح نفسه على الراغبين في تحجيم هذا الحزب هو كيف يقصون الجذور التي تصله وفروعه بهذه الفرشات المائية الباطنية التي تنفجر منها عيون الخطاب الديني الرقراقة، دون أن يظهر من يقوم بهذه المهمة بمظهر عدو الله؟
ومن جهة أخرى فالمجتمع المغربي، الذي يشكل منبع الأصوات الانتخابية التي يعول عليها حزب العدالة والتنمية، يمضي نحو المزيد من المحافظة الدينية، وإن كانت مظهرية ترتكز على الزي الخارجي ومظاهر التدين السطحية دون النفاذ إلى العمق وانعكاس هذه المظاهر على السلوك، وحزب العدالة والتنمية يركب هذه الموجة بانتهازية ذكية لأنه يعول عليها لكي توصله بسلام إلى شطآن 2021.
ومن جهة أخرى، هناك مجهودات الدولة والمجتمع المدني لدفع المجتمع نحو المزيد من الانفتاح والحداثة، خصوصا الشباب، وذلك عبر تشجيع مبادرات ثقافية وفنية على شكل مهرجانات وأنشطة تشجع التسامح والتعايش والتلاقح الثقافي، لكن المشكلة مع هذا النوع من المبادرات ليس فشلها في استقطاب الشباب ولكن المشكلة هي أن هذا الشباب المستقطب لا يشارك في الحياة السياسية ولا يصوت، وبالتالي فكل مجهود الدولة والمجتمع المدني في هذا الاتجاه يبقى بلا أثر فعلي على الخريطة السياسية.
وفِي المقابل فالشباب الذي يجنده حزب العدالة والتنمية ضمن أنشطته وداخل أذرعه الموازية يعتبر من أنشط الشباب المغربي سياسيا، وخلال الانتخابات يسجل حضوره بقوة.
الوحيد الذي ليس له حقا مصلحة في بقاء العدالة والتنمية في السلطة هو الشعب، دافع الضرائب، لأنه هو من يتحمل لسعات سياط الجلد الضريبي التي تنهال بها الحكومة على جيوبه.
نعم الحزب الحاكم يتلقى الضربات تلو الضربات التي تقسم ظهره وتنال من شعبيته، وغالبا بأيادي أبنائه وقياداته، ولكن في الجهة الأخرى من الملعب ليس هناك عرض سياسي مغر أو لاعب ماهر يستطيع أن يستغل الكوفرات وضربات الجزاء التي يرتكبها الحزب الحاكم لكي يسجل الهدف.
لذلك أعتقد أن سؤال فوز العدالة والتنمية أو «سقوطه» في منعطف 2021 يجيب عن نفسه بنفسه، وكما يقول المغاربة «باينة للعمى».